الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أي: مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك [["تفسير الثعلبي" 1/ 1185، "تفسير البغوي" 1/ 150.]]. قال ابن الأنباري: يقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أحدهما: أنه المستسلم لأمر الله. والثاني: هو المخلص لله العبادة، من قولهم: سَلَّمَ لفلان الشيءَ، أي: خَلَّصَه له، وسَلِمَ له الشيءُ، أي: خَلَصَ [[نقله في "تهذيب اللغة" 2/ 1745، وعنه في "لسان العرب" 4/ 2080.]]، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر: 29]، معناه: خالصًا لرجل، وأنشد على أنَّ المسلم بمعنى المستسلم لأمر الله قولَ الشاعر: فقلنا أسْلِمُوا إنّا أخوكم [[في (ش): (باحركم).]] ... فقد بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ [[البيت لعباس بن مرداس، في "ديوانه" ص 52، "لسان العرب" 1/ 41 "المعجم المفصل" 3/ 326.]] أراد: استسلموا. قالوا: فالمسلم الذي يعتقد الاستسلامَ لله تعالى والإيمانَ به محمودٌ، والمسلمُ الذي يستسلم خوفًا من القتل مذمومٌ، من ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14] [[في (م)، (ش): (لن).]]. معناه: استسلمنا من خوف القتل [[ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1745، "لسان العرب" 4/ 2080.]]. وقد ذكرنا معنى الإسلام فيما تقدم. قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ الأمَّةُ في اللغة تكون على وجوه، قال أبو العباس: الأمَّةُ تأويلها: الجماعة من كل شيء، من ذلك: أمة محمد ﷺ، ويقال: إنما فلان أمةٌ وَحْدَه، أي يَسُدُّ مَسَدَّ جَمَاعةٍ، ومنه يقال: فلان حسن الأُمَّة، إذا مُدِحَ بالتمامِ واستجماعِ الخُلُقِ على الاستواء [["تهذيب اللغة" 1/ 202 - 206، "لسان العرب" 1/ 135 (أمم).]]. قال الأعشى [[هو أبو بصير ميمون بن قيس، تقدمت ترجمته.]]: وإنَّ معاويةَ الأكْرَمِين ... حسَانُ الوُجُوهِ طِوالُ الأُمَمْ [[البيت للأعشى في "ديوانه" ص 199، "تهذيب اللغة" 1/ 204، "لسان العرب" 1/ 135، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 282، "الأمالي" لأبي علي القالي 1/ 25، "المعجم المفصل" 7/ 29.]] ومنه سميت الأمّ؛ لأنها المحتويةُ على الولد، ومنها يخرج، ومن ذلك قوله: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: 7] أَيْ: مجمع الحلال والحرام. والإمام مأخوذ من هذا؛ لأن عليه تجتمع [[في (أ): (يجتمع)، وفي (م): (مجتمع).]] الجماعة [["لسان العرب" 1/ 133 - 134 (أمم).]]، ومنه: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: 45]، أي: بعد حين من الدهر [["المفردات" للراغب الأصفهاني ص 33.]]، وذلك لجماعة الشهور والأعوام، وأم النجوم: المجرة، لأنها مجتمع النجوم، وكل شيء انضمت إليه أشياء فهو أمّ لها [["لسان العرب" 1/ 137 (أم).]]، وأمُّ القوم: رئيسُهم الذي يجتمع إليه أَمْرُهم [["لسان العرب" 1/ 133 (أمم).]]. قال الشنفرى [[هو ثابت بن أوس الأزدي، شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته [البقرة: 30].]]: وأمَّ عيال قد شَهِدتُ تَقُوتُهم ... إذا أحْتَرتْهُمْ [[في (ش): (أخترتهم)، وفي (أ) لعلها كذلك.]] أحْتَرَتْ وأقَلَّتِ [[البيت للشنفرى في "ديوانه" ص 35، "تهذيب اللغة" 1/ 203 وروايته: إذا حَتَرَتْهم أتْفَهَتْ وأقَلَّتِ، "لسان العرب" 2/ 769 (مادة: حتر)، 1/ 137 (مادة: أمم)، "المعجم المفصل" 1/ 552.]] يعني: تأبط شرّا، والأَمَم: القريب المجتمع، وأمَّه: إذا قَصَدَ الاجتماع معه [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 202 - 203، "لسان العرب" 1/ 135 (أمم).]]. وقال أبو إسحاق: الأمة في اللغة أشياء، الأمة: القرن من الناس، يقال: قد مضت أمم أي: قرون، والأمة: الدِّين، ومنه قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: 213]، أي: كانوا على دين واحد، والأمة: القامة وأنشد: .......... طوال الأمم [[هذه قطعة من البيت المذكور في الصفحة السابقة.]] والأمة: الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [[بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 183، وزاد من المعاني: الأمة: بمعنى النعمة والخير.]]، [النحل: 120]. قال: وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممت الشيء إذا قصدته، فمعنى الأمة في القرن من الناس: الذين يقصدهم مقصدًا واحدًا، ومعنى الأمة في الدين: إنما هو الشيء الذي يقصده الخلق ويطلبونه؛ ولذلك سميت النعمة أمة، ومعنى الأمة في الرجل: الذي لا نظير له: أن قصده منفرد من قصد سائر الناس [[بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 283، ونقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 204 (أم).]]. قال ومعنى الأمة: القامة، لأنها مقصد الجسد، فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت، أي: قصدت [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 284.]]. قال الأزهري: والأمة فيما فسّروا يقع على الكفار والمؤمنين [["تهذيب اللغة" 1/ 204.]]، وقال الليث: كلُّ قوم نُسبوا إلى نبيٍّ فأضيفوا إليه فهم أمته، وقيل: أمة محمد ﷺ: كل من أرسل إليه [[ساقط من (ش).]] ممن آمن به أو كفر، قال: وكل جيل من الناس هم أمة على حدة [[نقله في "تهذيب اللغة" 1/ 205.]]. قال ابن الأنباري: والأمة أيضًا أتباع الأنبياء، من قولهم: نحن أمة محمد ﷺ. قال ابن عباس: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ يريد: أمةَ محمَّدٍ ﷺ ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ يريد: المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان [[لم أجده ولعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في المقدمة.]]. قيل: وإنما خصّا بالدعوة بعضَ الذُّرِّيَّة؛ لأن الله تعالى أعلمهما أن في ذريتهما من لا ينال العهد في قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾. (أرنا) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد بها إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير: حذف المضاف، كأنه قال: أرنا مواضع مناسكنا، والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر، جُمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عَرِّفْنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها؛ لنفعله ونقضي نسكنا فيها [[في (م): (فيه)، وفي (ش): (بها).]]، على حدِّ ما يقتضيه توقيفنا عليها، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو: الموضع الذي يوقف فيه بعرفةَ، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيتُ المواضع، وأريته زيدًا. والوجه الآخر: أن يكون أرنا منقولًا من رأيت، الذي لا يراد به رؤية العين ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: (وأرنا مناسكنا) أي: عَلِّمْنا، وأنشد: أريني جوادًا مات هَزْلًا لأَنني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلًا مُخَلَّدا [[البيت لحاتم الطائي، في "ديوانه" ص 40، ولحطائط بن يعفر، "مجاز القرآن" 1/ 55، "الحجة" 2/ 225، "شرح أبيات المغني" 1/ 219، وفي "خزانة الأدب" 1/ 406، ولدريد في "لسان العرب" 1/ 158، ولمعن بن أوس في "ديوانه" ص 39. قال: العيني 1/ 329: أقول قائله هو حاتم بن عدي الطائي، كذا قالت جماعة من النحاة. ينظر: "المعجم المفصل" 2/ 202، وتحقيق أحمد شاكر لكتاب "الشعر والشعراء" 1/ 248.]] قال: أراد: دُلِّيني، ولم يرد رؤية العين [[ما تقدم من "الحجة" 2/ 224 - 225 بتصرف واختصار.]]. وقوله: لأنني، أي: لعلني [["مجاز القرآن" 1/ 55.]]. وقال أبو إسحاق: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ معناه: عرِّفنا متعبداتنا، وكلُّ متعبدٍ فهو منسِك ومنسَك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك، ويقال للذبيحة المتقرب بها إلى الله: نسيكة، وإنما سمي الذبيحة نَسِيكة [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 209، وقال بعده: وكان الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله جل وعز.]]؛ لأنهم كانوا يذبحونها للعبادة. فقوله: ﴿مَنَاسِكَنَا﴾ يحتمل أن يكون جمع مَنْسَك الذي هو المصدر، فيكون على تقدير حذف المضاف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون جمع منسك الذي هو الموضع، فلا يكون فيه حذف. ونسك في اللغة على معنيين: أحدهما: ذَبَح، والآخر: عَبَدَ، فلا يُدرى [[في (ش): (ندري).]] أيهما الأصل [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3562 (نسو).]]. وفي قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} قراءتان: كسر الراء، وإسكانها [[قرأ ابن كثير والسوسي ويعقوب بإسكان الراء، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بإخفاء كسرتها: أي: اختلاسها، والباقون بالكسرة الكاملة على الأصل. ينظر: "السبعة" ص 170، "الحجة" 2/ 224، "البدور الزاهرة" ص 50.]]. قال أبو إسحاق: والأجود الكسر؛ لأن الأصل أَرْئنا، فالكسرة في الراء إنما هي كسرة همزة، أُلقيت فَطُرحت حركتها على الراء، فالكسرة دليلُ الهمزة، وحذفُها قبيحٌ، وهو جائزٌ على بُعدٍ؛ لأن الكسرةَ والضمةَ تُحذفانِ استثقالًا [[بتصرف من "معاني القرآن" 1/ 209، وفيه: (والأجود الكسر، وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فخذ وعضد، وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا عضد؛ لأن الأصل ...).]]؛ كقولهم في فَخِذٍ: فَخْذٌ، وفي عَضُدٍ: عَضْدٌ، وقد [[في (ش): (وهذا).]] ذكرنا هذا بأبلغ من هذا الشرح فيما تقدم. وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ﴾ قال ابن عباس: أي: الراجع بأوليائه وأهل طاعته [[في (أ)، (ش): (طاعة).]] إلى أفضل دينه [[لعله من رواية عطاء التي تقدم ذكرها. وينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 1200.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب