الباحث القرآني

ولَمّا كانَ هَذا المَقامُ لا يَصِحُّ إلّا بِتَمامِ العِلْمِ وكَمالِ القُدْرَةِ نَصَبَ الأدِلَّةَ عَلى ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ الثّالِثَةِ بِأبْسَطِ مِمّا في الآيَةِ الثّانِيَةِ كَما كانَتِ الثّانِيَةُ أبْسَطَ مِنَ الأُولى وأجْلى تَبْصِيرًا لِلْجُهّالِ وتَذْكِيرًا لِلْعُلَماءِ؛ فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَفْصِيلًا لِتَيْنَكِ الآيَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ ولَمْ تَدْعُ حاجَةٌ إلى مِثْلِ هَذا التَّفْصِيلِ في آيَةِ آلِ عِمْرانَ، لِأنَّ مُعْظَمَ المُرادِ بِها الدَّلالَةُ عَلى شُمُولِ القُدْرَةِ [وأمّا هَذِهِ فَدَلِيلٌ عَلى التَّفَرُّدِ، فَكانَ لا بُدَّ مِن ذِكْرِ ما رُبَّما أُضِيفَ إلى أسْبابِهِ القَرِيبَةِ ] تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ وأنَّ الكُلَّ بِخَلْقِهِ وإنْ أقامَ لِذَلِكَ أسْبابًا ظاهِرِيَّةً فَقالَ تَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: واخْتِلافِهِما فَإنَّ (p-٢٨٨)خَلْقَ ما ذُكِرَ في الآيَةِ مِن نِعْمَتِهِ عَلى عِبادِهِ كَما ذُكِرَ في أوَّلِ السُّورَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَنْشَأُ عَنْهُما فَقالَ: ﴿واخْتِلافِ﴾ وهو افْتِعالٌ مِنَ الخُلْفِ، وهو ما يَقَعُ مِنَ افْتِراقٍ بَعْدَ اجْتِماعٍ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ ﴿اللَّيْلِ﴾ قَدَّمَهُ لِأنَّهُ الأصْلُ والأقْدَمُ ”وآيَة لَهُمُ الّليل والنَّهار“ وخَلْقُهُما، فالآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ، ذَكَرَ الخَلْقَ أوَّلًا دَلِيلًا عَلى حَذْفِهِ ثانِيًا والِاخْتِلافَ ثانِيًا عَلى حَذْفِهِ أوَّلًا. وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ مِن سُنَّةِ اللَّهِ أنَّ مَن دَعاهُ إلَيْهِ وإلى رُسُلِهِ بِشاهِدِ خَرْقِ عادَةٍ في خَلْقٍ أوْ أمْرٍ عاجَلَهُ بِالعُقُوبَةِ في الدُّنْيا وجَدَّدَ بَعْدَهُ أُمَّةً أُخْرى كَما قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ﴾ [الإسراء: ٥٩] وكانَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ خاتِمَةً لَيْسَ بَعْدَها أُمَّةٌ غَيْرُها أعْفاها رَبُّها مِن (p-٢٨٩)احْتِياجِها إلى خَرْقِ العَوائِدِ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «ما مِن نَبِيٍّ إلّا وقَدْ أُوتِيَ مِنَ الآياتِ ما مُثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِي آتانِي اللَّهُ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهم تابِعًا» فَكانَ أمْرُ الِاعْتِبارِ أعَمَّ إجابَةً وأسْمَحَ مُخالَفَةً وكَفاها بِما قَدْ أظْهَرَهُ [لَها ] في خَلْقِهِ بِالإبْداءِ والتَّسْخِيرِ مِنَ الشَّواهِدِ، لِيَكُونُوا عُلَماءَ مُنْقادِينَ لِرُوحِ العِلْمِ لا لِسُلْطانِ القَهْرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن مَزاياهم عَلى غَيْرِهِمْ، ولَمْ يُجِبْها إلى ما سَألَتْهُ مِن ذَلِكَ، فَلَمّا وصَلَ تَعالى بِدَعْوَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ذَكَرَ الخَلْقَ والرِّزْقَ وذَكَرَ الأرْضَ بِأنَّها فِراشٌ والسَّماءَ بِأنَّها بِناءٌ عَلى عادَةِ العَرَبِ في رُتْبَةِ حِسٍّ ظاهِرٍ أعْلاهم في هَذا الخِطابِ بِإيرادِ آياتِهِ وشَواهِدِهِ عَلى عُلُوِّ رُتْبَةِ مَعْنًى مَعْقُولٍ فَوْقَ رُتْبَةِ الأمْرِ المَحْسُوسِ [السّابِقِ فَقالَ: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ خِطابًا مَعَ مَن لَهُ نَظَرٌ عَقْلِيٌّ يَزِيدُ عَلى نَظَرِ الحِسِّ ] بِاعْتِبارِ السَّماواتِ أفْلاكُها وعَدَّدَها بِشَواهِدِ نُجُومِها حَتّى يَتَعَرَّفَ أنَّها سَماواتٌ مَعْدُودَةٌ، وذَلِكَ مِمّا يَظْهَرُ مَوْقِعُهُ عِنْدَ مَن لَهُ اعْتِبارٌ في مَخْلُوقِ السَّماواتِ؛ ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِلْأرَضِينَ شَواهِدُ مَحْسُوسَةٌ بِعَدَدِها كَما في السَّماواتِ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُها في القُرْآنِ إلّا مُفْرَدَةً وجاءَ ذِكْرُ السَّماواتِ مُعَدَّدَةً لِأهْلِ النَّظَرِ (p-٢٩٠)العَقْلِيِّ ومُفْرَدَةً لِأهْلِ النَّظَرِ الحِسِّيِّ، وأيْسَرُ مُعْتَبَرٍ ما بَيْنَ السَّماواتِ والأرْضِ في مُقابَلَةِ حَظَّيْهِما في كَوْنِ السَّماواتِ في حَدٍّ مِنَ العُلُوِّ والصَّفاءِ والنُّورانِيَّةِ والحَرَكَةِ والأرْضِ في مُقابِلِ ذَلِكَ مِنَ السُّفْلِ والكَثافَةِ والظُّلْمانِيَّةِ والسُّكُونِ، فَيَقَعُ الِاعْتِبارُ بِحُصُولِ مَشْهُودِ التَّعاوُنِ مِن مَشْهُودِ التَّقابُلِ، وذَلِكَ مِمّا يَعْجَزُ الخَلْقُ فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ مِن أمْرِ الحَقِّ، لِأنَّ الخَلْقَ إنَّما يَقَعُ لَهُمُ التَّعاوُنُ بِالمُتَناسِبِ لا بِالمُتَقابِلِ، فَمَن آلَتُهُ الماءُ مَثَلًا تَفْسُدُ عَلَيْهِ النّارُ، ومَن آلَتُهُ النّارُ يَفْسُدُ عَلَيْهِ الماءُ، والحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى أقامَ لِلْخَلْقِ والمَوْجُوداتِ والمَوالِدِ آحادًا مُجْتَمِعَةً قَدْ قَهَرَ فِيها مُتَنافِراتِ مَوْجُوداتِ الأرْكانِ ومَوْجُودُ خَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ المَشْهُودُ تُقابِلُهُما، فَما وقَعَ اجْتِماعُ النّارِ بِالماءِ عَلى تَقابُلِ ما بَيْنَ الحارِّ والبارِدِ، واجْتِماعُ الهَواءِ بِالأرْضِ عَلى تَقابُلِ ما بَيْنَ الكَثِيفِ واللَّطِيفِ، واجْتِماعُ الكُلِّ في شَيْءٍ واحِدٍ مِن جِسْمٍ واحِدٍ وعُضْوٍ (p-٢٩١)واحِدٍ حَتّى في جُزْءٍ واحِدٍ مِن أدَقِّ أجْزائِهِ إلّا بِأمْرٍ يَعْجِزُ عَنْهُ الخَلْقُ ولا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا الحَقُّ الَّذِي يَحارُ فِيهِ الخَلْقُ، فَهو إذَنْ إلَهُهُمُ الَّذِي هو إلَهٌ واحِدٌ، آثارُهُ مَوْجُودَةٌ في أنْفُسِهِمْ، وشَواهِدُهُ مُبْصَرَةٌ بِأعْيُنِهِمْ وحَقائِقُ تِلْكَ الشَّواهِدِ بادِيَةٌ لِعُقُولِهِمْ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أقْرَأهم ذِكْرَهُ الحَكِيمَ المَرْئِيَّ لِأعْيُنِهِمْ كَشْفًا لِغِطاءِ أعْيُنِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا عَنِ الَّذِينَ كانَتْ أعْيُنُهم في غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِهِ. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى خَلْقَ مُتَقابِلِ العُلُوِّ والسُّفْلِ في ذِكْرِ السَّماواتِ والأرْضِ نَظَّمَ بِها اخْتِلافَ الأُفُقَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِما ظُهُورُ مُخْتَلِفَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لِيَتَرَيَّعَ اعْتِبارُهم بَيْنَ اعْتِبارِ الأعْلى والأسْفَلِ والمَشْرِقِ والمَغْرِبِ فَيَقَعُ شَواهِدُ الإحاطَةِ بِهِمْ عَلَيْهِمْ في تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وإرْجاعِ ذَلِكَ إلَيْهِ دُونَ أنْ يَعْزِيَ ذَلِكَ إلى شَيْءٍ مِن دُونِهِ مِمّا هو داخِلٌ في حَصْرِ مَوْجُودِ هَذِهِ الإحاطَةِ مِنَ المُحِيطِ الأعْلى والمُحِيطِ الأسْفَلِ والمُحِيطِ بِالجَوانِبِ كُلِّها مِن مُلَبَّسِ الآفاقِ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ خِطابُ إجْمالٍ يُناسِبُ مَوْرِدَ السُّورَةِ الَّتِي مَوْضُوعُها إجْمالاتُ ما يَتَفَسَّرُ فِيها وفي سائِرِ القُرْآنِ مِن حَيْثُ إنَّها فُسْطاطُهُ وسَنامُهُ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما أنْشَأهُ سَيْرُ الكَواكِبِ في ساحَةِ الفُلْكِ أتْبَعَهُ سَيْرَ الفُلْكِ في باحَةِ البَحْرِ فَقالَ: ﴿والفُلْكِ﴾ وهو ما عَظُمَ مِنَ السُّفُنِ (p-٢٩٢)[فِي مُقابَلَةِ ] القارِبِ وهو المُسْتَخَفُّ مِنها. قالَ الحَرالِّيُّ: اسْتَوى واحِدُهُ وجَمْعُهُ، حَرَكاتُ الواحِدِ أوْلى في الضَّمِيرِ وحَرَكاتُ الجَمْعِ ثَوانٍ في الضَّمِيرِ مِن حَيْثُ إنَّ الواحِدَ أوَّلُ والجَمْعَ ثانٍ مُكَسَّرٌ انْتَهى. ولَمّا أرادَ هُنا الجَمْعَ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ وصَفَ بِأداةِ التَّأْنِيثِ فَقالَ ﴿الَّتِي تَجْرِي﴾ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وحَقَّقَ الأمْرَ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي البَحْرِ﴾ أسْنَدَ الجَرْيَ إلَيْها ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا جَرْيَ لَها حَقِيقَةً ولا فِعْلَ بِوَجْهِ تَرْقِيَةٍ إلى اعْتِقادِ مِثْلِ ذَلِكَ في النُّجُومِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا فِعْلَ لَها ولا تَدْبِيرَ كَما يَعْتَقِدُ بَعْضُ الفَلاسِفَةِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى جُمْلَةَ الخَلْقِ وجُمْلَةَ الِاخْتِلافِ في الوَجْهَيْنِ وصَلَ بِذَلِكَ إحاطَةَ البَحْرِ بِالأرْضِ وتَخَلُّلَ البِحارِ فِيها لِتُوَصِّلَ المَنافِعَ المَحْمُولَةَ في الفُلْكِ مِمّا يُوصَّلُ مِن مَنافِعِ المَشْرِقِ لِلْمَغْرِبِ ومَنافِعِ المَغْرِبِ لِلْمَشْرِقِ ومَنافِعِ الشَّمالِ (p-٢٩٣)لِلْجَنُوبِ وبِالعَكْسِ، فَما حَمَلَتْ جارِيَةٌ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ إلّا قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرَهُ مُبْهَمَ كَلِمَةِ ”ما“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِما يَنْفَعُ النّاسَ﴾ وذَكَرَهم بِاسْمِ النّاسِ الَّذِي هو أوَّلُ مَن يَقَعُ فِيهِ الِاجْتِماعُ والتَّعاوُنُ والتَّبَصُّرُ بِوَجْهِ ما أدْنى ذَلِكَ في مَنافِعِ الدُّنْيا الَّذِي هو شاهِدُ هَذا القَوْلِ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ نَفْعَ البَحْرِ بِالسُّفُنِ ذَكَرَ مِن نَفْعِهِ ما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وما أنْـزَلَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ التّامَّةُ ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ أيْ: جِهَتُها بِاجْتِذابِ السَّحابِ لَهُ. ولَمّا كانَ النّازِلُ مِنها عَلى أنْواعٍ وكانَ السِّياقُ لِلِاسْتِعْطافِ إلى رَفْعِ الخِلافِ ذَكَرَ ما هو سَبَبُ الحَياةِ فَقالَ: ﴿مِن ماءٍ فَأحْيا بِهِ الأرْضَ﴾ بِما يَنْبُتُ مِنها ولَمّا كانَ الإحْياءُ يَسْتَغْرِقُ الزَّمَنَ المُتَعَقِّبَ لِلْمَوْتِ نَفى الجارَّ فَقالَ: ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ بِعَدَمِهِ. (p-٢٩٤)ولَمّا ذَكَرَ حَياةَ الأرْضِ بِالماءِ أشارَ إلى أنَّ حَياةَ كُلِّ ذِي رُوحٍ بِهِ فَقالَ ﴿وبَثَّ﴾ مِنَ البَثِّ وهو تَفْرِقَةُ آحادٍ مُسْتَكْثَرَةٍ في جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ﴿فِيها﴾ بِالخَضْبِ ﴿مِن كُلِّ دابَّةٍ﴾ مِنَ الدَّبِيبِ وهو الحَرَكَةُ بِالنَّفْسِ قالَ الحَرالِّيُّ: أبْهَمَ تَعالى أمْرَ الخَلْقِ والِاخْتِلافِ والإجْراءِ فَلَمْ يُسْنِدْهُ إلى اسْمٍ مِن أسْمائِهِ يُظْهِرُهُ، وأسْنَدَ إنْزالَ الماءِ مِنَ السَّماءِ إلى اسْمِهِ العَظِيمِ الَّذِي هو اللَّهُ لِمَوْقِعِ ظُهُورِ القَهْرِ عَلى الخَلْقِ في اسْتِدْرارِ أرْزاقِ الماءِ واسْتِجْدادِهِ وقْتًا بَعْدَ وقْتٍ بِخِلافِ مُسْتَمِرِّ ما أُبْهِمَ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ الدّائِمِ عَلى حالَةٍ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ المُسْتَمِرِّ عَلى وُجْهَةٍ واحْتِيالِ إجْراءِ الفُلْكِ الماضِي عَلى حُكْمِ عادَتِهِ، فَأظْهَرَ اسْمَهُ فِيما يَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِمْ ضَرُورَتُهم إلَيْهِ في كُلِّ حَوْلٍ لِيَتَوَجَّهُوا في العِبادَةِ إلى عُلُوِّ المَحَلِّ الَّذِي مِنهُ يَنْزِلُ الماءُ فَيَنْقُلُهم بِذَلِكَ مِن عِبادَةِ ما في الأرْضِ إلى عِبادَةِ (p-٢٩٥)مَن في السَّماءِ ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ [الملك: ١٦] «وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْأمَةِ: ”أيْنَ اللَّهُ ؟ قالَتْ: في السَّماءِ، قالَ: أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ“» فَإذِنْ أدْنى الإيمانِ التَّوَجُّهُ إلى عِبادَةِ مَن في السَّماءِ تَرَقِّيًا إلى عُلُوِّ المُسْتَوى عَلى العَرْشِ إلى غَيْبِ المَوْجُودِ في أسْرارِ القُلُوبِ، فَكانَ في هَذِهِ التَّوْطِئَةِ تَوْجِيهُ الخَلْقِ إلى الإلَهِ الَّذِي يُنَزِّلُ الماءَ مِنَ السَّماءِ وهو اللَّهُ الَّذِي لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أحَدٌ سِواهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِتَوْحِيدِ الإلَهِ، ولِذَلِكَ ذَكَرَ تَعالى آيَةَ الإلَهِيَّةِ الَّتِي هي الإحْياءُ، والحَياةُ كُلِّ خُرُوجٍ عَنِ الجَمادِيَّةِ مِن حَيْثُ إنَّ مَعْنى الحَياةِ في الحَقِيقَةِ إنَّما هو تَكامُلٌ في النّاقِصِ، فالمُهْتَزُّ حَيٌّ بِالإضافَةِ إلى الجَمادِ تَرَقِّيًا إلى ما فَوْقَ ذَلِكَ مِن رُتَبِ الحَياةِ مِن نَحْوِ حَياةِ الحَيَوانِ ودَوابِّ الأرْضِ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ تَعالى الإحْياءَيْنِ بِالمَعْنى، وأظْهَرَ الِاسْمَ مَعَ الأرْضِ لِظُهُورِهِ في الحَيَوانِ، فَأظْهَرَ حَيْثُ خَفِيَ عَنِ الخَلْقِ، ولَمْ يَذْكُرْهُ حَيْثُ هو ظاهِرٌ لِلْخَلْقِ، فَنَبَّهَهم عَلى الاعْتِبارَيْنِ إنْزالُ الماءِ الَّذِي لَهم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ وبِهِ حَياةُ الحَيَوانِ ومِنهُ مَرْعاهم. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى بَثَّ ما هو السَّبَبُ لِلنَّباتِ المُسَبَّبِ عَنِ الماءِ ذَكَرَ بَثَّ ما هو سَبَبٌ لِلسَّحابِ السَّبَبِ لِلْمَطَرِ السَّبَبِ لِلْحَياةِ فَقالَ (p-٢٩٦)تَعالى: ﴿وتَصْرِيفِ الرِّياحِ﴾ أيْ: تارَةً صَبًّا وأُخْرى دَبُورًا ومَرَّةً شَمالًا وكَرَّةً جَنُوبًا، والتَّصْرِيفُ إجْراءُ المُصَرَّفِ بِمُقْتَضى الحُكْمِ عَلَيْهِ، والرِّيحُ مُتَحَرِّكُ الهَوى في الأقْطارِ ﴿والسَّحابِ﴾ وهو المُتَراكِمُ في جِهَةِ العُلُوِّ مِن جَوْهَرٍ ما بَيْنَ الماءِ والهَواءِ المُنْسَحِبِ في الجَوِّ ﴿المُسَخَّرِ﴾ أيْ: بِها، مِنَ التَّسْخِيرِ وهو إجْراءُ الشَّيْءِ عَلى مُقْتَضى غَرَضِ ما سُخِّرَ لَهُ ﴿بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ لا يَهْوِي إلى جِهَةِ السُّفْلِ مَعَ ثِقَلِهِ بِحَمْلِهِ بُخارِ الماءِ، كَما تَهْوِي بَقِيَّةُ الأجْرامِ العالِيَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَها مُمْسِكٌ مَحْسُوسٌ ولا يَنْقَشِعُ مَعَ أنَّ الطَّبْعَ يَقْتَضِي أحَدَ الثَّلاثَةِ: فالكَثِيفُ يَقْتَضِي النُّزُولَ واللَّطِيفُ يَقْتَضِي الصُّعُودَ، والمُتَوَسِّطُ يَقْتَضِي الِانْقِشاعَ ﴿لآياتٍ﴾ (p-٢٩٧)وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا ذَكَرَ تَعالى الأعْلى والأسْفَلَ ومَطْلَعَ اللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الجانِبَيْنِ وإنْزالَ الماءِ أهْواءً ذَكَرَ ما يَمْلَأُ ما بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الرِّياحِ والسُّحُبِ الَّذِي هو ما بَيْنَ حَرَكَةٍ هَوائِيَّةٍ إلى اسْتِنارَةٍ مائِيَّةٍ إلى ما يَلْزَمُ ذَلِكَ مِن بَوادِي نَيِّراتِهِ مِن نَحْوِ صَواعِقِهِ وجُمْلَةِ أحْداثِهِ، فَكانَ في هَذا الخِطابِ اكْتِفاءٌ بِأُصُولٍ مِن مَبادِئِ الِاعْتِبارِ، فَذَكَرَ السَّماءَ والأرْضَ والآفاقَ وما بَيْنَهُما مِنَ الرِّياحِ والسُّحُبِ والماءِ المُنَزَّلِ الَّذِي جُمْلَتُهُ قِوامُ الخَلْقِ في عاجِلِ دُنْياهم، لِيَجْعَلَ لَهم ذَلِكَ آيَةً عَلى عُلُوِّ أمْرٍ وراءَهُ ويَكُونَ كُلُّ وجْهٍ مِنهُ آيَةً عَلى أمْرٍ مِن أمْرِ اللَّهِ فَيَكُونَ آياتٍ، لِتَكُونَ السَّماءُ آيَةً عَلى عُلُوِّ أمْرِ اللَّهِ فَيَكُونَ أعْلى مِنَ الأعْلى، وتَكُونَ الأرْضُ آيَةً عَلى باطِنِ أمْرِ اللَّهِ فَيَكُونَ أبْطَنَ مِنَ الأبْطَنِ، ويَكُونُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ آيَةً عَلى نُورِ بُدُوِّهِ وظُلْمَةِ غَيْبَتِهِ مِمّا وراءَ أمْرِ اللَّيْلِ والنّارِ، ويَكُونُ ما أنْزَلَ مِنَ الماءِ لِإحْياءِ الأرْضِ وخَلْقِ الحَيَوانِ آيَةَ ما يَنْزِلُ مِن نُورِ عِلْمِهِ عَلى القُلُوبِ فَتَحْيا بِها حَياةً تَكُونُ حَياةُ الظّاهِرِ آيَةً عَلَيْهِ، ويَكُونُ تَصْرِيفُ الرِّياحِ والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ آياتٍ عَلى تَصْرِيفِ ما بَيْنَ أرْضِ العَبْدِ الَّذِي هو ظاهِرُهُ وسَمائِهِ الَّذِي هو باطِنُهُ، وتَسْخِيرُ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلى عُلُوِّ اللَّهِ عَلى سَمائِهِ العُلى في الحِسِّ وعَلى سَماءِ القُلُوبِ العَلِيَّةِ في الوِجْدانِ؛ فَلِجُمْلَةِ ذَلِكَ جَعَلَ تَعالى صُنُوفَ (p-٢٩٨)هَذِهِ الِاعْتِباراتِ ﴿لآياتٍ لِقَوْمٍ﴾ وهُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ في الأمْرِ حَقَّ القِيامِ، فَفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ ذَلِكَ لا يَنالُهُ مَن هو في سِنِّ النّاسِ حَتّى يَتَنامى طَبْعُهُ وفَضِيلَةُ عَقْلِهِ إلى أنْ يَكُونَ مِن قَوْمٍ يَقُومُونَ في الِاعْتِبارِ قِيامَ المُنْتَهِضِينَ في أُمُورِ الدُّنْيا، لِأنَّ العَرَبَ عَرَفَتِ اسْتِعْمالَها في القَوْمِ إنَّما هو لِأجْلِ النَّجْدَةِ والقُوَّةِ حَتّى يَقُولُونَ: قَوْمٌ أوْ نِساءٌ. تَقابُلًا بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ، وذَكَرَ تَعالى العَقْلَ الَّذِي هو نُورٌ مِن نُورِهِ هُدًى لِمَن أقامَهُ مِن حَدِّ تَرَدُّدِ حالِ النّاسِ إلى الِاسْتِضاءَةِ بِنُورِهِ في قِراءَةِ حُرُوفِ كِتابِهِ الحَكِيمِ الَّتِي كَتَبَها بِيَدِهِ وأغْنى الأُمِّيِّينَ بِقِراءَةِ ما كُتِبَ لَهم عَنْ قِراءَةِ كِتابِ ما كَتَبَهُ الخَلْقُ - انْتَهى؛ فَقالَ: ﴿يَعْقِلُونَ﴾ أيْ: فَيَعْلَمُونَ أنَّ مُصَرِّفَ (p-٢٩٩)هَذِهِ الأُمُورِ عَلى هَذِهِ الكَيْفِيّاتِ المُخْتَلِفَةِ والوُجُوهِ المُحْكَمَةِ فاعِلٌ مُخْتارٌ وهو قادِرٌ بِما يُشاهَدُ مِن إحْياءِ الأرْضِ وغَيْرِها مِمّا هو أكْبَرُ مِنهُ عَلى بَعْثِ المَوْتى وغَيْرِهِ مِمّا يُرِيدُهُ وأنَّهُ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ يُمانَعُهُ العُقَلاءُ مِنَ النّاسِ، يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِذَلِكَ فَلا يَتَّخِذُونَ أنْدادًا مِن دُونِهِ ولا يَمِيلُونَ عَنْ جَنابِهِ الأعْلى إلى سِواهُ، وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى جَمِيعِ ما نَقَلَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ الحَلِيمِيِّ أنَّهُ مِمّا يَجِبُ اعْتِقادُهُ في اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وهو خَمْسَةُ أشْياءَ: الأوَّلُ إثْباتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِتَقَعَ بِهِ مُفارَقَةُ التَّعْطِيلِ، والثّانِي وحْدانِيَّتُهُ لِتَقَعَ بِهِ البَراءَةُ عَنِ الشِّرْكِ - وهَذانِ مِن قَوْلِهِ ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] والثّالِثُ إثْباتُ أنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ ولا عَرَضٍ لِتَقَعَ بِهِ البَراءَةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وهَذا مِن قَوْلِهِ ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ [البقرة: ١٦٣] لِأنَّ مَن لا يَسُدُّ غَيْرُهُ مَسَدَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ، والرّابِعُ إثْباتُ (p-٣٠٠)أنَّ وُجُودَ كُلِّ ما سِواهُ كانَ بِإبْداعِهِ لَهُ واخْتِراعِهِ إيّاهُ لِتَقَعَ بِهِ البَراءَةُ مِن قَوْلِ مَن يَقُولُ بِالعِلَّةِ والمَعْلُولِ وهَذا مِن قَوْلِهِ ﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ والخامِسُ أنَّهُ مُدَبِّرٌ ما أبْدَعَ ومُصَرِّفُهُ عَلى ما يَشاءُ لِتَقَعَ بِهِ البَراءَةُ مِن قَوْلِ القائِلِينَ بِالطَّبائِعِ أوْ تَدْبِيرِ الكَواكِبِ أوْ تَدْبِيرِ المَلائِكَةِ وهَذا مِن قَوْلِهِ ﴿وما أنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ﴾ إلى آخِرِها قالَ البَيْهَقِيُّ: كانَ أسْماءُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى جَدَّهُ الَّتِي ورَدَ بِها الكِتابُ والسُّنَّةُ وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى تَسْمِيَتِهِ بِها مُنْقَسِمَةً بَيْنَ العَقائِدِ الخَمْسِ، فَلْيَلْحَقْ بِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ بَعْضُها، وقَدْ يَكُونُ مِنها ما يَلْتَحِقُ بِمَعْنَيَيْنِ ويَدْخُلُ في بابَيْنِ أوْ أكْثَرَ. انْتَهى. وسَبَبُ تَكْثِيرِ الأدِلَّةِ أنَّ عُقُولَ النّاسِ مُتَفاوِتَةٌ، فَجَعَلَ سُبْحانَهُ وتَعالى العالَمَ وهو المُمَكِناتُ المَوْجُودَةُ وهي جُمْلَةُ ما سِواهُ الدّالَّةُ عَلى وُجُودِهِ وفِعْلِهِ بِالِاخْتِيارِ عَلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مِن شَأْنِهِ أنْ يُدْرَكَ بِالحَواسِّ الظّاهِرَةِ ويُسَمّى في عُرْفِ أهْلِ الشَّرْعِ الشَّهادَةَ والخَلْقَ والمُلْكَ، وقِسْمٌ لا يُدْرَكُ بِالحَواسِّ الظّاهِرَةِ ويُسَمّى الغَيْبَ والأمْرَ والمَلَكُوتَ، والأوَّلُ يُدْرِكُهُ عامَّةُ النّاسِ والثّانِي يُدْرِكُهُ أُولُو الألْبابِ الَّذِينَ عُقُولُهم خالِصَةٌ عَنِ الوَهْمِ والوَساوِسِ، فاللَّهُ (p-٣٠١)سُبْحانَهُ وتَعالى بِكَمالِ عِنايَتِهِ ورَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ جَعَلَ العالَمَ بِقِسْمَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلى جُمَلٍ وتَفاصِيلَ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وطُرُقٍ مُتَكَثِّرَةٍ تَعْجَزُ القُوى البَشَرِيَّةُ عَنْ ضَبْطِها يُسْتَدَلُّ بِها عَلى وحْدانِيَّتِهِ بَعْضُها أوْضَحُ مِن بَعْضٍ لِيَشْتَرِكَ الكُلُّ في المَعْرِفَةِ، فَيَحْصُلُ لِكُلٍّ بِقَدْرِ ما هُيِّئَ لَهُ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ مِمَّنْ طُبِعَ عَلى قَلْبِهِ، فَذَلِكَ والعِياذُ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الشَّقِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب