الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. [[في المطبوعة: "القراء"و"قراء"، ورددتها إلى ما درج عليه الطبري في عبارته. والقَرَأَة جمع قارئ، مثل حافظ وحفظة، كما سلف مرارا.]] فقرأه بعضهم:"وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة. وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من"أرنا"، غير أنه يشمها كسرة. * * * واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله:"مناسكنا" فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٦٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو دينه. ٢٠٦٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا نسكنا وحجنا. ٢٠٦٥- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن ينادي فقال: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [سورة الحج:٢٧] ، فنادى بين أخشبي مكة: [[أخشبا مكة: هما الجبلان المطيفان بها، وهما: "أبو قبيس" و"الأحمر"، وهو مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها".]] يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة:"لبيك لبيك". فأجابوه بالتلبية:"لبيك اللهم لبيك"، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها [له] ، [[الزيادة بين القوسين، أظنها أحرى بالصواب.]] فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى"ذا المجاز"، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، [[ازدلف إلى الشيء: تقرب إليه ودنا منه. وجمع (بفتح الجيم وسكون الميم) هي"مزدلفة".]] فسميت"المزدلفة"، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله:"وأرنا مناسكنا". [[الأثر: ٢٠٦٥ سيأتي بعضه برقم: ٣٧٩٢ في هذا الجزء.]] * * * وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة -"المناسك": المذابح. فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك. [[نسك ينسك (بضم السين) نسكا (بسكون السين) ذبح. والنسيكة: الذبيحة.]] * ذكر من قال ذلك: ٢٠٦٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأرنا مناسكنا" قال: ذبحنا. ٢٠٦٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء قال: مذابحنا. ٢٠٦٧م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٢٠٦٧م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٢٠٦٧م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا مذابحنا. * * * وقال آخرون:"وأرنا مناسكنا" بتسكين"الراء"، [[كان في المطبوعة: "وقال آخرون"، واستظهرت من السياق أنها"وقرأ آخرون"، فلذلك أثبت ما استظهرت، فسيقول بعد: "وهذه قراءة رويت. . . ".]] وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر: [[هما أخوان من بني نهشل بن دارم، جاهليان، أمهما رهم بنت العباب.]] ريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا [[الشعر والشعراء: ٢٠١-٢٠٢، ٢١١ وفيه تحقيق عن اختلاف قديم في نسبته، ومجاز القرآن: ٥٥، والخزانة ١: ١٩٥-١٩٦ وفيهما مراجع كثيرة. روى البيت لحاتم الطائي، ولمعن بن أوس، وفي اللسان (أنن) و (علل) عن ابن برى وقال: "حطائط بن يعفر، ويقال هو لدريد"، وسيأتي في تفسير الطبري منسوبا لدريد بن الصمة (٧: ٢١٣ بولاق) مع اختلاف في رواية صدره: ذريني أطوف في البلاد لأنني ولم أجد هذه الرواية في الكتب التي بين يدي، وأخشى أن يكون الطبري أو من أنشده البيت - قد وهم. فقول حطائط قبله أو بعده. ذريني أكن للمال ربا، ولا يكن ... لي المال ربا، تحمدي غبه غدا ذريني فلا أعيا بما حل ساحتى ... أسود فأكفي، أو أطيع المسودا وهو يخاطب بهذه الأبيات أمه رهم بنت العباب، وكانت تلومه على جوده وإتلافه المال. والهزل (بفتح وسكون) والهزل (بضم فسكون) والهزال: هو نقيض السمن، مع الضعف والاسترخاء. وقوله: "لأنني" بفتح الهمزة بمعنى: "لعلني". من قولهم: "أن" بمعنى"عل"، و"لأن" بمعنى"لعل"، وأرى أن الهمزة منقلبة عن العين، والنون منقلبة عن اللام. وهما لغتان من لغات العرب. واجتمعتا في هذا اللفظ.]] يعني بقوله:"أريني"، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين. وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. [[كان الأجود أن تكون هذه الجملة بعد قوله: "وقرأ آخرون: "وأرنا مناسكنا" بتسكين الراء". ولكن هكذا وقع في النسخ.]] * ذكر من قال ذلك: ٢٠٦٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء:"أرنا مناسكنا"، أخرجها لنا، علمناها. ٢٠٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال:"فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا" -أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به. * * * قال أبو جعفر: والقول واحد، فمن كسر"الراء" جعل علامة الجزم سقوط"الياء" التي في قول القائل:"أرينه""أرنه"، [[هكذا جاء في المطبوعة"أرينه"، وأظن صواب هذا الحرف"يرينيه"، مضارعا مرفوعا، ليستقيم مع قوله: "وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم".]] وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن"الراء" من"أرنا"، توهم أن إعراب الحرف في"الراء"، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في"لم يكن" و"لم يك". [[ظاهر كلام الطبري هنا يدل على أن قوله: "لم يك" بتسكين الكاف، على توهم أن إعراب هذه الكلمة في الكاف، فسكنها لما دخل عليها الجازم. ولم أجد هذا القول في كتاب مما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في نص الطبري في هذا المكان سقط لم أتبينه.]] . وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب. * * * وأما"المناسك" فإنها جمع"منسك"، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج "مناسكه"، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها. * * * وأصل"المنسك" في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال:"لفلان منسك"، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر. ولذلك سميت"المناسك""مناسك"، لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله. * * * وقد قيل: إن معنى"النسك": عبادة الله. وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه. فتأول قائلو هذه المقالة. قوله:"وأرنا مناسكنا"، وعلمنا عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟ وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى"المناسك" ما وصفنا قبل، من أنها"مناسك الحج" التي ذكرنا معناها. * * * وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. [[في المطبوعة: "عن أنفسهم بذلك"، والصواب ما أثبت.]] وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا"وأرنا مناسكنا". وأما التي في الآية التي بعدها:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود:"وأرهم مناسكهم"، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) ﴾ قال أبو جعفر: أما"التوبة"، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه. [[انظر معنى"التوبة" فيما سلف ١: ٥٤٧/٢: ٧٢-٧٣.]] * * * فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟ قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل -فيما بينه وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصَّا به الحال التي كانا عليها، [[في المطبوعة: "ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا. . . "، وهو كلام فاسد والصواب ما أثبت. يجعل"قبلهما"، أي قولهما. وبحذف الواو من: "وإنما".]] من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما:"وتب علينا"، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا -الذين أعلمتنا أمرهم- من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما. كما يقال:"أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان"، إذا بر ولده. * * * وأما قوله:"إنك أنت التواب الرحيم"، فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب