الباحث القرآني

﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ﴾ الآيَةَ. قَواعِدُ البَيْتِ: أساسُهُ، وقَدِ اخْتُلِفَ في بِناءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَلْ بَناهُ عَلى قَواعِدَ قَدِيمَةٍ أوْ أنْشَأها هو ابْتِداءً ؟ فَرَوى مَعْمَرٌ عَنْ أيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ ﴿القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ﴾ قالَ: " القَواعِدُ الَّتِي كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ قَواعِدُ البَيْتِ. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطاءٍ ورَوى مَنصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: " خَلَقَ اللَّهُ البَيْتَ قَبْلَ الأرْضِ بِألْفَيْ عامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الأرْضُ مِن تَحْتِهِ " . ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ المَلائِكَةَ كانَتْ تَحُجُّ البَيْتَ قَبْلَ آدَمَ، ثُمَّ حَجَّهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ» . ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْشَأهُ بِأمْرِ اللَّهِ إيّاهُ، وقالَ الحَسَنُ: " أوَّلُ مَن حَجَّ البَيْتَ إبْراهِيمُ " . واخْتُلِفَ في البانِي مِنهُما لِلْبَيْتِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " كانَ إبْراهِيمُ يَبْنِي وإسْماعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ " وهَذا يَدُلُّ عَلى جَوازِ إضافَةِ فِعْلِ البِناءِ إلَيْهِما وإنْ كانَ أحَدُهُما مَعْنِيًّا فِيهِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ قُلْنا في قَوْلِهِ ﷺ لِعائِشَةَ: «لَوْ قَدْ مُتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ ودَفَنْتُكِ» يَعْنِي أعَنْتُ في غَسْلِكَ. وقالَ السُّدِّيُّ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: " هُما بَنَياهُ جَمِيعًا " . وقِيلَ في رِوايَةٍ شاذَّةٍ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وحْدَهُ رَفَعَها وكانَ إسْماعِيلُ صَغِيرًا في وقْتِ رَفْعِها؛ وهو غَلَطٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أضافَ الفِعْلَ إلَيْهِما، وكَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِما إذا رَفَعاهُ جَمِيعًا، أوْ رَفَعَ أحَدُهُما وناوَلَهُ الآخَرُ الحِجارَةَ، والوَجْهانِ الأوَّلانِ جائِزانِ، والوَجْهُ الثّالِثُ لا يَجُوزُ، ولَمّا قالَ تَعالى: ﴿طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] اقْتَضى ذَلِكَ الطَّوافَ بِجَمِيعِ البَيْتِ. ورَوى هِشامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ اقْتَصَرُوا في بِناءِ الكَعْبَةِ، فادْخُلِي الحِجْرَ وصَلِّي عِنْدَهُ» . ولِذَلِكَ طافَ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ حَوْلَ الحَجَرِ لِيَحْصُلَ اليَقِينُ بِالطَّوافِ بِجَمِيعِ البَيْتِ؛ ولِذَلِكَ أدْخَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ في البَيْتِ لَمّا بَناهُ حِينَ احْتَرَقَ، ثُمَّ لَمّا جاءَ الحَجّاجُ أخْرَجَهُ مِنهُ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا﴾ مَعْناهُ: " يَقُولانِ رَبَّنا تَقْبَلْ " فَحُذِفَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: ٩٣] يَعْنِي: " يَقُولُونَ أخْرِجُوا أنْفُسَكم " . والتَّقَبُّلُ: هو إيجابُ (p-١٠٠)الثَّوابِ عَلى العَمَلِ، وقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَوْنَ بِناءِ المَساجِدِ قُرْبَةً؛ لِأنَّهُما بَنَياهُ لِلَّهِ تَعالى فَأُخْبِرا بِاسْتِحْقاقِ الثَّوابِ بِهِ؛ وهو كَقَوْلِهِ ﷺ: «مَن بَنى مَسْجِدًا ولَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطاةٍ بَنى اللَّهُ لَهُ بِهِ بَيْتًا في الجَنَّةِ» . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأرِنا مَناسِكَنا﴾ يُقالُ: إنَّ أصْلَ النُّسُكِ في اللُّغَةِ الغَسْلُ، يُقالُ مِنهُ: نَسَكَ ثَوْبَهُ إذا غَسَلَهُ، وقَدْ أُنْشِدَ فِيهِ بَيْتُ شِعْرٍ: ؎ولا يُنْبِتُ المَرْعى سِباخُ عَراعِرِ ولَوْ نُسِكَتْ بِالماءِ سِتَّةَ أشْهُرِ وفِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْعِبادَةِ، يُقالُ: رَجُلٌ ناسِكٌ، أيْ: عابِدٌ. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الأضْحى فَقالَ «إنَّ أوَّلَ نُسُكِنا في هَذا اليَوْمِ الصَّلاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ» . فَسَمّى الصَّلاةَ نُسُكًا، والذَّبِيحَةُ عَلى وجْهِ القُرْبَةِ تُسَمّى نُسُكًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] يَعْنِي ذَبْحَ شاةٍ، ومَناسِكُ الحَجِّ: ما يَقْتَضِيهِ مِنَ الذَّبْحِ وسائِرِ أفْعالِهِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» والأظْهَرُ مِن مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأرِنا مَناسِكَنا﴾ سائِرُ أعْمالِ الحَجِّ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُما بِبِناءِ البَيْتِ لِلْحَجِّ، وقَدْ رَوى ابْنُ أبِي لَيْلى عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أتى جِبْرِيلُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ فَراحَ بِهِ إلى مَكَّةَ ثُمَّ مِنًى» وذَكَرَ أفْعالَ الحَجِّ عَلى نَحْوِ ما فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ في حَجَّتِهِ، قالَ: ثُمَّ أوْحى اللَّهُ إلى نَبِيِّهِ ﷺ ﴿أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٣] وكَذَلِكَ أرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلى قَوْمٍ بِعَرَفاتٍ وُقُوفٍ خَلْفَهُ وهو واقِفٌ بِها فَقالَ: «كُونُوا عَلى مَشاعِرِكم فَإنَّكم عَلى إرْثٍ مِن إرْثِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ» . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] يَدُلُّ عَلى لُزُومِ اتِّباعِ إبْراهِيمَ في شَرائِعِهِ فِيما لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ. وأفادَ بِذَلِكَ أنَّ مَن رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهو راغِبٌ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ؛ إذْ كانَتْ مِلَّةُ النَّبِيِّ ﷺ مُنْتَظِمَةً لِمِلَّةِ إبْراهِيمَ وزائِدَةً عَلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب