الباحث القرآني
﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جَعَلَ فِيكم أنْبِياءَ وجَعَلَكم مُلُوكًا وآتاكم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ تَمَرُّدَ أسْلافِ اليَهُودِ عَلى مُوسى، وعِصْيانَهم إيّاهُ، مَعَ تَذْكِيرِهِ إيّاهم نِعَمَ اللَّهِ وتَعْدادِهِ لِما هو العَظِيمُ مِنها، وأنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ هم بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ هم جارُونَ مَعَكم مَجْرى أسْلافِهِمْ مَعَ مُوسى. ونِعْمَةُ اللَّهِ يُرادُ بِها الجِنْسُ؛ والمَعْنى: واذْكُرْ لَهم يا مُحَمَّدُ عَلى جِهَةِ إعْلامِهِمْ بِغَيْبِ كُتُبِهِمْ لِيَتَحَقَّقُوا نُبُوَّتَكَ. ويَنْتَظِمُ في ذَلِكَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وتَلَقِّيهِمْ تِلْكَ النِّعَمِ بِالكُفْرِ وقِلَّةِ الطّاعَةِ. وعَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِن نِعَمِهِ ثَلاثًا: الأُولى: جَعْلُ أنْبِياءَ فِيهِمْ وذَلِكَ أعْظَمُ الشَّرَفِ، إذْ هُمُ الوَسائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ خَلْقِهِ، والمُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ شَرائِعَهُ. قِيلَ: لَمْ يُبْعَثْ في أُمَّةٍ ما بُعِثَ في بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الأنْبِياءِ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ ومُقاتِلٌ: الأنْبِياءُ هُنا هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتارَهم مُوسى لِمِيقاتِ رَبِّهِ، وكانُوا مِن خِيارِ قَوْمِهِ. وقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا مِن بَعْدُ في بَنِي إسْرائِيلَ كَمُوسى، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ وغَيْرُهُ؛ وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ ”جَعَلَ“ لا يُرادُ بِها حَقِيقَةُ الماضِي بِالفِعْلِ، إذْ بَعْضُهم كانَ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَ خِطابِ مُوسى إيّاهم، وبَعْضُهم لَمْ يُخْلَقْ بَلْ أخْبَرَ أنَّهُ سَيَكُونُ فِيهِمْ. الثّانِيَةُ: جَعْلُهم مُلُوكًا ظاهِرُهُ الِامْتِنانُ عَلَيْهِمْ بِأنْ جَعَلَهم مُلُوكًا إذْ جَعَلَ مِنهم مُلُوكًا، إذِ المُلْكُ شَرَفٌ في الدُّنْيا واسْتِيلاءٌ، فَذَكَّرَهم بِأنَّ مِنهم قادَةَ الآخِرَةِ وقادَةَ الدُّنْيا. وقالَ السُّدِّيُّ وغَيْرُهُ: وجَعَلَكم أحْرارًا تَمْلِكُونَ ولا تُمْلَكُونَ، إذْ كُنْتُمْ خَدَمًا لِلْقِبْطِ فَأنْقَذَكم مِنهم، فَسُمِّيَ اسْتِنْقاذُهم مُلْكًا. وقالَ قَوْمٌ: جَعَلَهم مُلُوكًا بِإنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى (p-٤٥٣)عَلَيْهِمْ وتَفْجِيرِ الحَجَرِ لَهم، وكَوْنِ ثِيابِهِمْ لا تَبْلى ولا تَتَّسِخُ وتَطُولُ كُلَّما طالُوا، فَهم مُلُوكٌ لِرَفْعِ هَذِهِ الكُلَفِ عَنْهم. وقالَ قَتادَةُ: مُلُوكًا لِأنَّهم أوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخُدّامَ واقْتَنَوُا الأرِقّاءَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وقَتادَةُ: وإنَّما قالَ وجَعَلَكم مُلُوكًا، لِأنّا كُنّا نَتَحَدَّثُ أنَّ أوَّلَ مَن خَدَمَهُ آخَرُ مِن بَنِي آدَمَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ، لِأنَّ القِبْطَ كانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إسْرائِيلَ. وظاهِرُ أمْرِ بَنِي آدَمَ أنَّ بَعْضَهم يُسَخِّرُ بَعْضًا مُنْذُ تَناسَلُوا وكَثُرُوا. انْتَهى.
وهَذِهِ الأقْوالُ الثَّلاثَةُ عامَّةٌ في جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ، وهو ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَكم مُلُوكًا﴾ . وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وجَماعَةٌ: مَن كانَ لَهُ مَسْكَنٌ وامْرَأةٌ وخادِمٌ فَهو مَلِكٌ. وقِيلَ: مَن لَهُ مَسْكَنٌ ولا يُدْخَلُ عَلَيْهِ فِيهِ إلّا بِإذْنٍ فَهو مَلِكٌ. وقِيلَ: مَن لَهُ زَوْجَةٌ وخادِمٌ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ عِكْرِمَةُ: مَن مَلَكَ عِنْدَهم خادِمًا وبَيْتًا دُعِيَ عِنْدَهم مَلِكًا. وقِيلَ: مِن لَهُ مَنزِلٌ واسِعٌ فِيهِ ماءٌ جارٍ. وقِيلَ: مَن لَهُ مالٌ لا يَحْتاجُ فِيهِ إلى تَكَلُّفِ الأعْمالِ وتَحَمُّلِ المَشاقِّ. وقِيلَ: مُلُوكٌ لِقَناعَتِهِمْ، وهو مُلْكٌ خَفِيٌّ. ولِهَذا جاءَ في الحَدِيثِ: «القَناعَةُ كَنْزٌ لا يَنْفَدُ» . وقِيلَ: لِأنَّهم مَلَكُوا أنْفُسَهم وذادُوها عَنِ الكُفْرِ ومُتابَعَةِ فِرْعَوْنَ. وقِيلَ: مَلَكُوا شَهَواتِ أنْفُسِهِمْ؛ ذَكَرَ هَذِهِ الأقْوالَ الثَّلاثَةَ التِّبْرِيزِيُّ في تَفْسِيرِهِ. الثّالِثَةُ: إيتاؤُهُ إيّاهم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، فَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَوى عَنْهُ مُجاهِدٌ: بِالمَنِّ والسَّلْوى والحَجَرِ والغَمامِ.
ورَوى عَنْهُ عَطاءٌ: الدّارُ، والزَّوْجَةُ، والخادِمُ. وقِيلَ: كَثْرَةُ الأنْبِياءِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ما أُوتِيَ أحَدٌ مِنَ النِّعَمِ في زَمانِ قَوْمِ مُوسى ما أُوتُوا، خُصُّوا بِفَلْقِ البَحْرِ لَهم، وإنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى، وإخْراجِ المِياهِ العَذْبَةِ مِنَ الحَجَرِ، ومَدِّ الغَمامِ فَوْقَهم. ولَمْ تُجْمَعِ النُّبُوَّةُ والمُلْكُ لِقَوْمٍ كَما جُمِعا لَهم، وكانُوا في تِلْكَ الأيّامِ هُمُ العُلَماءُ بِاللَّهِ وأحِبّاؤُهُ وأنْصارُ دِينِهِ. انْتَهى. وإنَّ المُرادَ كَثْرَةُ الأنْبِياءِ، أوْ خُصُوصاتُ مَجْمُوعِ آياتِ مُوسى. فَلَفْظُ (العالِمِينَ) مُقَيَّدٌ بِالزَّمانِ الَّذِي كانَ فِيهِ بَنُو إسْرائِيلَ، لِأنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، ﷺ، قَدْ أُوتِيَتْ مِن آياتِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، أكْثَرَ مِن ذَلِكَ؛ قَدْ ظُلِّلَ رَسُولُ اللَّهِ بِغَمامَةٍ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وكَلَّمَتْهُ الحِجارَةُ والبَهائِمُ، وأقْبَلَتْ إلَيْهِ الشَّجَرَةُ، وحَنَّ لَهُ الجِذْعُ، ونَبَعَ الماءُ مِن بَيْنِ أصابِعِهِ، وشَبِعَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ مِن قَلِيلِ الطَّعامِ بِبَرَكَتِهِ، وانْشَقَّ لَهُ القَمَرُ، وعادَ العُودُ سَيْفًا، وعادَ الحَجَرُ المُعْتَرِضُ في الخَنْدَقِ رَمْلًا مَهِيلًا؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن آياتِهِ العُظْمى ومُعْجِزاتِهِ الكُبْرى. وهَذِهِ المَقالَةُ مِن مُوسى لِبَنِي إسْرائِيلَ وتَذْكِيرُهم بِنِعَمِ اللَّهِ هي تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ، وتَقَدُّمٌ إلَيْهِمْ بِما يُلْقِي مِن أمْرِ قِتالِ الجَبّارِينَ لِيَقْوى جَأْشُهم، ولِيَعْلَمُوا أنَّ مَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ العَظِيمَةِ لا يَخْذُلُهُ اللَّهُ، بَلْ يُعْلِيهِ عَلى عَدُوِّهِ ويَرْفَعُ مِن شَأْنِهِ، ويَجْعَلُ لَهُ السَّلْطَنَةَ والقَهْرَ عَلَيْهِ.
والخِطابُ في قَوْلِهِ: وآتاكم، ظاهِرُهُ أنَّهُ لِبَنِي إسْرائِيلَ كَما شَرَحْناهُ، وأنَّهُ مِن كَلامِ مُوسى لَهم، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ أبُو مالِكٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ: هو خِطابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، وانْتَهى الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَكم مُلُوكًا﴾، ثُمَّ التَفَتَ إلى هَذِهِ الأُمَّةِ لَما ذَكَّرَ مُوسى قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ، ذَكَّرَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، ﷺ، بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الظّاهِرَةِ جَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، وأنَّهُ آتاهم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، وعَلى هَذا المُرادُ بِالعالَمِينَ: العُمُومُ، فَإنَّ اللَّهَ فَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، ﷺ، عَلى سائِرِ الأُمَمِ، وآتاهم ما لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، وأسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ ما لَمْ يُسْبِغْها عَلى أحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وهو اخْتِيارُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما ضُعِّفَ عِنْدَهُ لِأنَّ الكَلامَ في نَسَقٍ واحِدٍ مِن خِطابِ مُوسى لِقَوْمِهِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، ولا يَلْزَمُ ما قالَهُ، لِأنَّ القُرْآنَ جاءَ عَلى قانُونِ كَلامِ العَرَبِ مِنَ الِالتِفاتِ والخُرُوجِ مِن خِطابٍ إلى خِطابٍ، لا سِيَّما إذا كانَ ظاهِرُ الخِطابِ لا يُناسِبُ مَن خُوطِبَ أوَّلًا، وإنَّما يُناسِبُ مَن وُجِّهَ إلَيْهِ ثانِيًا، فَيُقَوِّي بِذَلِكَ تَوْجِيهَ الخِطابِ إلى الثّانِي إذا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلى ظاهِرِهِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يا قَوْمُ، بِضَمِّ المِيمِ، وكَذا (p-٤٥٤)حَيْثُ وقَعَ في القُرْآنِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وهَذا الضَّمُّ هو عَلى مَعْنى الإضافَةِ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: (قُلْ رَبُّ احْكم بِالحَقِّ)، بِالضَّمِّ، وهي إحْدى اللُّغاتِ الخَمْسِ الجائِزَةِ في المُنادى المُضافِ لِياءِ المُتَكَلِّمِ.
﴿ياقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ المُقَدَّسَةُ المُطَهَّرَةُ، وهي أرِيحا؛ قالَهُ: السُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ، ورَواهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: مَوْضِعُ بَيْتِ المَقْدِسِ. وقِيلَ: إيلِيا. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَرَأْتُ في مُناجاةِ مُوسى قالَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ اخْتَرْتَ، فَذَكَرَ أشْياءَ ثُمَّ قالَ: رَبَّ إيلِيا بَيْتِ المَقْدِسِ. وقالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: قَرَأْتُ عَلى أبِي مَنصُورٍ اللُّغَوِيِّ قالَ: إيلِيا بَيْتُ المَقْدِسِ. قالَ الفَرَزْدَقُ:
؎وبَيْتانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ نَزُورُهُ وبَيْتٌ بِأعْلى إيلِياءَ مُشَرَّفُ
وقِيلَ: الطُّورُ، رَواهُ مُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ. وقِيلَ: فِلَسْطِينُ ودِمَشْقُ وبَعْضُ الأُرْدُنِّ. قالَ قَتادَةُ: هي الشّامُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: صَعِدَ إبْراهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلامُ،، جَبَلَ لُبْنانٍ فَقالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْظُرْ فَما أدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهو مُقَدَّسٌ، وهو مِيراثٌ لِذُرِّيَّتِكَ. وقِيلَ: ما بَيْنَ الفُراتِ وعَرِيشِ مِصْرَ. قالَ الطَّبَرِيُّ: لا يُخْتَلَفُ أنَّها ما بَيْنَ الفُراتِ وعَرِيشِ مِصْرَ، قالَ: وقالَ الأُدْفُوِيُّ: أجْمَعَ أهْلُ التَّأْوِيلِ والسِّيَرِ، والعُلَماءُ بِالأخْبارِ أنَّها ما بَيْنَ الفُراتِ وعَرِيشِ مِصْرَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: تَظاهَرَتِ الرِّواياتُ أنَّ دِمَشْقَ هي قاعِدَةُ الجَبّارِينَ. انْتَهى.
والتَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ، قِيلَ: مِنَ الآفاتِ. وقِيلَ: مِنَ الشِّرْكِ، جُعِلَتْ مَسْكَنًا وقَرارًا لِلْأنْبِياءِ، وغَلَبَةُ الجَبّارِينَ عَلَيْها لا يُخْرِجُها عَنْ أنْ تَكُونَ مُقَدَّسَةً. وقِيلَ: المُقَدَّسَةُ: المُبارَكَةُ، طُهِّرَتْ مِنَ القَحْطِ والجُوعِ وغَيْرِ ذَلِكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وقِيلَ: سُمِّيتْ مُقَدَّسَةً لِأنَّ فِيها المَكانَ الَّذِي يُتَقَدَّسُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، ومِنهُ قِيلَ: لِلسَّطْلِ قُدُسٌ لِأنَّهُ يُتَوَضَّأُ بِهِ ويُتَطَهَّرُ. ومَعْنى كَتَبَها اللَّهُ لَكم: قَسَمَها، وسَمّاها، أوْ خَطَّ في اللَّوْحِ أنَّها لَكم مَسْكَنٌ وقَرارٌ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: وهَبَها لَكم. وقالَ السُّدِّيُّ: أمَرَكم بِدُخُولِها، وفي ذَلِكَ تَنْشِيطٌ لَهم وتَقْوِيَةٌ إذا خَبَّرَهم بِأنَّ اللَّهَ كَتَبَها لَهم. والظّاهِرُ اسْتِعْمالُ (كَتَبَ) في الفَرْضِ كَقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ﴾ [البقرة: ٢١٦] وأمّا إنْ كانَ كَتَبَها بِمَعْنى خَطَّ في الأزَلِ، وقَضى، فَلا يَحْتاجُ ظاهِرُ هَذا اللَّفْظِ ظاهِرَ قَوْلِهِ: ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ . فَقِيلَ: اللَّفْظُ عامٌّ. والمُرادُ الخُصُوصُ، كَأنَّهُ قالَ: مَكْتُوبَةٌ لِبَعْضِهِمْ وحَرامٌ عَلى بَعْضِهِمْ، أوْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ امْتِثالِ القِتالِ، فَلَمْ يَمْتَثِلُوا، فَلَمْ يَقَعِ المَشْرُوطُ، أوِ التَّحْرِيمُ مُقَيَّدٌ بِأرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمّا انْقَضَتْ جَعَلَ ما كَتَبَ. وأمّا إنْ كانَ كَتَبَها لَهم بِمَعْنى أمَرَكم بِدُخُولِها، فَلا يُعارِضُ التَّحْرِيمَ. حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَها وماتُوا في التِّيهِ، ودَخَلَ مَعَ مُوسى أبْناؤُهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: إنَّ مُوسى وهارُونَ، عَلَيْهِما السَّلامُ،، ماتا في التِّيهِ، وإنَّما خَرَجَ أبْناؤُهم مَعَ حَزْقِيلَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتْ هِبَةً، ثُمَّ حَرَّمَها عَلَيْهِمْ بِعِصْيانِهِمْ.
﴿ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ أيْ: لا تَنْكِصُوا عَلى أعْقابِكم مِن خَوْفِ الجَبابِرَةِ جُبْنًا وهَلَعًا. وقِيلَ: حَدَّثَهُمُ النُّقَباءُ بِحالِ الجَبابِرَةِ رَفَعُوا أصْواتَهم بِالبُكاءِ، وقالُوا: لَيْتَنا مُتْنا بِمِصْرَ، وقالُوا: تَعالَوْا نَجْعَلْ عَلَيْنا رَأْسًا يَنْصَرِفُ بِنا إلى مِصْرَ. ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ: لا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكم في دِينِكم لِمُخالَفَتِكم أمْرَ رَبِّكم.
وانْقِلابِهِمْ خاسِرِينَ، إنْ كانَ الِارْتِدادُ حَقِيقِيًّا وهو الرُّجُوعُ إلى المَكانِ الَّذِي خُرِجَ مِنهُ؛ فَمَعْناهُ: يَصِيرُونَ إلى الذُّلِّ بَعْدَ العِزِّ والخَلاصِ مِن أيْدِي القِبْطِ. وإنْ كانَ الِارْتِدادُ مَجازًا وهو ارْتِدادُهم عَنْ دِينِهِمْ؛ فَمَعْناهُ: يَخْسَرُونَ خَيْرَ الدُّنْيا وثَوابَ الآخِرَةِ. وحَقِيقٌ بِالخُسْرانِ مَن خالَفَ ما فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الجِهادِ وخالَفَ أمْرَهُ.
﴿قالُوا يا مُوسى إنَّ فِيها قَوْمًا جَبّارِينَ﴾ أيْ: قالَ النُّقَباءُ الَّذِينَ سَيَّرَهم مُوسى لِكَشْفِ حالِ الجَبابِرَةِ، أوْ قالَ رُؤَساؤُهُمُ الَّذِينَ عادَتُهم أنْ يُطْلَعُوا عَلى الأسْرارِ وأنْ يُشاوَرُوا في الأُمُورِ. وهَذا القَوْلُ فِيهِ بُعْدٌ لِتَقاعُسِهِمْ عَنِ القِتالِ؛ أيْ: إنَّ فِيها مَن لا نُطِيقُ قِتالَهم. قِيلَ: هم مِن بَقايا عادٍ، (p-٤٥٥)وقِيلَ: مِنَ الرُّومِ مِن ولَدِ عِيصَ بْنِ إسْحاقَ. وقَرَأ ابْنُ السُّمَيْقِعِ: (قالُوا يا مُوسى فِيها قَوْمٌ جَبّارُونَ) .
﴿وإنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنها﴾ هَذا تَصْرِيحٌ بِالِامْتِناعِ التّامِّ مِن أنْ يُقاتِلُوا الجَبابِرَةَ، ولِذَلِكَ كانَ النَّفْيُ بِلَنْ. ومَعْنى ﴿حَتّى يَخْرُجُوا مِنها﴾: بِقِتالِ غَيْرِنا، أوْ بِسَبَبٍ يُخْرِجُهُمُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْرُجُونَ.
﴿فَإنْ يَخْرُجُوا مِنها فَإنّا داخِلُونَ﴾ وهَذا تَوْجِيهٌ مِنهم لِأنْفُسِهِمْ بِخُرُوجِ الجَبّارِينَ مِنها، إذْ عَلَّقُوا دُخُولَهم عَلى شَرْطٍ مُمْكِنٍ وُقُوعُهُ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكُّوا فِيما وعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ، ولَكِنْ كانَ نُكُوصُهم عَنِ القِتالِ مِن خَوَرِ الطَّبِيعَةِ والجُبْنِ الَّذِي رَكَّبَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، ولا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلّا مَن عَصَمَهُ اللَّهُ وقالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ تَوَلَّوْا إلّا قَلِيلًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٦] . وقِيلَ: قالُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِبْعادِ أنْ يَقَعَ خُرُوجُ الجَبّارِينَ مِنها كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ﴾ [الأعراف: ٤٠] .
﴿قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ﴾ الأشْهَرُ عِنْدَ المُفَسِّرِينَ: أنَّ الرَّجُلَيْنِ هُما يُوشَعُ بْنُ نُونَ بْنِ أفْراثِيمَ بْنِ يُوسُفَ وهو ابْنُ أُخْتِ مُوسى، وكالِبُ بْنُ يُوقَنّا خَتَنُ مُوسى عَلى أُخْتِهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرانَ ويُقالُ فِيهِ: كِلابُ، ويُقالُ: كالُوبُ، وهُما اللَّذانِ وفَّيا مِنَ النُّقَباءِ الَّذِينَ بَعَثَهم مُوسى في كَشْفِ أحْوالِ الجَبابِرَةِ فَكَتَما ما اطَّلَعا عَلَيْهِ مِن حالِ الجَبابِرَةِ إلّا عَنْ مُوسى، وأفْشى ذَلِكَ بَقِيَّةُ النُّقَباءِ في أسْباطِهِمْ فَآلَ بِهِمْ ذَلِكَ إلى الخَوَرِ والجُبْنِ بِحَيْثُ امْتَنَعُوا عَنِ القِتالِ. وقِيلَ: الرَّجُلانِ كانا مِنَ الجَبّارِينَ آمَنا بِمُوسى واتَّبَعاهُ، وأنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما بِالإيمانِ. فَإنْ كانَ الرَّجُلانِ هُما يُوشَعُ وكالِبُ فَمَعْنى قَوْلِهِ: يَخافُونَ؛ أيْ: يَخافُونَ اللَّهَ، ويَكُونُ إذْ ذاكَ مَعَ مُوسى أقْوامٌ يَخافُونَ اللَّهَ فَلا يُبالُونَ بِالعَدُوِّ لِصِحَّةِ إيمانِهِمْ ورَبْطِ جَأْشِهِمْ، وهَذانِ مِنهم. أوْ يَخافُونَ العَدُوَّ، ولَكِنْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما بِالإيمانِ والثَّباتِ، أوْ يَخافُهم بَنُو إسْرائِيلَ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ في يَخافُونَ عائِدًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، والضَّمِيرُ الرّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالمَوْصُولِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَهم؛ أيْ: يَخافُهم بَنُو إسْرائِيلَ. ويَدُلُّ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٍ، يُخافُونَ، بِضَمِّ الياءِ. وتَحْتَمِلُ هَذِهِ القِراءَةُ أنْ يَكُونَ الرَّجُلانِ يُوشِعَ وكالِبَ. ومَعْنى (يُخافُونَ)؛ أيْ: يُهابُونَ ويُوَقَّرُونَ ويُسْمَعُ كَلامُهم؛ لِتَقْواهم وفَضْلِهِمْ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن أخافَ؛ أيْ: يُخِيفُونَ بِأوامِرِ اللَّهِ ونَواهِيهِ وزَجْرِهِ ووَعِيدِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَدْحًا لَهم كَقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى﴾ [الحجرات: ٣] والجُمْلَةُ مِن ﴿أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما﴾ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: رَجُلانِ، وصْفًا أوَّلًا بِالجارِّ والمَجْرُورِ، ثُمَّ ثانِيًا بِالجُمْلَةِ. وهَذا عَلى التَّرْتِيبِ الأكْثَرِ في تَقْدِيمِ المَجْرُورِ أوِ الظَّرْفِ عَلى الجُمْلَةِ إذا وُصِفَتْ بِهِما، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ حالًا عَلى إضْمارِ قَدْ، وأنْ تَكُونَ اعْتِراضًا، فَلا يَكُونَ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ. وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما ويْلَكُمُ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ. والبابُ: بابُ مَدِينَةِ الجَبّارِينَ؛ والمَعْنى: أقْدِمُوا عَلى الجِهادِ وكافِحُوا حَتّى تَدْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى كانَ قَدْ أنْزَلَ مَحَلَّتَهُ قَرِيبًا مِنَ المَدِينَةِ.
﴿فَإذا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكم غالِبُونَ﴾ قالا ذَلِكَ ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ . وقِيلَ: رَجاءً لِنَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ، وغَلَبَ ذَلِكَ عَلى ظَنِّهِمْ. وما غُزِيَ قَوْمٌ في عُقْرِ دِيارِهِمْ إلّا ذَلُّوا، وإذا لَمْ يَكُونُوا حافِظِي بابِ مَدِينَتِهِمْ حَتّى دُخِلَ وهو المُهِمُّ، فَلَأنْ لا يَحْفَظُوا ما وراءَ البابِ أوْلى. وعَلى قَوْلِ أنَّ الرَّجُلَيْنِ كانا مِنَ الجَبّارِينَ فَقِيلَ: إنَّهُما قالا لَهم: إنَّ العَمالِقَةَ أجْسامٌ لا قُلُوبَ فِيها فَلا تَخافُوهم، وارْجِعُوا إلَيْهِمْ فَإنَّكم غالِبُوهم؛ تَشْجِيعًا لَهم عَلى قِتالِهِمْ.
﴿وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لَمّا رَأيا بَنِي إسْرائِيلَ (p-٤٥٦)قَدْ عَصَوُا الرَّسُولَ في الإقْدامِ عَلى الجِهادِ مَعَ وعْدِ اللَّهِ لَهُمُ السّابِقِ، اسْتَرابا في إيمانِهِمْ، فَأمَراهم بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ إذْ هو المَلْجَأُ والمَفْزَعُ عِنْدَ الشَّدائِدِ، وعَلَّقا ذَلِكَ بِشَرْطِ الإيمانِ الَّذِي اسْتَرابا في حُصُولِهِ لِبَنِي إسْرائِيلَ.
﴿قالُوا يامُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها﴾ لَمّا كَرَّرَ عَلَيْهِمْ أمْرَ القِتالِ كَرَّرُوا الِامْتِناعَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ بِالمُولِيَيْنِ، وقَيَّدُوا أوَّلًا نَفْيَ الدُّخُولِ بِالظَّرْفِ المُخْتَصِّ بِالِاسْتِقْبالِ وحَقِيقَتُهُ التَّأْبِيدُ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى الزَّمانِ المُتَطاوِلِ فَكَأنَّهم نَفَوُا الدُّخُولَ طُولَ الأبَدِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى تَعْلِيقِ ذَلِكَ بِدَيْمُومَةِ الجَبّارِينَ فِيها، فَأبْدَلُوا زَمانًا مُقَيَّدًا مِن زَمانٍ هو ظاهِرٌ في العُمُومِ في الزَّمانِ المُسْتَقْبَلِ، فَهو بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ.
﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا﴾ ظاهِرُ الذَّهابِ الِانْتِقالُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُشَبِّهَةً، ولِذَلِكَ قالَ الحَسَنُ: هو كُفْرٌ مِنهم بِاللَّهِ تَعالى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والظّاهِرُ أنَّهم قالُوا ذَلِكَ اسْتِهانَةً بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وقِلَّةَ مُبالاةٍ بِهِما واسْتِهْزاءً، وقَصَدُوا ذَهابَهُما حَقِيقَةً لِجَهْلِهِمْ وجَفائِهِمْ وقَسْوَةِ قُلُوبِهِمُ الَّتِي عَبَدُوا بِها العِجْلَ، وسَألُوا بِها رُؤْيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ مُقابَلَةُ ذَهابِهِما بِقُعُودِهِمْ. ويُحْكى أنَّ مُوسى وهارُونَ خَرّا لِوُجُوهِهِما قُدّامَهم لِشِدَّةِ ما ورَدَ عَلَيْهِما فَهَمُّوا بِرَجْمِهِما، ولِأمْرٍ ما قَرَنَ اللَّهُ اليَهُودَ بِالمُشْرِكِينَ وقَدَّمَهم عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [المائدة: ٨٢] وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أنْ لا يَقْصِدُوا الذَّهابَ حَقِيقَةً، ولَكِنْ كَما تَقُولُ: كَلَّمْتُهُ فَذَهَبَ يُجِيبُنِي، يُرِيدُ مَعْنى الإرادَةِ والقَصْدِ لِلْجَوابِ، كَأنَّهم قالُوا: أُرِيدَ إقْبالُهم.
والمُرادُ بِالرَّبِّ هُنا هو اللَّهُ تَعالى. وذَكَرَ النَّقّاشُ عَنْ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ هُنا أنَّ المُرادَ بِالرَّبِّ هارُونُ، لِأنَّهُ كانَ أسَنَّ مِن مُوسى، وكانَ مُعَظَّمًا في بَنِي إسْرائِيلَ مُحَبَّبًا لِسِعَةِ خُلُقِهِ ورُحْبِ صَدْرِهِ، فَكَأنَّهم قالُوا: اذْهَبْ أنْتَ وكَبِيرُكَ. وهو تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ يُخَلِّصُ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الكُفْرِ. ورَبُّكَ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَسْتَكِنُّ في اذْهَبِ المُؤَكَّدِ بِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [الأعراف: ١٩] ورَدَدْنا قَوْلَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلى فِعْلِ أمْرٍ مَحْذُوفٍ يُمْكِنُ رَفْعُهُ الظّاهِرُ، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ؛ التَّقْدِيرُ: فاذْهَبْ ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ. وذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى أنَّ الواوَ واوُ الحالِ، ورَبُّكَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ. أوْ تَكُونُ الجُمْلَةُ دُعاءً، والتَّقْدِيرُ فِيهِما: ورَبُّكَ يُعِينُكَ، وهَذا التَّأْوِيلُ فاسِدٌ بِقَوْلِهِ فَقاتِلا.
(إنّا هَهُنا قاعِدُونَ) هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهم خارَتْ طِباعُهم فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى النُّهُوضِ مَعَهُ لِلْقِتالِ، ولا عَلى الرُّجُوعِ مِن حَيْثُ جاءُوا، بَلْ أقامُوا حَيْثُ كانَتِ المُحاوَرَةُ بَيْنَ مُوسى وبَيْنَهم. و(ها) مِن قَوْلِهِ (هاهُنا) لِلتَّنْبِيهِ، و(هُنا) ظَرْفُ مَكانٍ لِلْقَرِيبِ، والعامِلُ فِيهِ قاعِدُونَ. ويَجُوزُ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ الظَّرْفَ، وما بَعْدَهُ حالٌ فَيَنْتَصِبُ، وأنْ يَكُونَ الخَبَرُ الِاسْمَ والظَّرْفُ مَعْمُولٌ لَهُ. وهو أفْصَحُ.
﴿قالَ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي وأخِي﴾ لَمّا عَصَوْا أمْرَ اللَّهِ وتَمَرَّدُوا عَلى مُوسى وسَمِعَ مِنهم ما سَمِعَ مِن كَلِمَةِ الكُفْرِ وسُوءِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ ولَمْ يَبْقَ (p-٤٥٧)مَعَهُ مَن يَثِقُ بِهِ إلّا هارُونَ قالَ ذَلِكَ، وهَذا مِنَ الكَلامِ المُنْطَوِي صاحِبُهُ عَلى الِالتِجاءِ إلى اللَّهِ والشَّكْوى إلَيْهِ ورِقَّةِ القَلْبِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ الرَّحْمَةَ وتَسْتَنْزِلُ النُّصْرَةَ، ونَحْوُهُ قَوْلُ يَعْقُوبَ: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ [يوسف: ٨٦] وعَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ كانَ يَدْعُو النّاسَ عَلى مِنبَرِ الكُوفَةِ إلى قِتالِ المُنافِقِينَ فَما أجابَهُ إلّا رَجُلانِ، فَتَنَفَّسَ الصُّعَداءَ ودَعا لَهُما وقالَ: أيْنَ تَتْبَعانِ مِمّا أُرِيدُ ؟ والظّاهِرُ أنَّ وأخِي مَعْطُوفٌ عَلى نَفْسِي، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ وأخِي مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ؛ أيْ: وأخِي لا يَمْلِكُ إلّا نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ عَطَفَ جُمْلَةً غَيْرَ مُؤَكَّدَةٍ عَلى جُمْلَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، أوْ مَنصُوبًا عَطْفًا عَلى اسْمِ (إنَّ)؛ أيْ: وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلّا نَفْسَهُ؛ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، ويَكُونُ قَدْ عُطِفَ الِاسْمُ والخَبَرُ عَلى الخَبَرِ، نَحْوَ: إنَّ زَيْدًا قائِمٌ وعَمْرًا شاخِصٌ؛ أيْ: وإنَّ عَمْرًا شاخِصٌ. وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ والزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ وأخِي مَرْفُوعًا عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ المَسْتَكِنُّ في أمْلِكُ، وأجازَ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُما بِالمَفْعُولِ المَحْصُورِ. ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنَّ مُوسى وهارُونَ، عَلَيْهِما السَّلامُ، لا يَمْلِكانِ إلّا نَفْسَ مُوسى فَقَطْ، ولَيْسَ المَعْنى عَلى ذَلِكَ، بَلِ الظّاهِرُ أنَّ مُوسى يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ وأمْرَ أخِيهِ فَقَطْ. وجَوَّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلى ياءِ المُتَكَلِّمِ في نَفْسِي، وهو ضَعِيفٌ عَلى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ. وكَأنَّهُ في هَذا الحَصْرِ لَمْ يَثِقْ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قالا: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ﴾، ولَمْ يَطْمَئِنَّ إلى ثَباتِهِما لِما عايَنَ مِن أحْوالِ قَوْمِهِ وتَلَوُّنِهِمْ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، فَلَمْ يَذْكُرْ إلّا النَّبِيَّ المَعْصُومَ الَّذِي لا شُبْهَةَ في ثَباتِهِ. قِيلَ أوْ قالَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الضَّجَرِ عِنْدَما سَمِعَ مِنهم تَعْلِيلًا لِمَن يُوافِقُهُ، أوْ أرادَ بِقَوْلِهِ: وأخِي، مَن يُوافِقُنِي في الدِّينِ لا هارُونَ خاصَّةً. وقَرَأ الحَسَنُ: ﴿إلّا نَفْسِي وأخِي﴾ بِفَتْحِ الياءِ فِيهِما.
﴿فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ دَعا بِأنْ يُفَرِّقَ اللَّهُ بَيْنَهُما وبَيْنَهم بِأنْ يَفْقِدَ وُجُوهَهم ولا يُشاهِدَ صُوَرَهم إذا كانُوا عاصِينَ لَهُ مُخالِفِينَ أمْرَ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ نَبَّهَ عَلى العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ الفُسَّقِ فالمُطِيعُ لا يُرِيدُ صُحْبَةَ الفاسِقِ ولا يُؤْثِرُها لِئَلّا يُصِيبَهُ بِالصُّحْبَةِ ما يُصِيبُهُ، ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، (أنَهْلَكُ وفِينا الصّالِحُونَ) وقَبِلَ اللَّهُ دُعاءَهُ فَلَمْ يَكُونا مَعَهم في التِّيهِ، بَلْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم، لِأنَّ التِّيهَ كانَ عِقابًا خُصَّ بِهِ الفاسِقُونَ العاصُونَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ وغَيْرُهُما: المَعْنى فافْصِلْ بَيْنَنا بِحُكْمٍ يُزِيلُ هَذا الِاخْتِلافَ ويَلُمُّ الشَّعَثَ. وقِيلَ: المَعْنى فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَهم في الآخِرَةِ حَتّى تَكُونَ مَنزِلَةُ المُطِيعِ مُفارَقَةً لِمَنزِلَةِ العاصِي الفاسِقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فافْصِلْ بَيْنَنا وبَيْنَهم بِأنْ تَحْكُمَ لَنا بِما نَسْتَحِقُّ، وعَلَيْهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ، وهو في مَعْنى الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ، ولِذَلِكَ وصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، عَلى وجْهِ التَّشْبِيهِ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ويُوسُفُ بْنُ داوُدَ: فافْرِقْ، بِكَسْرِ الرّاءِ، وقالَ الرّاجِزُ:
؎يا رَبِّ فافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي ∗∗∗ أشَدَّ ما فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنِ
وقَرَأ ابْنُ السُّمَيْفِعِ: (فَفَرِّقْ) . والفاسِقُونَ هُنا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: العاصُونَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الكاذِبُونَ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: الكافِرُونَ.
﴿قالَ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ: قالَ اللَّهُ (p-٤٥٨)تَعالى فَأُضْمِرَ في قالَ، وضَمِيرُ (فَإنَّها) إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ أيْ: مُحَرَّمٌ دُخُولُها وتَمَلُّكُهم إيّاها وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى انْتِظامِ قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾، ودَلَّ هَذا عَلى أنَّهم بَعْدَ الأرْبَعِينَ لا تَكُونُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. فَرُوِيَ أنَّ مُوسى وهارُونَ، عَلَيْهِما السَّلامُ، كانا مَعَهم في التِّيهِ عُقُوبَةً لَهم ورَوْحًا وسَلامًا لَهُما، لا عُقُوبَةً، كَما كانَتِ النّارُ لِإبْراهِيمَ ولِمَلائِكَةِ العَذابِ. فَرُوِيَ أنَّ مُوسى سارَ بَعْدَ الأرْبَعِينَ بِمَن بَقِيَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ يُوشَعُ وكالِبُ عَلى مُقَدَّمَتِهِ، فَفَتَحَ أرِيحا وقَتَلَ عُوجَ بْنَ عُنُقَ، وذَكَرُوا مِن وصْفِ عُوجَ وكَيْفِيَّةِ قَتْلِ مُوسى لَهُ ما لا يَصِحُّ. وأقامَ مُوسى فِيها ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ قُبِضَ. وقِيلَ: ماتَ هارُونُ في التِّيهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَمْ يُخْتَلَفْ في هَذا. ورُوِيَ: أنَّ مُوسى ماتَ في التِّيهِ بَعْدَ هارُونَ بِثَمانِيَةِ أعْوامٍ. وقِيلَ: بِسِتَّةِ أشْهُرٍ ونِصْفٍ. وقِيلَ: بِسَنَةٍ ونَبَّأ اللَّهُ يُوشَعَ بَعْدَ كَمالِ الأرْبَعِينَ سَنَةً فَصَدَّقَهُ بَنُو إسْرائِيلَ، وأخْبَرَهم أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِقِتالِ الجَبابِرَةِ فَصَدَّقُوهُ وبايَعُوهُ، وسارَ فِيهِمْ إلى أرِيحا وقَتَلَ الجَبّارِينَ وأخْرَجَهم، وصارَ الشّامُ كُلُّهُ لِبَنِي إسْرائِيلَ. وفي تِلْكَ الحَرْبِ وقَفَتْ لَهُ الشَّمْسُ ساعَةً حَتّى اسْتَمَرَّ وهَزَمَ الجَبّارِينَ، وقَدْ ألَمَّ بِذِكْرِ وُقُوفِ الشَّمْسِ لِيُوشَعَ أبُو تَمّامٍ في شِعْرِهِ فَقالَ:
؎فَرُدَّتْ عَلَيْنا الشَّمْسُ واللَّيْلُ راغِمٌ ∗∗∗ بِشَمْسٍ بَدَتْ مِن جانِبِ الخِدْرِ تَطْلُعُ
؎نَضا ضَوْءُها صِبْغَ الدُّجُنَّةِ وانْطَوى ∗∗∗ لِبَهْجَتِها ثَوْبُ السَّماءِ المُجَزَّعُ
؎فَواللَّهِ ما أدْرِي أأحْلامُ نائِمٍ ∗∗∗ ألَمَّتْ بِنا أمْ كانَ في الرَّكْبِ يُوشَعُ
والظّاهِرُ أنَّ العامِلَ في قَوْلِهِ أرْبَعِينَ: مُحَرَّمَةٌ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ مُقَيَّدًا بِهَذِهِ المُدَّةِ، ويَكُونُ يَتِيهُونَ مُسْتَأْنَفًا أوْ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في (عَلَيْهِمْ) . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ العامِلُ يَتِيهُونَ؛ أيْ: يَتِيهُونَ هَذِهِ المُدَّةَ في الأرْضِ، ويَكُونُ التَّحْرِيمُ عَلى هَذا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ بِهَذِهِ المُدَّةِ، بَلْ يَكُونُ إخْبارًا بِأنَّهم لا يَدْخُلُونَها، وأنَّهم مَعَ ذَلِكَ يَتِيهُونَ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً يَمُوتُ فِيها مَن ماتَ. ورُوِيَ أنَّهُ مَن كانَ جاوَزَ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يَعِشْ إلى الخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وأنَّ مَن كانَ دُونَ العِشْرِينَ عاشُوا، كَأنَّهُ لَمْ يَعِشِ المُكَلَّفُونَ العُصاةُ، أشارَ إلى ذَلِكَ الزَّجّاجُ، ولِذَلِكَ ذَهَبَ إلى أنَّ العامِلَ في أرْبَعِينَ مُحَرَّمَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ في أرْبَعِينَ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ يَتِيهُونَ المُتَأخِّرُ. انْتَهى. ولا أدْرِي ما الحامِلُ لَهُ عَلى قَوْلِهِ: إنَّ العامِلَ مُضْمَرٌ كَما ذَكَرَ ! بَلِ الَّذِي جَوَّزَ النّاسُ في ذَلِكَ أنْ يَكُونَ العامِلَ فِيهِ يَتِيهُونَ نَفْسُهُ، لا مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: ﴿يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ . والأرْضُ الَّتِي تاهُوا فِيها عَلى ما حُكِيَ طُولُها ثَلاثُونَ مِيلًا، في عَرْضِ سِتَّةِ فَراسِخَ، وهو ما بَيْنَ مِصْرَ والشّامِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تِسْعَةُ فَراسِخَ، قالَ مُقاتِلٌ: هَذا عَرْضُها وطُولُها ثَلاثُونَ فَرْسَخًا. وقِيلَ: سِتَّةُ فَراسِخَ في طُولِ اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا، وقِيلَ: تِسْعَةُ فَراسِخَ. وتَظافَرَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذا التِّيهَ عَلى سَبِيلِ خَرْقِ العادَةِ، فَإنَّهُ عَجِيبٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، حَيْثُ جازَ عَلى جَماعَةٍ مِنَ العُقَلاءِ أنْ يَسِيرُوا فَراسِخَ يَسِيرَةً ولا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنها. رُوِيَ أنَّهم كانُوا يَرْحَلُونَ بِاللَّيْلِ ويَسِيرُونَ لَيْلَهم أجْمَعَ، حَتّى إذا أصْبَحُوا وجَدُوا جُمْلَتَهم في المَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأُوا مِنهُ، ويَسِيرُونَ النَّهارَ جادِّينَ حَتّى إذا أمْسَوْا إذا هم بِحَيْثُ ارْتَحَلُوا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَيْرُهم تَحْلِيقًا. قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: كانُوا يَسِيرُونَ النَّهارَ أحْيانًا واللَّيْلَ أحْيانًا، فَيُمْسُونَ حَيْثُ أصْبَحُوا، ويُصْبِحُونَ حَيْثُ يُمْسُونَ، وذَلِكَ في مِقْدارِ سِتَّةِ فَراسِخَ، وكانُوا في سَيّارَةٍ لا قَرارَ لَهم. انْتَهى. وذُكِرَ (p-٤٥٩)أنَّهم كانُوا سِتَّمِائَةِ ألْفٍ مُقاتِلِينَ، وذَكَرُوا أنَّ حِكْمَةَ التِّيهِ هو أنَّهم لَمّا قالُوا: ﴿إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ عُوقِبُوا بِالقُعُودِ، فَصارُوا في صُورَةِ القاعِدِينَ وهم سائِرُونَ، كُلَّما سارُوا يَوْمًا أمْسَوْا في المَكانِ الَّذِي أصْبَحُوا فِيهِ. وذَكَرُوا أنَّ حِكْمَةَ كَوْنِ المُدَّةِ الَّتِي تاهُوا فِيها أرْبَعِينَ سَنَةً هي كَوْنُهم عَبَدُوا العِجْلَ أرْبَعِينَ يَوْمًا، جُعِلَ عِقابُ كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً في التِّيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويِحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ تِيهُهم بِافْتِراقِ الكَلِمَةِ، وقِلَّةِ اجْتِماعِ الرَّأْيِ، وأنَّهُ تَعالى رَماهم بِالِاخْتِلافِ، وعَلِمُوا أنَّها حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَفَرَّقَتْ مَنازِلُهم في ذَلِكَ الفَحْصِ، وأقامُوا يَنْتَقِلُونَ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ عَلى غَيْرِ نِظامٍ واجْتِماعٍ حَتّى كَمُلَتْ هَذِهِ المُدَّةُ، وأذِنَ اللَّهُ تَعالى بِخُرُوجِهِمْ، وهَذا تِيهٌ مُمْكِنٌ مُحْتَمَلٌ عَلى عُرْفِ البَشَرِ. والآخَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجاهِدٌ إنَّما هو خَرْقُ عادَةٍ وعَجَبٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى.
﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِلِمُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَدِمَ مُوسى عَلى دُعائِهِ عَلى قَوْمِهِ وحَزِنَ عَلَيْهِمْ. انْتَهى. فَهَذِهِ مَسْلاةٌ لِمُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ أنْ يَحْزَنَ عَلى ما أصابَ قَوْمَهُ، وعَلَّلَ كَوْنَهُ لا يَحْزَنُ بِأنَّهم قَوْمٌ فاسِقُونَ بُهُوتٌ أحِقّاءُ بِما نالَهم مِنَ العِقابِ. وقِيلَ: الخِطابُ لِمُحَمَّدٍ، ﷺ، والمُرادُ بِالفاسِقِينَ مُعاصِرُوهُ؛ أيْ: هَذِهِ فِعالُ أسْلافِهِمْ فَلا تَحْزَنْ أنْتَ بِسَبَبِ أفْعالِهِمُ الخَبِيثَةِ مَعَكَ ورَدِّهِمْ عَلَيْكَ فَإنَّها سَجِيَّةٌ خَبِيثَةٌ مَوْرُوثَةٌ عِنْدَهم.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ","قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰخِلُونَ","قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ","قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ","قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ","قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"],"ayah":"وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق