الباحث القرآني

﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾: رُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَ (وإلَهُكم) الآيَةَ، قالَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النّاسَ إلَهٌ واحِدٌ ؟ فَنَزَلَ: (إنَّ في خَلْقِ) . ولَمّا تَقَدَّمَ وصْفُهُ تَعالى بِالوَحْدانِيَّةِ واخْتِصاصُهُ بِالإلَهِيَّةِ، اسْتَدَلَّ بِهَذا الخَلْقِ الغَرِيبِ والبِناءِ العَجِيبِ اسْتِدْلالًا بِالأثَرِ عَلى المُؤَثِّرِ، وبِالصَّنْعَةِ عَلى الصّانِعِ، وعَرَّفَهم طَرِيقَ النَّظَرِ، وفِيمَ يَنْظُرُونَ. فَبَدَأ أوَّلًا بِذِكْرِ العالَمِ العُلْوِيِّ فَقالَ: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ﴾ . وخَلْقُها: إيجادُها واخْتِراعُها، أوْ خَلْقُها وتَرْكِيبُ أجْرامِها وائْتِلافُ أجْزائِها مِن قَوْلِهِمْ: خَلْقُ فُلانٍ حَسَنٌ: أيْ خِلْقَتُهُ وشَكْلُهُ. وقِيلَ: خَلْقٌ هُنا زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: إنَّ في السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّ الخَلْقَ إرادَةُ تَكْوِينِ الشَّيْءِ. والآياتُ في المَشاهِدِ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ، لا في الإرادَةِ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ زِيادَةَ الأسْماءِ لَمْ تَثْبُتْ في اللِّسانِ، ولِأنَّ الخَلْقَ لَيْسَ هو الإرادَةُ، بَلِ الخَلْقُ ناشِئٌ عَنِ الإرادَةِ. قالُوا: وجَمَعَ السَّماواتِ؛ لِأنَّها أجْناسٌ، كُلُّ سَماءٍ مِن جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الأُخْرى، ووَحَّدَ الأرْضَ؛ لِأنَّها كُلَّها مِن تُرابٍ. وبَدَأ بِذِكْرِ السَّماءِ لِشَرَفِها وعِظَمِ ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الأفْلاكِ والأمْلاكِ والعَرْشِ والكُرْسِيِّ وغَيْرِ ذَلِكَ، وآياتُها: ارْتِفاعُها مِن غَيْرِ عَمَدٍ تَحْتَها، ولا عَلائِقَ مِن فَوْقِها، ثُمَّ ما فِيها مِنَ النَّيِّرِينَ، الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ السَّيّارَةِ والكَواكِبِ الزّاهِرَةِ، شارِقَةٍ وغارِبَةٍ، نَيِّرَةٍ ومَمْحُوَّةٍ، وعِظَمِ أجْرامِها وارْتِفاعِها، حَتّى قالَ أرْبابُ الهَيْئَةِ: إنَّ الشَّمْسَ قَدْرُ الأرْضِ مِائَةٍ وأرْبَعٍ وسِتِّينَ مَرَّةً، وإنَّ أصْغَرَ نَجْمٍ في السَّماءِ قَدْرُ الأرْضِ سَبْعِ مَرّاتٍ، وإنَّ الأفْلاكَ عَظِيمَةُ الأجْرامِ، قَدْ ذَكَرَ أرْبابُ عِلْمِ الهَيْئَةِ مَقادِيرَها، وإنَّها سَبْعَةُ أفْلاكٍ، يَجْمَعُها الفَلَكُ المُحِيطُ. وقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ، لَيْسَ فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ» . وصَحَّ (p-٤٦٥)أيْضًا. «أنَّ البَيْتَ المَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفًا، لا يَعُودُونَ إلَيْهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ”» . وآيَةُ الأرْضِ: بَسْطُها، لا دِعامَةَ مِن تَحْتِها ولا عَلائِقَ مِن فَوْقِها، وأنْهارُها ومِياهُها وجِبالُها ورَواسِيها وشَجَرُها وسَهْلُها ووَعْرُها ومَعادِنُها، واخْتِصاصُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنها بِما هُيِّئَ لَهُ، ومَنافِعُ نَباتِها ومَضارُّها. وذَكَرَ أرْبابُ الهَيْئَةِ أنَّ الأرْضَ نُقْطَةٌ في وسَطِ الدّائِرَةِ لَيْسَ لَها جِهَةٌ، وأنَّ البِحارَ مُحِيطَةٌ بِها، والهَواءَ مُحِيطٌ بِالماءِ، والنّارَ مُحِيطَةٌ بِالهَواءِ، والأفْلاكَ وراءَ ذَلِكَ. وقَدْ ذَكَرَ القاضِي أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الباقِلّانِيُّ في كِتابِهِ المَعْرُوفِ (بِالدَّقائِقِ) خِلافًا عَنِ النّاسِ المُتَقَدِّمِينَ: هَلِ الأرْضُ واقِفَةٌ أمْ مُتَحَرِّكَةٌ ؟ وفي كُلِّ قَوْلٍ مِن هَذَيْنِ مَذاهِبُ كَثِيرَةٌ في السَّبَبِ المُوجِبِ لِوُقُوفِها، أوْ لِتَحَرُّكِها. وكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلى جِرْمِ السَّماواتِ ولَوْنِها وعِظَمِها وأبْراجِها، وذَكَرَ مَذاهِبَ لِلْمُنَجِّمِينَ والمانَوِيَّةِ، وتَخالِيطَ كَثِيرَةً. والَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أهْلُ الهَيْئَةِ هو شَيْءٌ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ، ولَيْسَ في الشَّرْعِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. والمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ لا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ خَلْقِها إلّا اللَّهُ تَعالى، ومَن أطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى شَيْءٍ مِنها بِالوَحْيِ ﴿أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢]، ﴿وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: ٢٨] . ﴿واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾: اخْتِلافُهُما بِإقْبالِ هَذا وإدْبارِ هَذا، أوِ اخْتِلافُهُما بِالأوْصافِ في النُّورِ والظُّلْمَةِ، والطُّولِ والقِصَرِ، أوْ تَساوِيهِما، قالَهُ ابْنُ كَيْسانَ. وقُدِّمَ اللَّيْلُ عَلى النَّهارِ لِسَبْقِهِ في الخَلْقِ، قالَ تَعالى: ﴿وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنهُ النَّهارَ﴾ [يس: ٣٧] . وقالَ قَوْمٌ: إنَّ النُّورَ سابِقٌ عَلى الظُّلْمَةِ، وعَلى هَذا الخِلافِ انْبَنى الخِلافُ في لَيْلَةِ اليَوْمِ. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ: تَكُونُ لَيْلَةُ اليَوْمِ هي الَّتِي قَبْلَهُ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ؛ وعَلى القَوْلِ الثّانِي: لَيْلَةُ اليَوْمِ هي اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلى اخْتِلافِهِمْ في النَّهارِ اخْتِلافُهم في مَسْألَةِ: لَوْ حَلَفَ لا يُكَلِّمُ زَيْدًا نَهارًا. ﴿والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ﴾: أوَّلُ مَن عَمِلَ الفُلْكَ نُوحٌ - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ - وقالَ لَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ضَعْها عَلى جُؤْجُؤِ الطّائِرِ. فالسَّفِينَةُ طائِرٌ مَقْلُوبٌ، والماءُ في أسْفَلِها نَظِيرُ الهَواءِ في أعْلاها، قالَهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ. وآيَتُها تَسْخِيرُ اللَّهِ إيّاها حَتّى تَجْرِيَ عَلى وجْهِ الماءِ، ووُقُوفُها فَوْقَهُ مَعَ ثِقَلِها وتَبْلِيغِها المَقاصِدَ. ولَوْ رَمَيْتَ في البَحْرِ حَصاةً لَغَرِقَتْ. ووَصَفَها بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الجَرَيانِ؛ لِأنَّها آيَتُها العُظْمى، وجَعَلَ الصِّفَةَ مَوْصُولًا، صِلَتُهُ تَجْرِي: فِعْلٌ مُضارِعٌ يَدُلُّ عَلى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الوَصْفِ لَها في كُلِّ وقْتٍ يُرادُ مِنها. وذَكَرَ مَكانَ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إذْ مِنَ المَعْلُومِ أنَّها لا تَجْرِي إلّا في البَحْرِ. والألِفُ واللّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وأسْنَدَ الجَرَيانَ لِلْفُلْكِ عَلى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وكانَ لَها مِن ذاتِها صِفَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَرْيِ. ﴿بِما يَنْفَعُ النّاسَ﴾: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ“ ما ”مَوْصُولَةً، أيْ تَجْرِي مَصْحُوبَةً بِالأعْيانِ الَّتِي تَنْفَعُ النّاسَ مِن أنْواعِ المَتاجِرِ والبَضائِعِ المَنقُولَةِ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، فَتَكُونُ الباءُ لِلْحالِ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ“ ما ”مَصْدَرِيَّةً، أيْ يَنْتَفِعُ النّاسُ في تِجاراتِهِمْ وأسْفارِهِمْ لِلْغَزْوِ والحَجِّ وغَيْرِهِما، فَتَكُونُ الباءُ لِلسَّبَبِ. واقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ النَّفْعِ، وإنْ كانَتْ تَجْرِي بِما يَضُرُّ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَها في مَعْرِضِ الِامْتِنانِ. ﴿وما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ﴾: أيْ مِن جِهَةِ السَّماءِ.“ مِنَ ”الأوْلى لِابْتِداءِ الغايَةِ تَتَعَلَّقُ بِأنْزَلَ، وفي أنْزَلَ ضَمِيرُ نَصْبٍ عائِدٌ عَلى ما، أيْ والَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ. و“ مِنَ ”الثّانِيَةُ مَعَ ما بَعْدَها بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (مِنَ السَّماءِ)، بَدَلُ اشْتِمالٍ، فَهو عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ، أوْ لِبَيانِ الجِنْسِ عِنْدَ مَن يُثْبِتُ لَها هَذا المَعْنى، أوْ لِلتَّبْعِيضِ، وتَتَعَلَّقُ بِأنْزَلَ. ولا يُقالُ: كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِأنْزَلَ“ مِنَ ”الأُولى والثّانِيَةُ؛ لِأنَّ مَعْنَيَيْهِما مُخْتَلِفانِ. ﴿فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾: عَطْفٌ عَلى صِلَةِ ما، - الَّذِي هو أنْزَلَ - بِالفاءِ المُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ وسُرْعَةِ النَّباتِ، وبِهِ عائِدٌ عَلى المَوْصُولِ. وكَنّى بِالإحْياءِ عَنْ ظُهُورِ ما أوْدَعَ فِيها مِنَ النَّباتِ، وبِالمَوْتِ عَنِ اسْتِقْرارِ ذَلِكَ فِيها وعَدَمِ ظُهُورِهِ. وهُما كِنايَتانِ غَرِيبَتانِ؛ لِأنَّ ما بَرَزَ مِنها بِالمَطَرِ جَعَلَ تَعالى فِيهِ القُوَّةَ الغاذِيَةَ والنّامِيَةَ والمُحَرِّكَةَ، وما لَمْ يَظْهَرْ فَهو كامِنٌ فِيها، كَأنَّهُ (p-٤٦٦)دَفِينٌ فِيها، ولَهِيَ لَهُ قَبْرٌ. ﴿وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ﴾: إنْ قُدِّرَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلى ما قَبْلَها مِنَ الصِّلَتَيْنِ، احْتاجَتْ إلى ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى المَوْصُولِ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ في“ فِيها ”عائِدٌ عَلى الأرْضِ وتَقْدِيرُهُ: وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ. لَكِنَّ حَذْفَ هَذا الضَّمِيرِ، إذا كانَ مَجْرُورًا بِالحَرْفِ، لَهُ شَرْطٌ، وهو أنْ يَدْخُلَ عَلى المَوْصُولِ، أوِ المَوْصُوفِ بِالمَوْصُولِ، أوِ المُضافِ إلى المَوْصُولِ حَرْفُ جَرٍّ، مِثْلُ ما دَخَلَ عَلى الضَّمِيرِ لَفْظًا ومَعْنًى، وأنْ يَتَّحِدَ ما تَعَلَّقَ بِهِ الحَرْفانِ لَفْظًا ومَعْنًى، وأنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ المَجْرُورُ العائِدُ عَلى المَوْصُولِ وجارِّهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وأنْ لا يَكُونَ مَحْصُورًا، ولا في مَعْنى المَحْصُورِ، وأنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا لِلرَّبْطِ. وهَذا الشَّرْطُ مَفْقُودٌ هُنا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ) قَوْلَهُ: (وبَثَّ فِيها)، عَطْفٌ عَلى أنْزَلَ أمْ أحْيا ؟ (قُلْتُ): الظّاهِرُ أنَّهُ عَطْفٌ عَلى أنْزَلَ داخِلٌ تَحْتِ حُكْمِ الصِّلَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (فَأحْيا بِهِ الأرْضَ) عَطْفٌ عَلى أنْزَلَ، فاتَّصَلَ بِهِ وصارا جَمِيعًا كالشَّيْءِ الواحِدِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: وما أنْزَلَ في الأرْضِ مِن ماءٍ وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ. ويَجُوزُ عَطْفُهُ عَلى أحْيا عَلى مَعْنى فَأحْيا بِالمَطَرِ الأرْضَ وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ؛ لِأنَّهم يَنْمُونَ بِالخِصْبِ ويَعِيشُونَ بِالحَياةِ. انْتَهى كَلامُهُ، ولا طائِلَ تَحْتَهُ. وكَيْفَما قَدَّرْتَ مِن تَقْدِيرَيْهِ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ في قَوْلِهِ: ﴿وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ﴾ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى المَوْصُولِ، سَواءٌ أعَطَفْتَهُ عَلى أنْزَلَ، أوْ عَلى فَأحْيا؛ لِأنَّ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ في صِلَةِ المَوْصُولِ. والَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلى الآيَةِ، أنَّها عَلى حَذْفِ مَوْصُولٍ لِفَهْمِ المَعْنى مَعْطُوفٍ عَلى ما مِن قَوْلِهِ: (وما أنْزَلَ)، التَّقْدِيرُ: وما بَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أعْظَمَ في الآياتِ؛ لِأنَّ ما بَثَّ تَعالى في الأرْضِ مِن كُلِّ دابَّةٍ فِيهِ آياتٌ عَظِيمَةٌ في أشْكالِها وصِفاتِها وأحْوالِها وانْتِقالاتِها ومَضارِّها ومَنافِعِها وعَجائِبِها، وما أُودِعَ في كُلِّ شَكْلٍ مِنها مِنَ الأسْرارِ العَجِيبَةِ ولَطائِفِ الصَّنْعَةِ الغَرِيبَةِ، وذَلِكَ مِنِ الفِيلِ إلى الذَّرَّةِ، وما أوْجَدَ تَعالى في البَحْرِ مِن عَجائِبِ المَخْلُوقاتِ المُبايِنَةِ لِأشْكالِ البَرِّ. فَمِثْلُ هَذا يَنْبَغِي إفْرادُهُ بِالذِّكْرِ، لا أنَّهُ يُجْعَلَ مَنسُوقًا في ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ وحَذْفُ المَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، غَيْرَ أنَّ“ ألْ ”عِنْدَ مَن يَذْهَبُ إلى اسْمِيَّتِها لِفَهْمِ المَعْنى جائِزٌ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ، وإنْ كانَ البَصْرِيُّونَ لا يَقِيسُونَهُ، فَقَدْ قاسَهُ غَيْرُهم، قالَ بَعْضُ طَيِّءٍ: ؎ما الَّذِي دَأْبُهُ احْتِياطٌ وحَزْمٌ وهَواهُ أطاعَ مُسْتَوَيانِ أيْ: والَّذِي أطاعَ، وقالَ حَسّانٌ: ؎أمَن يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنكم ∗∗∗ ويَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَواءُ أيْ: ومَن يَمْدَحُهُ، وقالَ آخَرُ: ؎فَواللَّهِ ما نِلْتُمْ وما نِيلَ مِنكُمُ ∗∗∗ بِمُعْتَدِلٍ وُفِّقَ ولا مُتَقارِبِ يُرِيدُ: ما الَّذِي نِلْتُمْ وما نِيلَ مِنكم، وقَدْ حُمِلَ عَلى حَذْفِ المَوْصُولِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦]، أيْ والَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكم لِيُطابِقَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: ١٣٦] . وقَدْ يَتَمَشّى التَّقْدِيرُ الأوَّلُ عَلى ارْتِكابِ حَذْفِ الضَّمِيرِ لِفَهْمِ المَعْنى، وإنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوازِ حَذْفِهِ، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في أشْعارِهِمْ، قالَ: ؎وإنَّ لِسانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفى بِها ∗∗∗ وهو عَلى مَن صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ يُرِيدُ: مَن صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وقالَ: ؎لَعَلَّ الَّذِي أصْعَدَتْنِي أنْ تَرُدَّنِي ∗∗∗ إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يُقَدِّرِ الخَيْرَ قادِرُ (p-٤٦٧)يُرِيدُ: أصْعَدَتْنِي بِهِ. فَعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ (مِن كُلِّ دابَّةٍ) في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، و“ مِن ”تَبْعِيضِيَّةٌ. وعَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ زائِدَةً، و“ كُلِّ دابَّةٍ ”هو نَفْسُ المَفْعُولِ، وعَلى حَذْفِ المَوْصُولِ يَكُونُ مَفْعُولُ“ بَثَّ ”مَحْذُوفًا، أيْ: وبَثَّهُ، وتَكُونُ“ مِن ”حالِيَّةً، أيْ: كائِنًا مِن كُلِّ دابَّةٍ، فَهي تَبْعِيضِيَّةٌ، أوْ لِبَيانِ الجِنْسِ عِنْدَ مَن يَرى ذَلِكَ. (وتَصْرِيفِ الرِّياحِ) في هُبُوبِها قُبُولًا ودُبُورًا وجَنُوبًا وشَمالًا، وفي أوْصافِها حارَّةً وبارِدَةً ولَيِّنَةً وعاصِفَةً وعَقِيمًا ولِواقِحَ ونَكْباءَ، وهي الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ. وقِيلَ: تارَةً بِالرَّحْمَةِ، وتارَةً بِالعَذابِ. وقِيلَ: تَصْرِيفُها أنْ تَأْتِيَ السُّفُنَ الكِبارَ بِقَدْرِ ما يَحْمِلُها، والصِّغارَ كَذَلِكَ، ويَصْرِفُ عَنْها ما يَضُرُّ بِها، ولا اعْتِبارَ بِكِبَرِ القُلُوعِ ولا صِغَرِها، فَإنَّها لَوْ جاءَتْ جَسَدًا واحِدًا لَصَدَمَتِ القُلُوعَ وأغْرَقَتْ. وقَدْ تَكَلَّمُوا في أنْواعِ الرِّيحِ واشْتِقاقِ أسْمائِها وفي طَبائِعِها، وفِيما جاءَ فِيها مِنَ الآثارِ، وفِيما قِيلَ فِيها مِنَ الشِّعْرِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِن غَرَضِنا. والرِّيحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفّافٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، ومِن آياتِهِ ما جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ القُوَّةِ الَّتِي تَقْلَعُ الأشْجارَ وتَعْفِي الآثارَ وتَهْدِمُ الدِّيارَ وتُهْلِكُ الكُفّارَ، وتَرْبِيَةِ الزَّرْعِ وتَنْمِيَتِهِ واشْتِدادِهِ بِها، وسُوقِ السَّحابِ إلى البَلَدِ الماحِلِ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في إفْرادِ الرِّيحِ وجَمْعِهِ في أحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا. هَذا، وفي الشَّرِيعَةِ وفي الأعْرافِ: (يُرْسِلُ الرِّياحَ)، و﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ [إبراهيم: ١٨]، و﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢]، و﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ [الكهف: ٤٥]، وفي الفُرْقانِ: ﴿أرْسَلَ الرِّياحَ﴾ [الفرقان: ٤٨]، ﴿ومَن يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ [النمل: ٦٣]، وفي الرُّومِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ [الروم: ٤٨]، وفي فاطِرٍ: ﴿أرْسَلَ الرِّياحَ﴾ [فاطر: ٩]، وفي الشُّورى: ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ [الشورى: ٣٣] . فَأفْرَدَ حَمْزَةُ إلّا في الفُرْقانِ، والكِسائِيُّ إلّا في الحِجْرِ، وجَمْعَ نافِعٌ الجَمِيعَ، والعَرَبِيّانِ إَلّا في إبْراهِيمَ والشُّورى، وابْنُ كَثِيرٍ في البَقَرَةِ والحِجْرِ والكَهْفِ والشَّرِيعَةِ فَقَطْ. وفي مُصْحَفِ حَفْصَةَ هُنا“ وتَصْرِيفِ الأرْواحِ ”. ولَمْ يَخْتَلِفُوا في تَوْحِيدِ ما لَيْسَ فِيهِ ألِفٌ ولامٌ. وجاءَتْ في القُرْآنِ مَجْمُوعَةً مَعَ الرَّحْمَةِ مُفْرَدَةً مَعَ العَذابِ، إلّا في يُونُسَ في قَوْلِهِ: ﴿وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] . وفي الحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْها رِياحًا ولا تَجْعَلْها رِيحًا» . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:؛ لِأنَّ رِيحَ العَذابِ شَدِيدَةٌ مُلْتَئِمَةُ الأجْزاءِ كَأنَّها جِسْمٌ واحِدٌ، ورِيحُ الرَّحْمَةِ لَيِّنَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَلِذَلِكَ هي رِياحٌ، وهو مَعْنى يَنْشُرُ، وأُفْرِدَتْ مَعَ الفُلْكِ؛ لِأنَّ رِيحَ اجْراءِ السُّفُنِ إنَّما هي واحِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ. ثُمَّ وُصِفَتْ بِالطَّيِّبِ فَزالَ الِاشْتِراكُ بَيْنَها وبَيْنَ رِيحِ العَذابِ، انْتَهى. ومَن قَرَأ بِالتَّوْحِيدِ، فَإنَّهُ يُرِيدُ الجِنْسَ، فَهو كَقِراءَةِ الجَمْعِ. والرِّياحُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَيَكُونُ“ تَصْرِيفِ ”مَصْدَرًا مُضافًا لِلْفاعِلِ، أيْ“ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ السَّحابَ أوْ غَيْرَهُ مِمّا لَها فِيهِ تَأْثِيرٌ بِإذْنِ اللَّهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَيَكُونُ المَصْدَرُ في المَعْنى مُضافًا إلى الفاعِلِ، وفي اللَّفْظِ مُضافًا إلى المَفْعُولِ، أيْ وتَصْرِيفِ اللَّهِ الرِّياحَ. ﴿والسَّحابِ المُسَخَّرِ﴾، تَسْخِيرُهُ: بَعْثُهُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ. وقِيلَ: تَسْخِيرُهُ: ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ بِلا عَلاقَةٍ تُمْسِكُهُ. ووُصِفَ السَّحابُ هُنا بِالمُسَخَّرِ، وهو مُفْرَدٌ؛ لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وفِيهِ لُغَتانِ: التَّذْكِيرُ: كَهَذا وكَقَوْلِهِ: ﴿أعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠]، والتَّأْنِيثُ عَلى مَعْنى تَأْنِيثِ الجَمْعِ، فَتارَةً يُوصَفُ بِما يُوصَفُ بِهِ الواحِدَةُ المُؤَنَّثَةُ، وتارَةً يُوصَفُ بِما يُوصَفُ بِهِ الجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا﴾ [الأعراف: ٥٧] . قالَ كَعْبُ الأحْبارِ: السَّحابُ غِرْبالُ المَطَرِ، ولَوْلا السَّحابُ لَأفْسَدَ المَطَرُ ما يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الأرْضِ. فَقِيلَ: السَّحابُ يَأْخُذُ المَطَرَ مِنَ السَّماءِ، وقِيلَ: يَغْتَرِفُهُ مِن بِحارِ الأرْضِ، وقِيلَ: يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ، ولِلْفَلاسِفَةِ فِيهِ أقْوالٌ. وجُعِلَ مُسَخَّرًا بِاعْتِبارِ إمْساكِهِ الماءَ، إذِ الماءُ ثَقِيلٌ، فَبَقاؤُهُ في جَوِّ الهَواءِ هو عَلى خِلافِ ما طُبِعَ عَلَيْهِ، وتَقْدِيرُهُ بِالمِقْدارِ المَعْلُومِ الَّذِي فِيهِ المَصْلَحَةُ، يَأْتِي بِهِ اللَّهُ في وقْتِ الحاجَةِ، ويَرُدُّهُ عِنْدَ زَوالِ الحاجَةِ، أوْ (p-٤٦٨)سُوقُهُ بِواسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيحِ إلى حَيْثُ أرادَ اللَّهُ تَعالى. وفي كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأوْجُهِ اسْتِدْلالٌ عَلى الوَحْدانِيَّةِ. ﴿بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾: انْتِصابُ ”بَيْنَ“ عَلى الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ المُسَخَّرُ، أيْ سُخِّرَ بَيْنَ كَذا وكَذا، أوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كائِنًا بَيْنَ، فَيَكُونُ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في المُسَخَّرِ. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): دَخَلَتِ اللّامُ عَلى اسْمِ إنَّ لِحَيْلُولَةِ الخَبَرِ بَيْنَهُ وبَيْنَها، إذْ لَوْ كانَ يَلِيها، ما جازَ دُخُولُها، وهي لامُ التَّوْكِيدِ، فَصارَ في الجُمْلَةِ حَرْفا تَأْكِيدٍ: إنَّ واللّامُ. ولِقَوْمٍ: في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أيْ كائِنَةً لِقَوْمٍ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَوْمٍ؛ لِأنَّهُ لا يَتَفَكَّرُ في هَذِهِ الآياتِ العَظِيمَةِ إلّا مَن كانَ عاقِلًا، فَإنَّهُ يُشاهَدُ مِن هَذِهِ الآيَةِ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، وانْفِرادِهِ بِالإلَهِيَّةِ، وعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وباهِرِ حِكْمَتِهِ. وقَدْ أُثِرَ في الأثَرِ: ويْلٌ لِمَن قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ فَمَجَّ بِها، أيْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيها ولَمْ يَعْتَبِرْ بِها. (ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها)، هو أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ واحِدٌ، وأنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالإلَهِيَّةِ، لَمْ يَكْتَفِ بِالإخْبارِ حَتّى أوْرَدَ دَلائِلَ الِاعْتِبارِ. ثُمَّ مَعَ كَوْنِها دَلائِلَ، بَلْ هي نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ، فَكانَتْ أوْضَحَ لِمَن يَتَأمَّلُ وأبْهَرَ لِمَن يَعْقِلُ، إذِ التَّنْبِيهُ عَلى ما فِيهِ النَّفْعُ باعِثٌ عَلى الفِكْرِ. لَكِنْ لا تَنْفَعُ هَذِهِ الدَّلائِلُ إلّا عِنْدَ مَن كانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ بِالعَقْلِ المَوْهُوبِ مِن عِنْدِ المَلِكِ الوَهّابِ، وهَذِهِ الأشْياءُ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ ثَمانِيَةٌ، وإنْ جَعَلْنا: ”وبَثَّ فِيها“، عَلى حَذْفِ مَوْصُولٍ، كَما قَدَّرْناهُ في أحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ، كانَتْ تِسْعَةً، وهي بِاعْتِبارٍ تَصِيرُ إلى أرْبَعَةٍ: خَلْقٌ، واخْتِلافٌ، وإنْزالُ ماءٍ، وتَصْرِيفٌ. فَبَدَأ أوَّلًا بِالخَلْقِ؛ لِأنَّهُ الآيَةُ العُظْمى والدَّلالَةُ الكُبْرى عَلى الإلَهِيَّةِ، إذْ ذَلِكَ إبْرازٌ واخْتِراعٌ لِمَوْجُودٍ مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ. ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] ﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ [النحل: ٢٠] . ودَلِيلُ الخَلْقِ عَلى جَمِيعِ الصِّفاتِ الذّاتِيَّةِ، مِن واجِبِيَّةِ الوُجُودِ والوَحْدَةِ والحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ والإرادَةِ، وقَدَّمَ السَّماواتِ عَلى الأرْضِ لِعَظَمِ خَلْقِها، أوْ لِسَبْقِهِ عَلى خَلْقِ الأرْضِ عِنْدَ مَن يَرى ذَلِكَ. ثُمَّ أعْقَبَ ذِكْرَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ بِاخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وهو أمْرٌ ناشِئٌ عَنْ بَعْضِ الجَواهِرِ العُلْوِيَّةِ النَّيِّرَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها السَّماواتُ. ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الفُلْكِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى اللَّيْلِ والنَّهارِ، كَأنَّهُ قالَ ”واخْتِلافِ الفُلْكِ“، أيْ ذَهابِها مَرَّةً كَذا ومَرَّةً كَذا عَلى حَسَبِ ما تُحَرِّكُها المَقادِيرُ الإلَهِيَّةُ، وهو أمْرٌ ناشِئٌ عَنْ بَعْضِ الأجْرامِ السُّفْلِيَّةِ الجامِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها الأرْضُ. ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ اشْتَرَكَ فِيها العالَمُ العُلْوِيُّ والعالَمُ السُّفْلِيُّ، وهو إنْزالُ الماءِ مِنَ السَّماءِ، ونَشْرُ ما كانَ دَفِينًا في الأرْضِ بِالأحْياءِ. وجاءَ هَذا المُشْتَرَكُ مُقَدَّمًا فِيهِ السَّبَبُ عَلى المُسَبَّبِ، فَلِذَلِكَ أعْقَبَ بِالفاءِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى السَّبَبِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِما لا يَتِمُّ ما تَقَدَّمَهُ مِن ذِكْرِ جَرَيانِ الفُلْكِ وإنْزالِ الماءِ وإحْياءِ المَواتِ إلّا بِهِ، وهو تَصْرِيفُ الرِّياحِ والسَّحابِ. وقَدَّمَ الرِّياحَ عَلى السَّحابِ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الفُلْكِ، وتَأخَّرَ السَّحابُ لِتَأخُّرِ إنْزالِ الماءِ في الذِّكْرِ عَلى جَرَيانِ الفُلْكِ. فانْظُرْ إلى هَذا التَّرْتِيبِ الغَرِيبِ في الذِّكْرِ، حَيْثُ بَدَأ أوَّلًا بِاخْتِراعِ السَّماواتِ والأرْضِ، ثُمَّ ثَنّى بِذِكْرِ ما نَشَأ عَنِ العالَمِ العُلْوِيِّ، ثُمَّ أتى ثالِثًا بِذِكْرِ ما نَشَأ عَنِ العالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ أتى بِالمُشْتَرِكِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِما لا تَتِمُّ النِّعْمَةُ لِلْإنْسانِ إلّا بِهِ، وهو التَّصْرِيفُ المَشْرُوحُ. وهَذِهِ الآياتُ ذَكَرَها تَعالى عَلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مُدْرَكٌ بِالبَصائِرِ، وقِسْمٌ مُدْرَكٌ بِالأبْصارِ. فَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ مُدْرَكٌ بِالعُقُولِ، وما بَعْدَ ذَلِكَ مُشاهَدٌ لِلْأبْصارِ. والمَشاهَدُ بِالأبْصارِ انْتِسابُهُ إلى واجِبِ الوُجُودِ، مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهِ بِالعُقُولِ، فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى: (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، (p-٤٦٩)ولَمْ يَقُلْ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُبْصِرُونَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ العَقْلِ؛ إذْ مَآلُ ما يُشاهَدُ بِالبَصَرِ راجِعٌ بِالعَقْلِ نِسْبَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب