الباحث القرآني

﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ أيْ مُنْقادَيْنِ قائِمَيْنِ بِشَرائِعِ الإسْلامِ، أوْ مُخْلِصَيْنِ مُوَحِّدَيْنِ لَكَ، فَمُسْلِمَيْنِ إمّا مِنِ اسْتَسْلَمَ إذا انْقادَ أوْ مِن أسْلَمَ وجْهَهُ إذا أخْلَصَ نَفْسَهُ، أوْ قَصْدَهُ، ولِكُلٍّ مِنَ المَعْنَيَيْنِ عَرْضٌ عَرِيضٌ، فالمُرادُ طَلَبُ الزِّيادَةِ فِيهِما، أوِ الثَّباتُ عَلَيْهِما، والأوَّلُ أوْلى نَظَرًا إلى مَنصِبِهِما، وإنْ كانَ الثّانِي أوْلى بِالنَّظَرِ إلى أنَّهُ أتَمُّ في إظْهارِ الِانْقِطاعِ إلَيْهِ جَلَّ جَلالُهُ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ (مُسْلِمِينَ) بِصِيغَةِ الجَمْعِ عَلى أنَّ المُرادَ أنْفُسُهُما، والمَوْجُودُ مِن أهْلِهِما كَهاجَرَ، وهَذا أوْلى مِن جَعْلِ لَفْظِ الجَمْعِ مُرادًا بِهِ التَّثْنِيَةُ، وقَدْ قِيلَ بِهِ هُنا، ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا﴾ عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في (اجْعَلْنا) وهو في مَحَلِّ المَفْعُولِ الأوَّلِ، و ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، مَعْطُوفٌ عَلى ﴿مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ ولَوِ اعْتُبِرَ حَذْفُ الجَعْلِ فَلا بُدَّ أنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى التَّصْيِيرِ، لا الإيجادِ، لِأنَّهُ وإنْ صَحَّ مِن جِهَةِ المَعْنى، إلّا أنَّ الأوَّلَ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وإنَّما خَصّا الذُّرِّيَّةَ بِالدُّعاءِ لِأنَّهم أحَقُّ بِالشَّفَقَةِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا﴾ ولِأنَّهم أوْلادُ الأنْبِياءِ وبِصَلاحِهِمْ صَلاحُ كُلِّ النّاسِ، فَكانَ الِاهْتِمامُ بِصَلاحِهِمْ أكْثَرَ، وخَصّا البَعْضَ لِما عَلِما مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ أوْ مِن قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ بِاعْتِبارِ السِّياقِ إنَّ في ذُرِّيَّتِهِما ظَلَمَةً، وأنَّ الحِكْمَةَ الإلَهِيَّةَ تَسْتَدْعِي الِانْقِسامَ، إذْ لَوْلاهُ ما دارَتْ أفْلاكُ الأسْماءِ، ولا كانَ ما كانَ مِن أمْلاكِ السَّماءِ، والمُرادُ مِنَ الأُمَّةِ الجَماعَةُ، أوِ الجِيلُ، وخَصَّها بَعْضُهم بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وحُمِلَ التَّنْكِيرُ عَلى التَّنْوِيعِ، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: (وابْعَثْ) إلَخْ، ولا يَخْفى أنَّهُ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ، واسْتِدْلالٌ بِما لا يَدُلُّ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ (أُمَّةً) المَفْعُولَ الأوَّلَ، (ومِن ذُرِّيَّتِنا) حالٌ، لِأنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْها، (ومُسْلِمَةً)، المَفْعُولُ الثّانِي، وكانَ الأصْلُ: واجْعَلْ أُمَّةً مِن ذُرِّيَّتِنا مُسْلِمَةً لَكَ، فالواوُ داخِلَةٌ في الأصْلِ عَلى (أُمَّةً)، وقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُما بِالجارِّ والمَجْرُورِ، (ومِن) عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلى هَذا بَيانِيَّةٌ عَلى حَدِّ ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ ونَظَرَ فِيهِ أبُو حَيّانَ بِأنَّ أبا عَلِيٍّ وغَيْرَهُ مَنَعُوا أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ، والفَصْلُ بِالحالِ أبْعَدُ مِنَ الفَصْلِ بِالظَّرْفِ، وجَعَلُوا ما ورَدَ مِن ذَلِكَ ضَرُورَةً وبِأنَّ كَوْنَ (مِن) لِلتَّبْيِينِ مِمّا يَأْباهُ الأصْحابُ، ويَتَأوَّلُونَ ما فُهِمَ ذَلِكَ مِن ظاهِرِهِ، ولا يَخْفى أنَّ المَسْألَةَ خِلافِيَّةٌ، وما ذَكَرَهُ مَذْهَبُ البَعْضِ، وهو لا يَقُومُ حُجَّةً عَلى البَعْضِ الآخَرِ، ﴿وأرِنا مَناسِكَنا﴾ قالَ قَتادَةُ: مَعالِمُ الحَجِّ، وقالَ عَطاءٌ وجُرَيْجٌ: مَواضِعُ الذَّبْحِ، وقِيلَ: أعْمالُنا الَّتِي نَعْمَلُها إذا حَجَجْنا، فالمَنسَكُ بِفَتْحِ السِّينِ، والكَسْرِ شاذٌّ، إمّا مَصْدَرٌ أوْ مَكانٌ، وأصْلُ النُّسُكِ بِضَمَّتَيْنِ غايَةُ العِبادَةِ وشاعَ في الحَجِّ، لِما فِيهِ مِنَ الكُلْفَةِ غالِبًا، والبُعْدِ عَنِ العادَةِ، (وأرِنا) مِن رَأى البَصَرِيَّةِ ولِهَمْزَةِ الأفْعالِ تَعَدَّتْ إلى مَفْعُولَيْنِ، أوْ مِن رَأى القَلْبِيَّةِ بِمَعْنى عَرَفَ، لا عَلِمَ، وإلّا لَتَعَدَّتْ إلى ثَلاثَةٍ، وأنْكَرَ ابْنُ الحاجِبِ، وتَبِعَهُ أبُو حَيّانَ ثُبُوتَ رَأْيٍ بِمَعْنى عَرَفَ، وذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في المُفَصَّلِ، والرّاغِبُ (p-386)فِي مُفْرَداتِهِ، وهُما مِنَ الثِّقاتِ، فَلا عِبْرَةَ بِإنْكارِهِما، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ (وأرِهِمْ مَناسِكَهُمْ) بِإعادَةِ الضَّمِيرِ إلى الذُّرِّيَّةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ويَعْقُوبُ (وأرْنا) بِسُكُونِ الرّاءِ، وقَدْ شُبِّهَ فِيهِ المُنْفَصِلُ بِالمُتَّصِلِ، فَعُومِلَ مُعامَلَةَ (فَخُذْ)، في إسْكانِهِ لِلتَّخْفِيفِ، وقَدِ اسْتَعْمَلَتْهُ العَرَبُ كَذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎أرِنا إداوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُها مِن ماءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ هَذِهِ القِراءَةَ قَدِ اسْتُرْذِلَتْ لِأنَّ الكَسْرَةَ مَنقُولَةٌ مِنَ الهَمْزَةِ السّاقِطَةِ دَلِيلٌ عَلَيْها، فَإسْقاطُها إجْحافٌ مِمّا لا يَنْبَغِي، لِأنَّ القِراءَةَ مِنَ المُتَواتِراتِ، ومِثْلُها أيْضًا مَوْجُودٌ في كَلامِ العَرَبِ العَرْباءِ، ﴿وتُبْ عَلَيْنا﴾ أيْ وفِّقْنا لِلتَّوْبَةِ، أوِ اقْبَلْها مِنّا، والتَّوْبَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ التّائِبِينَ، فَتَوْبَةُ سائِرِ المُسْلِمِينَ النَّدَمُ والعَزْمُ عَلى عَدَمِ العَوْدِ، ورَدُّ المَظالِمِ، إذا أمْكَنَ، ونِيَّةُ الرَّدِّ إذا لَمْ يُمْكِنْ، وتَوْبَةُ الخَواصِّ الرُّجُوعُ عَنِ المَكْرُوهاتِ مِن خَواطِرِ السُّوءِ، والفُتُورِ في الأعْمالِ، والإتْيانِ بِالعِبادَةِ عَلى غَيْرِ وجْهِ الكَمالِ، وتَوْبَةُ خَواصِّ الخَواصِّ لِرَفْعِ الدَّرَجاتِ والتَّرَقِّي في المَقاماتِ، فَإنْ كانَ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ عَلَيْهِما السَّلامُ طَلَبا التَّوْبَةَ لِأنْفُسِهِما خاصَّةً، فالمُرادُ بِها ما هو مِن تَوْبَةِ القِسْمِ الأخِيرِ، وإنْ كانَ الضَّمِيرُ شامِلًا لَهُما، ولِلذُّرِّيَّةِ كانَ الدُّعاءُ بِها مُنْصَرِفًا لِمَن هو مِن أهْلِها، مِمَّنْ يَصِحُّ صُدُورُ الذَّنْبِ المُخِلِّ بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ مِنهُ، وإنْ قِيلَ: إنَّ الطَّلَبَ لِلذُّرِّيَّةِ فَقَطْ، وارْتُكِبَ التَّجَوُّزُ في النِّسْبَةِ إجْراءً لِلْوَلَدِ مَجْرى النَّفْسِ بِعَلاقَةِ البَعْضِيَّةِ لِيَكُونَ أقْرَبَ إلى الإجابَةِ، أوْ في الطَّرَفِ حَيْثُ عَبَّرَ عَنِ الفَرْعِ بِاسْمِ الأصْلِ أوْ قِيلَ: بِحَذْفِ المُضافِ أيْ عَلى عُصاتِنا زالَ الإشْكالُ كَما إذا قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ عَمّا فَرَطَ مِنهُما مِنَ الصَّغائِرِ سَهْوًا، والقَوْلُ بِأنَّهُما لَمْ يَقْصِدا الطَّلَبَ حَقِيقَةً وإنَّما ذَكَرا ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ، وتَعْلِيمِ النّاسِ إنَّ تِلْكَ المَواضِعَ مَواضِعُ التَّنَصُّلِ، وطَلَبِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، بَعِيدٌ جِدًّا، وجَعْلُ الطَّلَبِ لِلتَّثْبِيتِ لا أراهُ هُنا يُجْدِي نَفْعًا، كَما لا يَخْفى، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ (وتُبْ عَلَيْهِمْ) بِضَمِيرِ جَمْعِ الغَيْبَةِ أيْضًا، ﴿إنَّكَ أنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ تَعْلِيلٌ لِلدُّعاءِ، ومَزِيدُ اسْتِدْعاءٍ لِلْإجابَةِ، وتَقْدِيمُ التَّوْبَةِ لِلْمُجاوَرَةِ، وتَأْخِيرُ الرَّحْمَةِ لِعُمُومِها، ولِكَوْنِها أنْسَبَ بِالفَواصِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب