الباحث القرآني
وقوله: ﴿رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾.
أي: خاضعين لأمرك، مستسلمين لك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً، فالمسلم الذي قد استسلم لأمر الله [عز وجل]. والمؤمن هو الذي أظهر القبول لأمر الله سبحانه فأضمر مثل ذلك.
فأما قوله: ﴿قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤]. فمعناه ولكن قولوا: خضعنا وأظهرنا الإسلام. فالمسلم على ضربين: مسلم أظهر مثل ما أضمر فهذا مؤمن مسلم، ومسلم يظهر غير ما يبطن، فهذا غير مؤمن. إنما هو مستسلم في الظاهر ولذلك قال لهم: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] أي: إنما أظهرتم الإسلام خشية القتل، ولم يدخل في قلوبكم منه شيء.
وقوله في الدعاء: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾.
دخول "مِنْ" يدل على التخصيص لبعض الذرية، لأن الله تعالى قد أعلم إبراهيم ﷺ أن من ذريته من لا يناله عهده لظلمه وفجوره. فخص إبراهيم عليه السلام بدعوته، ولم يعم لما تقدم عنده من الخبر عن الله تعالى.
والأمة هنا عني بها الجماعة.
وتكون الأمة الإمام كقوله في إبراهيم ﷺ ﴿كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠]، أي: إماما يقتدى به.
وتكون الأمة السنين كقوله:﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ﴾ [هود: ٨]، أي: إلى سنين.
وتكون الأمة الملة كقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]. أي: على ملة ودين.
وقيل: الأمة هنا محمد وأمته ﷺ.
[قوله] ﴿رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾.
يعني [محمداً عليه السلام].
وقول إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ يدل على أن الإسلام والإيمان سواء، إذ لم يسألا إلا أعلى الرتب وأشرف المنازل، وهو الإيمان الذي هو الإسلام.
[قال] مالك: "لما وقف إبراهيم على المقام أوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك وهو قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾ إلى قوله: ﴿لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ﴾. معناه أظهر لأعيننا مكان المناسك ان جعلته من رؤية العين.
وقيل: معناه عَلِّمناها وعَرِّفناها.
والمناسك: مناسك الحج ومعالمه.
وقال قتادة: "فأراهما الله مناسكهما بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار حتى أكمل لهما الدين".
قال السدي: "لما فرغ إبراهيم ﷺ وعلى محمد من بنيان البيت، أمره الله [أن] ينادي، فقال: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧]، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل شيء سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك، لبيك - أجابوه بالتلبية -: لبيك اللهم لبيك، فأتاه من أتاه. وأمره الله عز وجل أن يخرج إلى عرفات، ونعتها الله له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار اللعين فوقع على الجمرة الثانية [أيضاً فصده]، فرماه وكبّر فطار اللعين فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر. فلما رأى أنه لا يطيقه انطلق حتى أتى ذا المجاز، ولم يدر إبراهيم ﷺ أين يذهب فلما أتى إبراهيم ﷺ ذا المجاز لم يعرفه فجازه، فسمي ذا المجاز. ثم انطلق، حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها إبراهيم ﷺ عرف النعت، فقال: قد عرفت، فسمى ذلك المكان عرفات. فوقف إبراهيم ﷺ بعرفات حتى إذا أمسى ازدلف بجمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أولاً فرماه بسبع حصيات، سبع حصيات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج".
وقيل: المناسك المذابح. فالمعنى على هذا: وأرنا كيف ننسك لك يا رب نسائكنا، فنذبحها لك.
قال عطاء: "مناسكنا ذبحنا". وعنه: "مذابحنا". وكذلك قال مجاهد.
وقيل: مناسكنا متعبداتنا. ومنه قيل للعابد ناسك.
قال ابن عباس: "لما قال إبراهيم ﷺ: "﴿رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، أتاه [جبريل ﷺ] وعلى محمد بهذا الحجر من الجنة الذي يقال له المقام - وهو ياقوتة بيضاء - فأقامه عليه. ثم رفعه إلى السماء حتى أشرف به على البلاد كلها. فأراه أعلام الحرم وجميع مناسك الحج كلها عرفات، والمزدلفة، ومنى، وجميع المناسك. ثم قال له: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ﴾.
وواحد المناسك منسك مثل "مسجد".
وقيل: منسك وكان يجب أن يكون على "مَنْسُك" بالضم لأنه من "فَعَلَ يَفْعُلُ" إلا أنه ليس في الكلام "مَفْعُلُ".
وقيل: المنسك الموضع الذي ينسك فيه لله عز وجل، ويتقرب فيه إليه سبحانه بما يرضيه من الأعمال الصالحة.
وأصله الموضع الذي يعتاده الإنسان يفعل فيه الخير، ولذلك [قيل: مناسك الحج لأنها مواضع] قد اعتادها الناس لفعل الخير.
* * *
ثم قال: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾.
التوبة الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد إلى ربه رجوعه مما هو عليه من المكروه بالندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ترك العمود فيه.
وتوبة الرب سبحانه على عبده عوده عليه بالعفو عنه عن جرمه وذنبه.
- فإن قيل: وهل كانت لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟.
- فالجواب: أنه ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه عز وجل ما يجب عليه الإنابة [منه والتوبة، فخصا] الموضع الذي كانا فيه بالدعاء ليستجاب لهما على طريق التبرك به، وليكون دعاؤهما في ذلك المكان سُنة لمن بعدهما، وليتخذ الناس بعدهما تلك البقعة موضع تنصل من الذنوب ورجوع عن المكروه.
وقيل: عَنَيا بقولهما: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَآ﴾: وتب على الظلمة من ذريتنا الذين أعلمتنا أن منهم ظالماً.
* * *
وقوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾.
معناه إنك أنت العائد في الفضل على عبادك، المتفضل بالغفران لذنوبهم، الرحيم بهم.
* * *
ثم قال: ﴿رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾.
هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لنبينا محمد ﷺ.
وكان النبي [عليه السلام يقول]: "أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْراهيمَ وَبُشْرَى عِيسَى
قال قتادة: "[فأجاب] الله دعوتهما، فبعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو محمد ﷺ" قال الربيع: "فقيل لإبراهيم: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان".
* * *
وقوله: ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ﴾.
من نعت الرسول. أي: يقرأ عليهم كتابك، وكذلك ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾ ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، كله من نعت الرسول ﷺ.
والكتاب القرآن.
قال قتادة: "الحكمة: السنة".
وقال ابن وهب: "قلت لمالك: ما الحكمة؟ فقال: المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له".
وقال ابن زيد: "الحكمة. العقل في الدين".
* * *
ومعنى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾: ويطهرهم من الشرك بك ويكثرهم بطاعتهم لك.
* * *
ثم قال: ﴿إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ﴾.
أي: أنت القوي الذي لا يعجزه شيء المنيع الغالب. وأصل العزة المنع والغلبة، والعرب تقول: "مَنْ [عزّ بَزّ]"، أي: من غلب استلب.
وقولهم: "أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ"، أي: غلبتك وظفرك.
والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال الطبري: "الحكيم ذو الحكمة".
وقيل: "الحكيم الحاكم".
وقيل: "الحكيم: معناه المحكم، أي المحكم ما خلق".
وقال ابن عباس: "العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته".
{"ayahs_start":128,"ayahs":["رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ","رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"],"ayah":"رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق