الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وجْهانِ مِنَ التَّفْسِيرِ: الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا﴾؛ أيْ حائِلًا وساتِرًا يَمْنَعُهم مِن تَفَهُّمِ القُرْآنِ وإدْراكِهِ لِئَلّا يَفْقَهُوهُ فَيَنْتَفِعُوا بِهِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالحِجابُ المَسْتُورُ هو ما حَجَبَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَهم عَنِ الِانْتِفاعِ بِكِتابِهِ، والآياتُ الشّاهِدَةُ لِهَذا المَعْنى كَثِيرَةٌ؛ • كَقَوْلِهِ: ﴿وَقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ [فصلت: ٥]، • وقَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٧]، • وقَوْلِهِ: ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٥٧]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ في مَعْنى الآيَةِ: قَتادَةُ والزَّجّاجُ وغَيْرُهُما. الوَجْهُ الثّانِي في الآيَةِ: أنَّ المُرادَ بِالحِجابِ المَسْتُورِ أنَّ اللَّهَ يَسْتُرُهُ عَنْ أعْيُنِ الكُفّارِ فَلا يَرَوْنَهُ، قالَ صاحِبُ الدُّرِّ المَنثُورِ في الكَلامِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ: أخْرَجَ أبُو يَعْلى وابْنُ أبِي حاتِمٍ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ مَعًا في الدَّلائِلِ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، قالَتْ: «لَمّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١] أقْبَلَتِ العَوْراءُ أُمُّ جَمِيلٍ ولَها ولْوَلَةٌ وفي يَدِها فِهْرٌ وهي تَقُولُ: مُذَمَّمًا أبَيْنا. . ودِينَهُ قَلَيْنا. . وأمْرَهُ عَصَيْنا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جالِسٌ، وأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى جَنْبِهِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ أقْبَلَتْ هَذِهِ وأنا أخافُ أنْ تَراكَ ؟ فَقالَ: ”إنَّها لَنْ تَرانِي“ وقَرَأ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ (p-١٦٠)[الإسراء: ٤٥]، فَجاءَتْ حَتّى قامَتْ عَلى أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَتْ: يا أبا بَكْرٍ، بَلَغَنِي أنَّ صاحِبَكَ هَجانِي. فَقالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا ورَبِّ هَذا البَيْتِ ما هَجاكِ، فانْصَرَفَتْ وهي تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أنِّي بِنْتُ سَيِّدِها»، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرِّواياتِ بِهَذا المَعْنى. وَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، بَعْدَ أنْ ساقَ بَعْضَ الرِّواياتِ نَحْوَ ما ذَكَرْنا في هَذا الوَجْهِ الأخِيرِ ما نَصُّهُ: ولَقَدِ اتَّفَقَ لِي بِبِلادِنا - الأنْدَلُسِ - بِحِصْنِ مَنثُورٍ مِن أعْمالِ قُرْطُبَةَ مِثْلُ هَذا، وذَلِكَ أنِّي هَرَبْتُ أمامَ العَدُوِّ وانْحَزْتُ إلى ناحِيَةٍ عَنْهُ، فَلَمْ ألْبَثْ أنْ خَرَجَ في طَلَبِي فارِسانِ وأنا في فَضاءٍ مِنَ الأرْضِ قاعِدٌ لَيْسَ يَسْتُرُنِي عَنْهُما شَيْءٌ، وأنا أقْرَأُ أوَّلَ سُورَةِ يس وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ القُرْآنِ، فَعَبَرا عَلَيَّ ثُمَّ رَجَعا مِن حَيْثُ جاءا، وأحَدُهُما يَقُولُ لِلْآخَرِ: هَذا دُيْبَلَةٌ (يَعْنُونَ شَيْطانًا) وأعْمى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أبْصارَهم فَلَمْ يَرَوْنِي. اهـ، وقالَ القُرْطُبِيُّ: إنَّ هَذا الوَجْهَ في مَعْنى الآيَةِ هو الأظْهَرُ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿حِجابًا مَسْتُورًا﴾ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هو مِن إطْلاقِ اسْمِ المَفْعُولِ وإرادَةِ اسْمِ الفاعِلِ؛ أيْ حِجابًا ساتِرًا، وقَدْ يَقَعُ عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن ماءٍ دافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] أيْ مَدْفُوقٍ ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] أيْ مَرْضِيَّةٍ. فَإطْلاقُ كُلٍّ مِنِ اسْمِ الفاعِلِ واسْمِ المَفْعُولِ وإرادَةُ الآخَرِ أُسْلُوبٌ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، والبَيانِيُّونَ يُسَمُّونَ مِثْلَ ذَلِكَ الإطْلاقِ ”مَجازًا عَقْلِيًّا“ ومِن أمْثِلَةِ إطْلاقِ المَفْعُولِ وإرادَةِ الفاعِلِ كالقَوْلِ في الآيَةِ؛ قَوْلُهم: مَيْمُونٌ ومَشْئُومٌ، بِمَعْنى يامِنٍ وشائِمٍ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: قَوْلُهُ: ﴿مَسْتُورًا﴾ عَلى مَعْناهُ الظّاهِرِ مِن كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الحِجابَ مَسْتُورٌ عَنْ أعْيُنِ النّاسِ فَلا يَرَوْنَهُ، أوْ مَسْتُورًا بِهِ القارِئُ فَلا يَراهُ غَيْرُهُ، واخْتارَ هَذا أبُو حَيّانَ في البَحْرِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب