الباحث القرآني

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ" تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [[راجع ج ٢٠ ص ٢٣٤.]] " أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلِ بِنْتُ حَرْبٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ [[الفهر (بالكسر): الحجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر مطلقا.]] وَهِيَ تَقُولُ مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا [[هذا ما ورد في سيرة ابن هشام. والتي في نسخ الأصل: مذمما أتينا ... ودينه قلينا.]] وَالنَّبِيُّ ﷺ قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَقْبَلَتْ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي" وَقَرَأَ قُرْآنًا فَاعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ. وَقَرَأَ "وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً". فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي! فَقَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. قَالَ: فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشُ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ "تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْهَا لِئَلَّا تُسْمِعَكَ مَا يُؤْذِيكَ، فَإِنَّهَا امْرَأَةٌ بَذِيَّةٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا" فَلَمْ تَرَهُ. فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَجَانَا صَاحِبُكَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لَمُصَدِّقَةٌ، فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَةً. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا رَأَتْكَ؟ قَالَ: "لَا. مَا زَالَ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي حَتَّى ذَهَبَتْ". وَقَالَ كَعْبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَتِرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ: الْآيَةِ الَّتِي فِي الْكَهْفِ" إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [[راجع ج ١١ ص ٤ فما بعد]] "، والآية التي في النحل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [[راجع ص ١٩١ من هذا الجزء.]]، وَالْآيَةِ الَّتِي فِي الْجَاثِيَةِ [[في أو ج وى: الشريعة. وهى من أسماء الجاثية.]] " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [[راجع ج ١٦ ص ١٦٦ فما بعد.]] " الْآيَةَ. فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَرَّأَهُنَّ يَسْتَتِرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ كَعْبٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَحَدَّثْتُ بِهِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَتَى أَرْضَ الرُّومِ فَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَقَرَأَ بِهِنَّ فَصَارُوا يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِهِ وَلَا يُبْصِرُونَهُ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ [[في أوج وى: "الكلبي".]]: وَهَذَا الَّذِي يَرْوُونَهُ عَنْ كَعْبٍ حَدَّثْتُ بِهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الرِّيِّ فَأُسِرَ بِالدَّيْلَمِ، فَمَكَثَ زَمَانًا ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَقَرَأَ بِهِنَّ حَتَّى جَعَلَتْ ثِيَابُهُنَّ لَتَلْمِسُ ثِيَابَهُ فَمَا يبصرونه. قلت: ويزاد إلى هذه الآية أَوَّلُ سُورَةِ يس إِلَى قَوْلِهِ" فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [[راجع ج ١٥ ص ٩.]] ". فَإِنَّ فِي السِّيرَةِ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمُقَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فِرَاشِهِ قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يس: "يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ."- إِلَى قَوْلِهِ- "وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ". حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ. قُلْتُ: وَلَقَدِ اتَّفَقَ لِي بِبِلَادِنَا الْأَنْدَلُسِ بِحِصْنِ مَنْثُورٍ [[كذا في الأصول.]] مِنْ أَعْمَالِ قُرْطُبَةَ مِثْلُ هَذَا. وَذَلِكَ أَنِّي هَرَبْتُ أَمَامَ الْعَدُوِّ وَانْحَزْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ عَنْهُ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِي فَارِسَانِ وَأَنَا فِي فَضَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ قَاعِدٌ لَيْسَ يَسْتُرُنِي عَنْهُمَا شي، وَأَنَا أَقْرَأُ أَوَّلَ سُورَةِ يس وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَبَرَا عَلَيَّ ثُمَّ رَجَعَا مِنْ حَيْثُ جَاءَا وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: هَذَا دَيْبَلَةٌ [[لفظة فرانسيية، معناها: جنى. ولعله كذلك في لغة اللاتين.]]، يَعْنُونَ شَيْطَانًا. وَأَعْمَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوْنِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى ذلك. وقيل: الحجاب الْمَسْتُورُ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَفْقَهُوهُ وَلَا يُدْرِكُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ أَنَّهُمْ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ قِرَاءَتِكَ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْكَ كَمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فِي عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَكَ حَتَّى كَأَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمُّ جَمِيلٍ أَمْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَحُوَيْطِبٌ، فَحَجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَنْ أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: (مَسْتُوراً) فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْحِجَابَ مَسْتُورٌ عَنْكُمْ لَا تَرَوْنَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَنْكُمْ مَا وَرَاءَهُ، وَيَكُونُ مستورا به بمعنى ساتر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب