الباحث القرآني

ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ، وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه. * * * القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه ﷺ قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ * * * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد ﷺ. * * * فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد ﷺ:"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هُو الرحمنُ الرحيم" فتلا ذلك عَلى أصحابه، وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك، ونحن نزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك:"إن في خَلق السموات والأرض"، احتجاجًا لنبيه ﷺ على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم. * ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي ﷺ بالمدينة:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار"، إلى قوله:"لآياتٍ لقوم يَعقلون"، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي ﷺ، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله ﷺ [آية] ، [[الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد.]] فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح. * ذكر من قال ذلك: ٢٣٩٩- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى قال: لما نزلت"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار"، الآية. ٢٤٠٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية. ٢٤٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ، فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنزل الله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية. ٢٤٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي ﷺ: أرِنا آية! فنزلت هذه الآية:"إنّ في خلق السموات والأرض". ٢٤٠٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي ﷺ: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنزداد يقينًا، ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي ﷺ ربه، فأوحى إليه: إنّي مُعطيهم، فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا، ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين. فقال النبي ﷺ: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنزل الله عليه:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، الآية: إن في ذَلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا. ٢٤٠٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، فقال المشركون للنبي ﷺ: [[في المطبوعة: "فقال المشركون للنبي. . . "، والصواب طرح هذه الفاء.]] غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما. * * * ومعنى"خلق" الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة. وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:"الأرض"، ولم تجمع كما جُمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته [[انظر ما سلف ١: ٤٣١-٤٣٧.]] * * * فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال:"إنّ في خلق السموات والأرض"؟ قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة: الكهف: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة الكهف: ٥١] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلق لها. * * * وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون. * * * وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره. فمعنى قوله:"إن في خلق السموات والأرض": إنّ في السموات والأرض. [[لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره. وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا، مخافة الإطالة. هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واختلاف الليل والنهار"، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس. * * * وإنما"الاختلاف" في هذا الموضع"الافتعال" من"خُلوف" كل واحد منهما الآخر، [["خلوف" مصدر"خلف"، ولم أجده في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق في قياسه.]] كما قال تعالى ذكره: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [سورة الفرقان: ٦٢] . بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل:"خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء"، ومنه قول زهير: بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم [[ديوانه: من معلقته العتيقة. والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن الرمل. "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر.]] * * * وأما"الليل". فإنه جَمْع"ليلة"، نظيرُ"التمر" الذي هو جمع"تمرة". وقد يجمع"ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم"الياء" في ذلك نظير زيادتهم إياها في"ربَاعية وثَمانية وكرَاهية". * * * وأما"النهار"، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه"النُّهُر"، قال الشاعر: لَوْلا الثّرِيدانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ [[تهذيب الألفاظ: ٤٢٢، والمخصص ٩: ٥١، واللسان (نهر) ، والأزمنة والأمكنة ١: ٧٧، ١٥٥ وغيرها. ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر". والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر: الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره. والثريد: خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين.]] ءولو قيل في جمع قليله"أنهِرَة" كان قياسًا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر. * * * و"الفلك" هو السُّفن، واحدُه وجمعه بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [سورة يس: ٤١] ، فذكَّره. * * * وقد قال في هذه الآية:"والفلك التي تجري في البحر"، وهي مُجْراة، لأنها إذا أجريت فهي"الجارية"، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. [[انظر ما سلف ١: ١٩٦.]] * * * وأما قوله:"بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما أنزل اللهُ من السماء من مَاء"، وفيما أنزلهُ الله من السماء من ماء، وهو المطر الذي يُنزله الله من السماء. وقوله:"فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها"، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و"الهاء" التي في"به" عائدة على"الماء" و"الهاء والألف" في قوله:"بعد موتها" على الأرض. و"موت الأرض"، خرابها، ودُثور عمارتها، وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله:"وبث فيها منْ كلّ دَابة"، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة. * * * ومعنى قوله:"وبَث فيها"، وفرَّقَ فيها، من قول القائل:"بث الأميرُ سراياه"، يعنى: فرَّق. و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، عائدتان على"الأرض". * * * "والدابة""الفاعلة"، من قول القائل:"دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة"."والدابة"، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتصريف الرياح"، وفي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما تقول: [[في المطبوعة: "كما قال: يعجبني. . يريد"، والصواب ما أثبت.]] "يعجبني إكرام أخيك"، تريد: إكرامُك أخَاك. * * * "وتصريف" الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ، ومرة يجعلها عَقيما، ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:- ٢٤٠٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخر" قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك، إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح، إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. [[الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور ١: ١٦٤، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري.]] * * * وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وتصريف الرياح"، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. [[هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٩٧.]] وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها، لأن"تصريفها" تصريفُ الله لها،"وتصرفها" اختلافُ هُبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله:"وتصريف الرياح"، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والسحاب المسخر"، وفي السحاب، جمع"سحابة". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [سورة الرعد: ١٢] فوحّد المسخر وذكره، كما قالوا:"هذه تَمرة وهذا تمر كثير". في جمعه،"وهذه نخلة وهذا نخل". [[في المطبوعة: "كما قال: هذه ثمرة. . . "، والصواب ما أثبته.]] وإنما قيل للسحاب"سحاب" إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه، من قول القائل:"مرّ فلان يَجر ذَيله"، يعني:"يسحبه". * * * فأما معنى قوله:"لآيات"، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. [[انظر معنى"آية" فيما سلف ١: ١٠٦، وفهارس اللغة. وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر"، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب، إن لم يكن من الطبري نفسه، كما أشرت إليه فيما مضى.]] * * * "لقوم يعقلون"، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب. * * * فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟ قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه، وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء] ، وبارئًا لا مِثْل له. [[الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا.]] وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم، غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. [[انظر ما سلف في ١: ٣٧١، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية.]] فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله:"وإلهكم إلهٌ واحد"، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] [[هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير، فاختلت واضطربت، وكأن صوابها ما يأتي: [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى: (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله]-]] وذلك هو معنى قوله:"والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" - وأنزل إليكم الغيثَ من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه، وأمرعه بعد دُثوره، فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم [[أمرع الأرض: صيرها خصبة بعد الجدب. والدثور: الدروس، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره. وكان في المطبوعة: "فينعثكم"، والصواب ما أثبت. ونعشه الله ينعشه: رفعه وتداركه برحمته.]] -، وذلك هو معنى قوله:"وَمَا أنزل الله من السماء من مَاء فأحيا به الأرض بعد موتها" - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل، ومنها جمالٌ ومراكبُ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله:"وبث فيها من كل دابة" - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودَقْه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض". فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم، وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء، ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية. * * * والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب