الباحث القرآني

* (فصل) وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم: ﴿وَمِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾، وقوله: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ على أصح القولين. والمعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره، والإيمان به، وبيّنه قوله: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾. وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: ﴿وَقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ، وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ فأخبر سبحانه أن ذلك جعله. فالحب يمنع من رؤية الحق، والأكنة تمنع من فهمه، والوقر يمنع من سماعه. وقال الكلبي: الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه. ووصفه بكونه مستورا فقيل: بمعنى ساتر. وقيل: على النسب، أي في ستر والصحيح: أنه على بابه، أي مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت. والنسب في مفعول لم يشتق من فعله، كمكان محول أي ذي حول، ورجل مرطوب، أي ذي رطوبة. فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل. كمضروب ومجروح ومستور. * (فائدة) وَمِمّا يَدْخُلُ في الغَيْرَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾. قالَ السَّرِيُّ لِأصْحابِهِ: أتَدْرُونَ ما هَذا الحِجابُ؟ حِجابُ الغَيْرَةِ. ولا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ. إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الكُفّارَ أهْلًا لِفَهْمِ كَلامِهِ، ولا أهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ ومَحَبَّتِهِ. فَجَعَلَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِهِ وكَلامِهِ وتَوْحِيدِهِ حِجابًا مَسْتُورًا عَنِ العُيُونِ، غَيْرَةً عَلَيْهِ أنْ يَنالَهُ مَن لَيْسَ أهْلًا بِهِ. وقال في موضع آخر من مدارج السالكين: فَمَن عَرَفَهُ وذاقَ حَلاوَةَ قُرْبِهِ ومَحَبَّتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إلى مُساكَنَةِ غَيْرِهِ: ثَبَّطَ جَوارِحَهُ عَنْ طاعَتِهِ، وعَقَلَ قَلْبَهُ عَنْ إرادَتِهِ ومَحَبَّتِهِ، وأخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّ قُرْبِهِ، ووَلّاهُ ما اخْتارَهُ لِنَفْسِهِ. وَقالَ بَعْضُهُمْ: احْذَرْهُ، فَإنَّهُ غَيُورٌ، لا يُحِبُّ أنْ يَرى في قَلْبِ عَبْدِهِ سِواهُ. وَمِن غَيْرَتِهِ: أنَّ صَفِيَّهُ آدَمَ لَمّا ساكَنَ بِقَلْبِهِ الجَنَّةَ، وحَرِصَ عَلى الخُلُودِ فِيها أخْرَجَهُ مِنها، ومِن غَيْرَتِهِ سُبْحانَهُ: أنَّ إبْراهِيمَ خَلِيلَهُ لَمّا أخَذَ إسْماعِيلُ شُعْبَةً مِن قَلْبِهِ أمَرَهُ بِذَبْحِهِ، حَتّى يُخْرِجَ مِن قَلْبِهِ ذَلِكَ المُزاحِمَ. إنَّما كانَ الشِّرْكُ عِنْدَهُ ذَنْبًا لا يُغْفَرُ لِتَعَلُّقِ قَلْبِ المُشْرِكِ بِهِ وبِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِمَن تَعَلَّقَ قَلْبُهُ كُلُّهُ بِغَيْرِهِ، وأعْرَضَ عَنْهُ بِكُلِّيَّتِهِ؟ إذا أرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ ما حَلَّ بِكَ مِن بَلاءِ الِانْفِصالِ، وذُلِّ الحِجابِ، فانْظُرْ لِمَنِ اسْتَعْبَدَ قَلْبَكَ، واسْتَخْدَمَ جَوارِحَكَ، وبِمَن شَغَلَ سِرَّكَ، وأيْنَ يَبِيتُ قَلْبُكَ إذا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ؟ وإلى أيْنَ يَطِيرُ إذا اسْتَيْقَظْتَ مِن مَنامِكَ؟ فَذَلِكَ هو مَعْبُودُكَ وإلَهُكَ، فَإذا سَمِعْتَ النِّداءَ يَوْمَ القِيامَةِ: لِيَنْطَلِقَ كُلُّ واحِدٍ مَعَ مَن كانَ يَعْبُدُهُ، انْطَلَقْتَ مَعَهُ كائِنًا مَن كانَ. لا إلَهَ إلّا اللَّهُ! ما أشَدَّ غَبْنَ مَن باعَ أطْيَبَ الحَياةِ في هَذِهِ الدّارِ المُتَّصِلَةِ بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ هُناكَ، والنَّعِيمَ المُقِيمَ بِالحَياةِ المُنَغَّصَةِ المُنَكَّدَةِ المُتَّصِلَةِ بِالعَذابِ الألِيمِ، والمُدَّةُ ساعَةٌ مِن نَهارٍ، أوْ عَشِيَّةٌ أوْ ضُحاها، أوْ يَوْمٌ أوْ بَعْضُ يَوْمٍ، فِيهِ رِبْحُ الأبَدِ أوْ خَسارَةُ الأبَدِ. ؎فَما هي إلّا ساعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ∗∗∗ ويَذْهَبُ هَذا كُلُّهُ ويَزُولُ (فائدة أخرى) وهاهنا نوع من غيرة الرب سبحانه وتعالى لطيف لا تهتدي إليه العقول وهو أن العبد يفتح له باب من الصفاء والأنس والوجود فيساكنه ويطمئن إليه وتلتذ به نفسه فيشتغل به عن المقصود فيغار عليه مولاه الحق فيخليه منه ويرده حينئذ إليه بالفقر والذلة والمسكنة ويشهده غاية فقره وإعدامه وأنه ليس معه من نفسه شيء البتة فتعود عزة ذلك الأنس والصفاء الوجود ذلو ومسكنة وفقرا وفاقة وذرة من هذا أحب إليه سبحانه وتعالى وأنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء والأنس المجرد عن شهود الفقر والذلة والمسكنة وهذا باب لا يتسع له قلب كل أحد * فصل ومن الغيرة الغيرة على دقيق العلم ومالا يدركه فهم السامع أن يذكر له ولهذه الغيرة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. فالعالم يغار على علمه أن يبذله لغير أهله أو يضعه في غير محله، كما قال عيسى ابن مريم "يا بني إسرائيل لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تبذلوها لغير أهلها فتظلموها". وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى الله الذي ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ فقال للسائل وما يؤمنك أني إن أخبرتك بتفسيرها كفرت فإنك تكذب به وتكذيبك بها كفرك بها فالمسألة الدقيقة اللطيفة التي تبذل لغير أهلها كالمرأة الحسناء التي تهدى إلى ضرير مقعد كما قيل: خود تزف إلى ضرير مقعد وكان أبو علي إذا وقع شيء في خلال مجلسه من تشويش الوقت يقول هذا من غيرة الحق يريد أن لا يجري ما يجري من صفاء الوقت.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب