الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ في هذه قولان؛ أحدهما: أن هذه نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله إذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل بنت حرب بن أمية؛ امرأة أبي لهب، وحويطب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه [[انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 41 بنصه، و"أبي حيان " 6/ 41، بنحوه، و"القرطبي" 10/ 271 - بلا نسبة، وورد بنسبة ودون ذكر المؤذين للنبيّ -ﷺ- في "تفسير الثعلبي" 7/ 110 أ، و"الماوردي" 3/ 246، و"الطوسي" 6/ 483، و"ابن == الجوزي" 5/ 41، و"الفخر الرازي" 20/ 220. وأورد بعضُ المفسرين عند هذه الآية حادثة أم جميل مع النبي -ﷺ- التي شهدها أبو بكر، وحجب الله رسوله عنها لما جاءت تريد إيذاءه، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: وقرأ قرآنًا اعتصم به منها، وهو هذه الآية. وهذا الخبر لا يعد من قبيل أسباب النزول عند أهل الفن، بل ولا هو من صيغه، أما قول الواحدي وغيره: نزلت في قوم .. فأيضًا لا يمكن عدّه سببًا في النزول؛ لعدم تحقق شروط قبوله؛ وهي: 1 - أن يثبت عن صحابي بإسناد صحيح فيكون له حكم الرفع. 2 - إن ثبت عن تابعي فهو مرسل، ويشترط لقبوله صحة الإسناد وأن يكون صريحًا، ويرد من طريقين عن أئمة التفسيرة كمجاهد وعكرمة. ويؤيّد ردّه أن الرواية وردت عن الكلبي، وهو مُضَعَّفٌ عند العلماء، ودليل آخر أن الواحدي -نفسه- لم يوردها في أسباب نزوله، وكما قال ابن عطية: الآية إخبار من الله لنبيه أنه يحميه من الكفرة الذين كانوا يؤذونه، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد. فلا يلزم إذًا أن يكون للآية سببُ نزول خاص. انظر: "تفسير السمرقندي" 2/ 270، و"الثعلبي" 7/ 110 أ، و"البغوي" 5/ 97، و"ابن عطية" 9/ 98، و"أبي حيان" 6/ 42، و"ابن كثير" 3/ 49، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 336 - 337، وعزاه إلى أبي يعلى وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي معًا في الدلائل، و"الإتقان" 1/ 90 - 91، و"التحبير" ص 86، و"مباحث في علوم القرآن" ص 83.]]. وقوله تعالى: ﴿حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ قال الأخفش: أراد: ساترًا، والفاعل قد يكون في لفظ المفعول كما تقول: إنك لمَشْؤوم علينا ومَيْمُون، وإنما هو شَائِم ويَامِن؛ لأنه من قولهم: شأمَهُم وَيمَنَهم، والحجابُ هاهنا هو الساتر، فقال: ﴿مَسْتُورً﴾ [["معاني القرآن" للأخفش 2/ 613، بتصرف يسير.]]، وهذا نادر أن يكون الفاعل في لفظ المفعول [[هذه الجملة ليست في معانيه، والظاهر أن الواحدي أراد تلخيص قوله؛ لأنه يفهم من قال هذا، ولأنه قال بعده: هذا قوله، لا أنه تقرير قاعدة.]]، هذا قوله، وتابعه على هذا كثير من أهل اللغة [[انظر: "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 242، و"جمهرة اللغة" 1/ 263، و"تهذيب == اللغة" (ستر) 4/ 1625، و"الإملاء" 2/ 92، و"البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 91، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 279. ولم يرتض ابن عطية هذا التاويك وعدّه تكَلُّفًا من غير حاجة داعية إليه، وقال: وليس مثاله بمُسلَّم، وكذلك رده السمين، وقال: هو على بابه كما حققناه. انظر: "تفسير ابن عطية" 9/ 99، و"عمدة الحفاظ" 2/ 14، 196.]]. وقال آخرون: ﴿مَسْتُورً﴾ هاهنا مفعول، والمعنى أنه حجابٌ مستورٌ لا يُبْصر [[ورد بنحوه في "تفسير الطبري" 93/ 15، و"الثعلبي" 7/ 110 أ، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 97، و"الزمخشري" 2/ 363، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 280 وهذا القول هو الذي مال إليه الطبري -ولم يرد الأول- فقال: وهذا القول الثاني أظهر بمعنى الكلام؛ أن يكون المستور هو الحجاب، فيكون معناه: أن لله سترًا عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأول وجه مفهوم.]]، وإنما كان قُدْرةً من قُدَرِ الله تعالى وأُخْذَةً من أُخَذِه [[الأُخْذةُ، بالضم: رُقية تأخذُ العين ونحوها كالسحر، ويقال بعينه اخُذٌ: وهو الذي لا يقدر صاحبه على النظر. انظر المنتخب من غريب كلام العرب 2/ 482، و"اللسان" (أخذ) 1/ 36، و"التاج" (أخذ) 5/ 346.]] حجبَ النبيّ -ﷺ- بحجاب [[في جميع النسخ: (حجاب)، ولا معنى لها، وما أثبته هو الصواب وبه يستقيم الكلام.]] يحجبه عنهم، بحيث لا يرى النبيُ -ﷺ- ذلك الحجابَ ولا المشركون، حكى هذا صاحب النظم، وهو حسن. وقال الزجاجي: يجوز أن يكون المستور هاهنا بمعنى النسب، كما تقول في الفاعل في مثل: لابِن وتَامِر [[أي: ذو لبن، وذو تمر.]] [[لم أقف على مصدره، وورد نحوه بلا نسبة في "البيان في غريب إعراب القرآن" 2/ 91، و"الفريد في إعراب القرآن" 3/ 279، و"تفسير أبي حيان" 6/ 42، و"الدر المصون" 7/ 362.]]، وتأويله: حجابٌ ذو ستْرٍ؛ كقولهم: جاريةٌ مَغْنوْجة [[الغُنْجُ: الدَّلّ، والغنج في الجارية: تكسُّرٌ وتدلُّلٌ، وقيل: الغنج: ملاحةُ العينين. انظر: "اللسان" (غنج) 6/ 3305.]]، أي ذات غُنْجٍ، ولا يقال: غَنَجْتُها؛ ومكان مَهُول: فيه هَوْل، ولا يقال: هُلْتُ المكان؛ جعلت فيه الهَوْل؛ ورجلٌ مَرْطُوب: ذو رُطوبة، ولا يقال: رَطَبْتُه [[وردت هذه الأمثله في "تفسير الفخر الرازي" 20/ 222، و"أبي حيان" 6/ 42، و"الدر المصون" 7/ 362.]]. القول الثاني: أن معنى الحجاب هاهنا: الطبع الذي على قلوبهم، والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا ما يأتي به من الحكمة في القرآن فينتفعوا به، وهذا قول قتادة؛ قال: هو الأكنة [[أخرجه بلفظه: "عبد الرزاق" 2/ 379، و"الطبري" 15/ 93، وورد بلفظه في "تفسير السمرقندي" 2/ 270، انظر: "تفسير البغوي" 5/ 97، و"ابن الجوزي" 5/ 40.]]، وعلى هذا قوله: ﴿جَعَلنَا بَيتَكَ﴾، أي: بين قولك وقراءتك وفهم ما تأتي به، ﴿وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾، وهو ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبهم، وإن شئت قلت: حجابًا ساترًا، على ما ذكرنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب