الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وإذْ هم نَجْوى إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا تَكَلَّمَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ في المَسائِلِ الإلَهِيَّةِ تَكَلَّمَ في هَذِهِ الآيَةِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْمٍ كانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إذا قَرَأ القُرْآنَ عَلى النّاسِ. رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ كُلَّما قَرَأ القُرْآنَ قامَ عَنْ يَمِينِهِ رَجُلانِ، وعَنْ يَسارِهِ آخَرانِ مَن ولَدِ قُصَيٍّ يُصَفِّقُونَ ويُصَفِّرُونَ ويَخْلِطُونَ عَلَيْهِ بِالأشْعارِ»، وعَنْ أسْماءَ «أنَّهُ ﷺ كانَ جالِسًا ومَعَهُ أبُو بَكْرٍ إذْ أقْبَلَتِ امْرَأةُ أبِي لَهَبٍ (p-١٧٧)ومَعَها فِهْرٌ تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهي تَقُولُ: ؎مُذَمَّمًا أتَيْنا ودِينَهُ قَلَيْنا ∗∗∗ وأمْرَهُ عَصَيْنا فَقالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ مَعَها فِهْرٌ أخْشاها عَلَيْكَ، فَتَلا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ فَجاءَتْ فَما رَأتْ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقالَتْ: إنَّ قُرَيْشًا قَدْ عَلِمَتْ أنِّي ابْنَةُ سَيِّدِها وأنَّ صاحِبَكَ هَجانِي فَقالَ أبُو بَكْرٍ: لا ورَبِّ هَذا البَيْتِ ما هَجاكِ» . ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ: «أنَّ أبا سُفْيانَ والنَّضِرَ بْنَ الحارِثِ وأبا جَهْلٍ وغَيْرَهم كانُوا يُجالِسُونَ النَّبِيَّ ﷺ ويَسْتَمِعُونَ إلى حَدِيثِهِ، فَقالَ النَّضْرُ يَوْمًا: ما أدْرِي ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أنِّي أرى شَفَتَيْهِ تَتَحَرَّكُ بِشَيْءٍ. وقالَ أبُو سُفْيانَ: إنِّي لَأرى بَعْضَ ما يَقُولُهُ حَقًّا، وقالَ أبُو جَهْلٍ: هو مَجْنُونٌ. وقالَ أبُو لَهَبٍ هو كاهِنٌ. وقالَ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ العُزّى هو شاعِرٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أرادَ تِلاوَةَ القُرْآنِ قَرَأ قَبْلَها ثَلاثَةَ آياتٍ وهي قَوْلُهُ في سُورَةِ الكَهْفِ: ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ وفي النَّحْلِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [النحل: ١٠٨] وفي حم الجاثِيَةِ: ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ»﴾ [الجاثية: ٢٣] إلى آخَرِ الآيَةِ فَكانَ اللَّهُ تَعالى يَحْجُبُهُ بِبَرَكاتِ هَذِهِ الآياتِ عَنْ عُيُونِ المُشْرِكِينَ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّهُ كانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ حِجابًا ساتِرًا. والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ ذَلِكَ الحِجابَ حِجابٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعالى في عُيُونِهِمْ بِحَيْثُ يَمْنَعُهم ذَلِكَ الحِجابُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ وذَلِكَ الحِجابُ شَيْءٌ لا يَراهُ أحَدٌ فَكانَ مَسْتُورًا مِن هَذا الوَجْهِ، احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ في أنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الحاسَّةُ سَلِيمَةً ويَكُونُ المَرْئِيُّ حاضِرًا مَعَ أنَّهُ لا يَراهُ ذَلِكَ الإنْسانُ لِأجْلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ في عَيْنَيْهِ مانِعًا يَمْنَعُهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ قالُوا: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ حاضِرًا وكانَتْ حَواسُّ الكُفّارِ سَلِيمَةً، ثُمَّ إنَّهم ما كانُوا يَرَوْنَهُ، وأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم حِجابًا مَسْتُورًا، والحِجابُ المَسْتُورُ لا مَعْنى لَهُ إلّا المَعْنى الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى في عُيُونِهِمْ، وكانَ ذَلِكَ المَعْنى مانِعًا لَهم مِن أنْ يَرَوْهُ ويُبْصِرُوهُ. والوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ أنَّهُ كَما يَجُوزُ أنْ يُقالَ: لابِنٌ وتامِرٌ بِمَعْنى ذُو لَبَنٍ وذُو تَمْرٍ فَكَذَلِكَ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: ”مَسْتُورًا“ مَعْناهُ ذُو سِتْرٍ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَرْطُوبٌ أيْ: ذُو رُطُوبَةٍ ولا يُقالُ رَطِيبَةٌ ويُقالُ مَكانٌ مَهُولٌ أيْ: فِيهِ هَوْلٌ ولا يُقالُ: هِلْتُ المَكانَ بِمَعْنى جَعَلْتُ فِيهِ الهَوْلَ، ويُقالُ: جارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ ذاتُ غُنْجٍ ولا يُقالُ غَنَجْتُها. والوَجْهُ الثّالِثُ: في الجَوابِ قالَ الأخْفَشُ: المَسْتُورُ هَهُنا بِمَعْنى السّاتِرِ، فَإنَّ الفاعِلَ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ المَفْعُولِ كَما يُقالُ: إنَّكَ لَمَشْئُومٌ عَلَيْنا ومَيْمُونٌ وإنَّما هو شائِمٌ ويامِنٌ، لِأنَّهُ مِن قَوْلِهِمْ شَأَّمَهم ويَمَّنَهم، هَذا قَوْلُ الأخْفَشِ: وتابَعَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ، إلّا أنَّ كَثِيرًا مِنهم طَعَنَ في هَذا القَوْلِ، والحَقُّ هو الجَوابُ الأوَّلُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ مَعْنى الحِجابِ الطَّبْعُ الَّذِي عَلى قُلُوبِهِمْ، والطَّبْعُ والمَنعُ الَّذِي مَنَعَهم عَنْ أنْ يُدْرِكُوا لَطائِفَ القُرْآنِ ومَحاسِنَهُ وفَوائِدَهُ، فالمُرادُ مِنَ الحِجابِ المَسْتُورِ ذَلِكَ الطَّبْعُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ وهَذِهِ الآيَةُ مَذْكُورَةٌ بِعَيْنِها في (p-١٧٨)سُورَةِ الأنْعامِ وذَكَرْنا اسْتِدْلالَ أصْحابِنا بِها وذَكَرْنا سُؤالاتِ المُعْتَزِلَةِ ولا بَأْسَ بِإعادَةِ بَعْضِها قالَ الأصْحابُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ قُلُوبَهم في الأكِنَّةِ. والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ وهو ما سَتَرَ الشَّيْءَ مِثْلَ كِنانِ النَّبْلِ وقَوْلُهُ: ﴿أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ أيْ: لِئَلّا يَفْقَهُوهُ. وجَعَلَ في آذانِهِمْ وقْرًا. ومَعْلُومٌ أنَّهم كانُوا عُقَلاءَ سامِعِينَ فاهِمِينَ، فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ مَنعُهم عَنِ الإيمانِ ومَنعُهم عَنْ سَماعِ القُرْآنِ بِحَيْثُ لا يَقِفُونَ عَلى أسْرارِهِ ولا يَفْهَمُونَ دَقائِقَهُ وحَقائِقَهُ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَيْسَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ ما ذَكَرْتُمْ بَلِ المُرادُ مِنهُ وُجُوهٌ أُخْرى: الأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ: كانُوا يَطْلُبُونَ مَوْضِعَهُ في اللَّيالِي لِيَنْتَهُوا إلَيْهِ ويُؤْذُونَهُ، ويَسْتَدِلُّونَ عَلى مَبِيتِهِ بِاسْتِماعِ قِراءَتِهِ فَأمَّنَهُ اللَّهُ تَعالى مِن شَرِّهِمْ، وذَكَرَ لَهُ أنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم حِجابًا لا يُمْكِنُهُمُ الوُصُولُ إلَيْهِ مَعَهُ، وبَيَّنَ أنَّهُ جَعَلَ في قُلُوبِهِمْ ما يَشْغَلُهم عَنْ فَهْمِ القُرْآنِ وفي آذانِهِمْ ما يَمْنَعُ مِن سَماعِ صَوْتِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَضًا شاغِلًا يَمْنَعُهم مِنَ المَصِيرِ إلَيْهِ والتَّفَرُّغِ لَهُ، لا أنَّهُ حَصَلَ هُناكَ كَنٌّ لِلْقَلْبِ ووَقْرٌ في الأُذُنِ. الثّانِي: قالَ الكَعْبِيُّ: إنَّ القَوْمَ لِشِدَّةِ امْتِناعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَلائِلِ مُحَمَّدٍ ﷺ صارُوا كَأنَّهُ حَصَلَ بَيْنَهم وبَيْنَ تِلْكَ الدَّلائِلِ حِجابٌ مانِعٌ وساتِرٌ، وإنَّما نَسَبَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ الحِجابَ إلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا خَلّاهم مَعَ أنْفُسِهِمْ وما مَنَعَهم عَنْ ذَلِكَ الإعْراضِ صارَتْ تِلْكَ التَّخْلِيَةُ كَأنَّها هي السَّبَبُ لِوُقُوعِهِمْ في تِلْكَ الحالَةِ، وهَذا مِثْلُ أنَّ السَّيِّدَ إذا لَمْ يُراقِبْ أحْوالَ عَبْدِهِ فَإذا ساءَتْ سِيرَتُهُ فالسَّيِّدُ يَقُولُ: أنا الَّذِي ألْقَيْتُكَ في هَذِهِ الحالَةِ بِسَبَبِ أنِّي خَلَّيْتُكَ مَعَ رَأْيِكَ وما راقَبْتُ أحْوالَكَ. الثّالِثُ: قالَ القَفّالُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا خَذَلَهم بِمَعْنى أنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الألْطافَ الدّاعِيَةَ لَهم إلى الإيمانِ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ فِعْلُ الحِجابِ السّاتِرِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ مَعَ كَلِماتٍ أُخْرى ذَكَرْناها في سُورَةِ الأنْعامِ وأجَبْنا عَنْها، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ واعْلَمْ أنَّ المُرادَ أنَّ القَوْمَ كانُوا عِنْدَ اسْتِماعِ القُرْآنِ عَلى حالَتَيْنِ، لِأنَّهم إذا سَمِعُوا مِنَ القُرْآنِ ما لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى بَقُوا مَبْهُوتِينَ مُتَحَيِّرِينَ لا يَفْهَمُونَ مِنهُ شَيْئًا، وإذا سَمِعُوا آيَةً فِيها ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى وذَمُّ الشِّرْكِ بِاللَّهِ ولَّوْا نُفُورًا وتَرَكُوا ذَلِكَ المَجْلِسَ، وذَكَرَ الزَّجّاجُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: المَصْدَرُ والمَعْنى ولَّوْا نافِرِينَ نُفُورًا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ (نُفُورًا) جَمْعَ نافِرٍ مِثْلَ شُهُودٍ وشاهِدٍ ورُكُوعٍ وراكِعٍ وسُجُودٍ وساجِدٍ وقُعُودٍ وقاعِدٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ﴾ أيْ: نَحْنُ أعْلَمُ بِالوَجْهِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ وهو الهُزُؤُ والتَّكْذِيبُ. و”بِهِ“ في مَوْضِعِ الحالِ، كَما تَقُولُ: مُسْتَمِعِينَ بِالهُزُؤِ و﴿إذْ يَسْتَمِعُونَ﴾ نُصِبَ بِـ (أعْلَمُ) أيْ: أعْلَمُ وقْتَ اسْتِماعِهِمْ بِما بِهِ يَسْتَمِعُونَ ﴿وإذْ هم نَجْوى﴾ أيْ: وبِما يَتَناجَوْنَ بِهِ إذْ هم ذُو نَجْوى: ﴿إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذْ هم نَجْوى إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: الأوَّلُ: قالَ المُفَسِّرُونَ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيًّا أنْ يَتَّخِذَ طَعامًا ويَدْعُوَ إلَيْهِ أشْرافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَفَعَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ ودَخَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقَرَأ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ودَعاهم إلى التَّوْحِيدِ وقالَ: قُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ حَتّى تُطِيعَكُمُ العَرَبُ وتَدِينَ لَكُمُ العَجَمُ فَأبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وكانُوا عِنْدَ اسْتِماعِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ القُرْآنَ والدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ تَعالى يَقُولُونَ: بَيْنَهم مُتَناجِينَ هو ساحِرٌ وهو مَسْحُورٌ» وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ، فَأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ بِأنَّهم يَقُولُونَ: ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ . فَإنْ قِيلَ: إنَّهم لَمْ يَتَّبِعُوا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَقُولُوا: ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ ؟ (p-١٧٩) قُلْنا: مَعْناهُ أنَّكم إنِ اتَّبَعْتُمُوهُ فَقَدِ اتَّبَعْتُمْ رَجُلًا مَسْحُورًا، والمَسْحُورُ الَّذِي قَدْ سُحِرَ فاخْتَلَطَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وزالَ عَنْ حَدِّ الِاسْتِواءِ. هَذا هو القَوْلُ الصَّحِيحُ، وقالَ بَعْضُهم: المَسْحُورُ هو الَّذِي أُفْسِدَ. يُقالُ: طَعامٌ مَسْحُورٌ إذا أُفْسِدَ عَمَلُهُ، وأرْضٌ مَسْحُورَةٌ أصابَها مِنَ المَطَرِ أكْثَرُ مِمّا يَنْبَغِي فَأفْسَدَها. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُرِيدُ بَشَرًا ذا سَحْرِ أيْ: ذا رِئَةٍ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ولا أدْرِي ما الَّذِي حَمَلَهُ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ المُسْتَكْرَهِ مَعَ أنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالوُجُوهِ الواضِحَةِ، وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿مَسْحُورًا﴾ أيْ: مَخْدُوعًا لِأنَّ السِّحْرَ حِيلَةٌ وخَدِيعَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَتَعَلَّمُ مِن بَعْضِ النّاسِ هَذِهِ الكَلِماتِ وأُولَئِكَ النّاسُ يَخْدَعُونَهُ بِهَذِهِ الكَلِماتِ وهَذِهِ الحِكاياتِ، فَلِذَلِكَ قالُوا: إنَّهُ مَسْحُورٌ أيْ: مَخْدُوعٌ، وأيْضًا كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الشَّيْطانَ يَتَخَيَّلُ لَهُ فَيَظُنُّ أنَّهُ مَلَكٌ فَقالُوا: إنَّهُ مَخْدُوعٌ مِن قِبَلِ الشَّيْطانِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ﴾ أيْ: كُلُّ أحَدٍ شَبَّهَكَ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَقالُوا: إنَّهُ كاهِنٌ وساحِرٌ وشاعِرٌ ومُعَلَّمٌ ومَجْنُونٌ، فَضَلُّوا عَنِ الحَقِّ والطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهُدى والحَقِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب