الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ، وابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ والنَّصارى، آمَنَتِ اليَهُودُ بِمُوسى والتَّوْراةِ، وكَفَرَتْ بِعِيسى، ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِما السَّلامُ، وآمَنَتِ النَّصارى بِعِيسى والإنْجِيلِ، وكَفَرَتْ بِمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ. وقِيلَ نَزَلَتْ في اليَهُودِ خاصَّةً، آمَنُوا بِمُوسى وعُزَيْرٍ والتَّوْراةِ، وكَفَرُوا بِعِيسى والإنْجِيلِ، ومُحَمَّدٍ والقُرْآنِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ ما عَلَيْهِ المُنافِقُونَ مِن سُوءِ الخَلِيقَةِ ومَذْمُومِ الطَّرِيقَةِ أخَذَ في الكَلامِ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى؛ جَعَلَ كُفْرَهم بِبَعْضِ الرُّسُلِ كُفْرًا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وكُفْرَهم بِالرُّسُلِ كُفْرًا بِاللَّهِ تَعالى.
﴿ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ﴾؛ أيْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الإيمانِ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ، ولا نُؤْمِنُ بِفُلانٍ وفُلانٍ مِنَ الأنْبِياءِ.
﴿ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ يَعْنِي مِنَ الأنْبِياءِ. وقِيلَ هو تَصْدِيقُ اليَهُودِ بِمُحَمَّد أنَّهُ نَبِيٌّ؛ ولَكِنْ لَيْسَ إلى بَنِي إسْرائِيلَ. ونَحْوُ هَذا مِن تَفَرُّقاتِهِمُ الَّتِي كانَتْ تَعَنُّتًا، ورَوَغانًا.
﴿ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾؛ أيْ طَرِيقًا وسَطًا بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ، ولا واسِطَةَ بَيْنَهُما.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا﴾ أكَّدَ بِقَوْلِهِ هم، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ ذَلِكَ الإيمانَ يَنْفَعُهم. وأكَّدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا، وهو تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ، كَما تَقُولُ: هَذا عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا؛ أيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا. أوْ هو نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ كُفْرًا حَقًّا؛ أيْ ثابِتًا يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ. أوْ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظائِرُ، وقَدْ طَعَنَ الواحِدِيُّ في هَذا التَّوْجِيهِ، وقالَ: الكُفْرُ لا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولا يَلْزَمُ ما قالَ إنَّهُ لا يُرادُ بِحَقًّا الحَقُّ الَّذِي هو مُقابِلٌ لِلْباطِلِ؛ وإنَّما المَعْنى أنَّهُ كُفْرٌ ثابِتٌ مُتَيَقَّنٌ؛ وإنَّما كانَ التَّوْكِيدُ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ داعِيَ الإيمانِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأنْبِياءِ، (p-٣٨٦)وهُوَ ظُهُورُ المُعْجِزاتِ عَلى أيْدِيهِمْ؛ فَكَوْنُهم فَرَّقُوا في الإيمانِ بَيْنَهم دَلِيلٌ عَلى كُفْرِهِمْ بِالجَمِيعِ؛ إذْ لَيْسَ إيمانُهم بِبَعْضٍ ناشِئًا عَنِ النَّظَرِ في الدَّلِيلِ؛ وإنَّما هم عَلى سَبِيلِ التَّشَهِّي والتَّلاعُبِ.
(وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا) هَذا وعِيدٌ لَهم بِالإهانَةِ في العَذابِ.
﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ هَؤُلاءِ هُمُ المُؤْمِنُونَ أتْباعُ مُحَمَّدٍ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى دُخُولِ (بَيْنَ) عَلى (أحَدٍ) في البَقَرَةِ. في قَوْلِهِ: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
(أُولَئِكَ سَوْفَ نُؤْتِيهِمْ أُجُورَهم) صَرَّحَ تَعالى بِوَعْدِ هَؤُلاءِ كَما صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وقَرَأ حَفْصٌ: يُؤْتِيهِمْ بِالياءِ لِيَعُودَ عَلى اسْمِ اللَّهِ قَبْلَهُ. وقَرَأ الباقُونَ: بِالنُّونِ عَلى الِالتِفاتِ ومُقابِلُهُ (وأعْتَدْنا) . وقَوْلُ أبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ: قِراءَةُ النُّونِ أوْلى مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أنْهَمُ، والآخَرُ: أنَّهُ مَشاكِلٌ لِقَوْلِهِ: وأعْتَدْنا؛ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، ولا أوْلَوِيَّةَ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ القِراءَتَيْنِ كِلْتاهُما مُتَواتِرَةٌ، هَكَذا نَزَلَتْ، وهَكَذا أُنْزِلَتْ.
(وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لَمّا وعَدَهم تَعالى بِالثَّوابِ زادَهم تَبْشِيرًا لِتَجاوُزٍ عَنِ السَّيِّئاتِ، وبِرَحْمَتِهِ إيّاهم.
﴿يَسْألُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ﴾ قالَ السُّدِّيُّ: قالَتِ اليَهُودُ: إنْ كُنْتَ صادِقًا فَجِئْ بِكِتابٍ مِنَ السَّماءِ جُمْلَةً، كَما جاءَ مُوسى بِالكِتابِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: قالُوا: ائْتِ بِألْواحٍ فِيها كِتابُكَ، كَما أتى مُوسى بِألْواحٍ فِيها التَّوْراةُ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: سَألُوهُ أنْ يَأْتِيَ بِكِتابٍ خاصٍّ لِلْيَهُودِ يَأْمُرُهم بِالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قالُوا: لَنْ نُتابِعَكَ عَلى ما تَدْعُونا إلَيْهِ، حَتّى تَأْتِيَنا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ إلى فُلانٍ وإلى فُلانٍ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَعَلى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَقْتَضِي أنَّ سُؤالَهم كانَ عَلى نَحْوِ سُؤالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ الزُّهْرِيِّ، وقِيلَ كِتابًا نُعايِنُهُ حَتّى يَنْزِلَ، وسَمّى مِن سائِلِي اليَهُودِ: كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ، وفِنْخاصَ بْنَ عازُوراءَ. وقِيلَ السّائِلُونَ هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وسُؤالُهم إنَّما هو عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. وقالَ الحَسَنُ: لَوْ سَألُوهُ لِكَيْ يَتَبَيَّنَ الحَقُّ لَأعْطاهم؛ فَإنَّ فِيما أعْطاكم كِفايَةً.
﴿فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ قَدَّرُوا قَبْلَ هَذا كَلامًا مَحْذُوفًا؛ فَجَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ شَرْطًا هَذا جَوابُهُ، وتَقْدِيرُهُ: إنِ اسْتَكْبَرْتَ ما سَألُوهُ مِنكَ؛ فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ. وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَلا تُبالِ يا مُحَمَّدُ عَنْ سُؤالِهِمْ وتَشْطِيطِهِمْ؛ فَإنَّها عادَتُهم؛ فَقَدْ سَألُوا مُوسى. وأسْنَدَ السُّؤالَ إلَيْهِمْ، وإنْ كانَ إنَّما وقَعَ مِن آبائِهِمْ مِن نُقَبائِهِمُ السَبْعِينَ؛ لِأنَّهم راضُونَ بِفِعْلِ آبائِهِمْ ومَذاهِبِهِمْ، ومُشابِهُونَ لَهم في التَّعَنُّتِ. وقَرَأ الحَسَنُ: أكْثَرَ بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ بَدَلَ الباءِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ. ومَعْنى جَهْرَةً: عِيانًا رُؤْيَةً (p-٣٨٧)مُنْكَشِفَةً بَيِّنَةً. والجَهْرَةُ مِن وصْفِ الرُّؤْيَةِ. واخْتُلِفَ في النَّقْلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ: أنَّ جَهْرَةً مِن صِفَةِ السُّؤالِ؛ فَقَدْ سَألُوا مُوسى. أوْ حالًا مِن ضَمِيرِ سَألُوا أيْ سَألُوهُ مُجاهِرِينَ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّ التَّقْدِيرَ: فَقالُوا جَهْرَةً مِنهُ، وتَصْرِيحًا أرِنا اللَّهَ؛ فَيَكُونُ مِن صِفَةِ القَوْلِ.
﴿فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ أيْ تَعَنُّتِهِمْ، وسُؤالِهِمْ ما لَيْسَ لَهم أنْ يَسْألُوهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِظُلْمِهِمْ بِسَبَبِ سُؤالِهِمُ الرُّؤْيَةَ، ولَوْ طَلَبُوا أمْرًا جائِزًا لَما سُمُّوا ظالِمِينَ، ولَما أخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ. كَما سَألَ إبْراهِيم عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُرِيَهُ إحْياءَ المَوْتى فَلَمْ يُسَمِّهِ ظالِمًا، ولا رَماهُ بِالصّاعِقَةِ لِلْمُشَبِّهَةِ، ورَمْيًا بِالصَّواعِقِ، انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ في اسْتِحالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عِنْدَهم. وأهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أنَّهم لَمْ يَسْألُوا مُحالًا عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ؛ إذْ قَدْ أخْبَرَ تَعالى عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِ، أنَّهُ لا يُرى في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا والرُّؤْيَةُ في الآخِرَةِ ثابِتَةٌ عَنِ الرَّسُولِ بِالتَّواتُرِ، وهي جائِزَةٌ عَقْلًا، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في البَقَرَةِ عَلى الصّاعِقَةِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ والنَّخَعِيُّ: (فَأخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ)، والجُمْهُورُ (الصّاعِقَةُ) .
﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ ثُمَّ: لِلتَّرْتِيبِ في الأخْبارِ، لا في نَفْسِ الأمْرِ، ثُمَّ قَدْ كانَ مِن أمْرِهِمْ أنِ اتَّخَذُوا العِجْلَ؛ أيْ آباؤُهم والَّذِينَ صُعِقُوا غَيْرُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ. والبَيِّناتُ: إجازَةُ البَحْرِ والعَصا، وغَرَقُ فِرْعَوْنَ، وغَيْرُ ذَلِكَ. وقالَ الحَوْفِيُّ: أعْلَمَ نَبِيَّهُ بِعِنادِهِمْ، وإصْرارِهِمْ؛ فالمَعْنى: أنَّهُ لَوْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ الَّذِي سَألُوا لَخالَفُوا أمْرَ اللَّهِ، كَما خالَفُوهُ مِن بَعْدِ إحْياءِ اللَّهِ لَهم مِن صَعْقَتِهِمْ، وعَبَدُوا العِجْلَ، واتَّخَذُوهُ إلَهًا.
﴿فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ﴾؛ أيْ عَنِ اتِّخاذِهِمُ العِجْلَ إلَهًا عَنْ جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِن مُخالَفَتِهِمْ. والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِأنَّهُ قَدْ صَرَّحَ في قِصَّةِ العِجْلِ بِالتَّوْبَةِ. ويَعْنِي: بِما امْتَحَنَهم بِهِ مِنَ القَتْلِ لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ وقَعَ العَفْوُ عَنِ الباقِينَ مِنهم.
﴿وآتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا﴾؛ أيْ حُجَّةً وتَسَلُّطًا، واسْتِيلاءً ظاهِرًا عَلَيْهِمْ، حِينَ أمَرَهم بِأنْ يَقْتُلُوا أنْفُسَهم حَتّى يُتابَ عَلَيْهِمْ؛ فَأطاعُوهُ واحْتَبَوْا بِأفْنِيَتِهِمْ والسُّيُوفُ تَتَساقَطُ عَلَيْهِمْ، فَيا لَهُ مِن سُلْطانٍ مُبِينٍ.
﴿ورَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ﴾ تَقَدَّمَ ما المَعْنِيُّ بِالطُّورِ. وفي الشّامِ جَبَلٌ عُرِفَ بِالطُّورِ، ولَزِمَهُ هَذا الِاسْمُ، وهو طُورٌ بِسَيْناءَ. ولَيْسَ هو المَرْفُوعَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ رَفْعَ الجَبَلِ كانَ فِيما يَلِي التِّيهَ مِن جِهَةِ دِيارِ مِصْرَ، وهم ناهِضُونَ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ رَفْعِ الطُّورِ في البَقَرَةِ. والباءُ في بِمِيثاقِهِمْ لِلسَّبَبِ، وهو العَهْدُ الَّذِي أخَذَهُ مُوسى عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَصْدِيقِهِمْ بِالتَّوْراةِ أنْ يَعْمَلُوا بِما فِيها؛ فَنَقَضُوا مِيثاقَهم، وعَبَدُوا العِجْلَ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطُّورَ. وفي كَلامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: بِنَقْضِ مِيثاقِهِمْ.
(p-٣٨٨)﴿وقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في البَقَرَةِ.
﴿وقُلْنا لَهم لا تَعْدُوا في السَّبْتِ﴾ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ اعْتِدائِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ﴾ [البقرة: ٦٥] . وقَرَأ ورْشٌ لا تَعَدُّوا بِفَتْحِ العَيْنِ وتَشْدِيدِ الدّالِ عَلى أنَّ الأصْلَ تَعْتَدُوا، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ التّاءِ عَلى العَيْنِ، وأُدْغِمَتِ التّاءُ في الدّالِ. وقَرَأ قالُونُ: بِإخْفاءِ حَرَكَةِ العَيْنِ وتَشْدِيدِ الدّالِ، والنَّصُّ بِالإسْكانِ. وأصْلُهُ أيْضًا لا تَعْتَدُوا. وقَرَأ الباقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: لا تَعْدُوا بِإسْكانِ العَيْنِ، وتَخْفِيفِ الدّالِ مِن عَدا يَعْدُو. وقالَ تَعالى: ﴿إذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ﴾ [الأعراف: ١٦٣]، وقَرَأ الأعْمَشُ والأخْفَشُ: لا تَعْتَدُوا مِنَ اعْتَدى.
(وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا) قِيلَ هو المِيثاقُ الأوَّلُ في قَوْلِهِ: (بِمِيثاقِهِمْ)، ووُصِفَ بِالغِلَظِ لِلتَّأْكِيدِ، وهو المَأْخُوذُ عَلى لِسانِ مُوسى وهارُونَ أنْ يَأْخُذُوا التَّوْراةَ بِقُوَّةٍ، ويَعْمَلُوا بِجَمِيعِ ما فِيها، ويُوصِلُوهُ إلى أبْنائِهِمْ. وقِيلَ: هَذا المِيثاقُ غَيْرُ الأوَّلِ، وهو المِيثاقُ الثّانِي الَّذِي أُخِذَ عَلى أنْبِيائِهِمْ بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ والإيمانِ بِهِ، وهو المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ﴾ [آل عمران: ٨١] الآيَةَ.
﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيما لَخَّصْناهُ مِن كَلامِهِ، هَذا إخْبارٌ عَنْ أشْياءَ واقَعُوها في الضِّدِّ مِمّا أُخِذُوا بِهِ، نَقَضُوا المِيثاقَ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِمُ الطُّورُ بِسَبَبِهِ، وجَعَلُوا بَدَلَ الإيمانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الأمْرُ بِدُخُولِ البابِ سُجَّدًا المُتَضَمِّنُ التَّواضُعَ الَّذِي هو ثَمَرَةُ الإيمانِ كُفْرَهم بِآياتِ اللَّهِ، وبَذْلِ الطّاعَةِ، وامْتِثالِ مُوافَقَتِهِ في أنْ لا يَعْدُوا في السَّبْتِ انْتِهاكَ أعْظَمِ الحُرُمِ، وهو قَتْلُ الأنْبِياءِ. وقابَلُوا أخْذَ المِيثاقِ الغَلِيظِ بِتَجاهُلِهِمْ، وقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ أيْ في حُجُبٍ وغُلُفٍ: فَهي لا تَفْهَمُ. وأضْرَبَ اللَّهُ تَعالى عَنْ قَوْلِهِمْ وكَذِبِهِمْ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ قَدْ طَبَعَ عَلَيْها بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، انْتَهى. والمِيثاقُ المَنقُوضُ: أهُوَ كِتْمانُهم صِفَةَ الرَّسُولِ، وتَكْذِيبُهُ فِيما جاءَ بِهِ ؟ أوْ تَرْكُهُمُ العَمَلَ بِما في كِتابِهِمْ ؟ مَعَ أنَّهم قَبِلُوا والتَزَمُوا العَمَلَ بِها قَوْلانِ. وآياتُ اللَّهِ الَّتِي كَفَرُوا بِها أهِيَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ في كُتُبِهِمْ ؟ أوْ جَمِيعُ كُتُبِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ ؟ قَوْلانِ. وتَقَدَّمَ شَرْحُ (قُلُوبُنا غُلْفٌ) في البَقَرَةِ.
﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ أدْغَمَ لامَ (بَلْ) في طاءِ (طَبَعَ) الكِسائِيُّ وحَمْزَةُ، وأظْهَرَها باقِي السَّبْعَةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ خَبَرٌ مَعْناهُ الذَّمُّ، عَلى أنَّ قُلُوبَهم بِمَنزِلَةِ المَطْبُوعِ عَلَيْها الَّتِي لا تَفْهَمُ أبَدًا، ولا تُطِيعُ مُرْسَلًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادُوا بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ؛ أيْ أنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَنا غُلْفًا؛ أيْ في أكِنَّةٍ لا يُتَوَصَّلُ إلَيْها بِشَيْءٍ مِنَ الذِّكْرِ والمَوْعِظَةِ، كَما حَكى اللَّهُ عَنِ المُشْرِكِينَ: ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠] . وتَكْذِيبُ المُجْبِرَةِ أخْزاهُمُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهم: خَذَلَها اللَّهَ، ومَنَعَها الألْطافَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَصارَتْ كالمَطْبُوعِ عَلَيْها، لا إنْ تُخْلَقْ غُلْفًا قابِلَةَ الذِّكْرِ، ولا مُتَمَكِّنَةً مِن قَبُولِهِ، انْتَهى. وهو عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ. وأمّا أهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ طَبَعَ عَلَيْها حَقِيقَةً كَما أخْبَرَ تَعالى إذْ لا خالِقَ غَيْرُهُ. والباءُ في فَبِما نَقْضِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلْنا بِهِمْ ما فَعَلْناهُ. وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَعَنّاهم، وأذْلَلْناهم، وحَتَّمْنا عَلى الوافِينَ مِنهُمُ الخُلُودَ في جَهَنَّمَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَذْفُ جَوابِ هَذا الكَلامِ بَلِيغٌ مَتْرُوكٌ مَعَ ذِهْنِ السّامِعِ، انْتَهى. وتَسْمِيَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ المَجْرُورُ بِأنَّهُ جَوابُ اصْطِلاحٍ لَمْ يُعْهَدْ في عِلْمِ النَّحْوِ، ولا تُساعِدُهُ اللُّغَةُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِجَوابٍ. وجَوَّزُوا أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ [النساء: ١٦٠] بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾؛ وقالَهُ الزَّجّاجُ، وأبُو بَكْرٍ، والزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهم. وهَذا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الفَواصِلِ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ؛ ولِأنَّ المَعْطُوفَ عَلى السَّبَبِ سَبَبٌ؛ فَيَلْزَمُ تَأخُّرُ بَعْضِ أجْزاءِ السَّبَبِ الَّذِي لِلتَّحْرِيمِ في الوَقْتِ عَنْ وقْتِ التَّحْرِيمِ؛ فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ جُزْءَ سَبَبٍ أوْ مُسَبِّبًا إلّا بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، وبَيانُ ذَلِكَ أنَّ ”قَوْلَهم عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا“ وقَوْلَهم ”﴿إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ﴾“ مُتَأخِّرٌ في الزَّمانِ عَنْ (p-٣٨٩)تَحْرِيمِ الطَّيِّباتِ عَلَيْهِمْ؛ فالأوْلى أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَعَنّاهم، وقَدْ جاءَ مُصَرَّحًا بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم لَعَنّاهم وجَعَلْنا قُلُوبَهم قاسِيَةً﴾ [المائدة: ١٣] .
(فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ.
﴿وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا﴾ الظّاهِرُ في قَوْلِهِ: وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: (فَبِما نَقْضِهِمْ)، وما بَعْدَهُ. عَلى أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ أجازَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ﴾ مَعْطُوفًا عَلى بِكُفْرِهِمْ. وتَكْرارُ نِسْبَةِ الكُفْرِ إلَيْهِمْ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقاتِهِ؛ إذْ كَفَرُوا بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ فَعَطَفَ بَعْضَ كُفْرِهِمْ عَلى بَعْضٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ عَطَفَ مَجْمُوعَ المَعْطُوفِ عَلى مَجْمُوعِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ عَلى بَعْضٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ عَطَفَ مَجْمُوعَ المَعْطُوفِ عَلى مَجْمُوعِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ فَيَجْمَعُهم بَيْنَ نَقْضِ المِيثاقِ والكُفْرِ بِآياتِ اللَّهِ وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ، وقَوْلِهِمْ: (قُلُوبُنا غُلْفٌ)، وجَمْعِهِمْ بَيْنَ كُفْرِهِمْ، وبُهْتِهِمْ مَرْيَمَ، وافْتِخارِهِمْ بِقَتْلِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عاقَبْناهم. أوْ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها، وجَمَعَهم بَيْنَ كَفْرِهِمْ، وكَذا وكَذا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا زَعَمْتَ أنَّ المَحْذُوفَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الباءُ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ ؟ قُلْتُ: لَمْ يَصِحَّ هَذا التَّقْدِيرُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾، رَدٌّ وإنْكارٌ لِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ؛ فَكانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، انْتَهى. وهو جَوابٌ حَسَنٌ، ويَمْتَنِعُ مِن وجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّ العَطْفَ بِبَلْ يَكُونُ لِلْإضْرابِ عَنِ الحُكْمِ الأوَّلِ، وإثْباتِهِ لِلثّانِي عَلى جِهَةِ إبْطالِ الأوَّلِ، أوْ الِانْتِقالِ عامًّا في كِتابِ اللَّهِ في الإخْبارِ؛ فَلا يَكُونُ إلّا لِلِانْتِقالِ. ويُسْتَفادُ مِنَ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ ما لا يُسْتَفادُ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى. والَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لا يُسَوَّغُ فِيهِ هَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾، ﴿وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ﴾، وقَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾؛ فَأفادَتِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ ما أفادَتِ الجُمْلَةُ الأُولى، وهو لا يَجُوزُ. لَوْ قُلْتَ: مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو، بَلْ مَرَّ زَيْدٌ بِعَمْرٍو لَمْ يَجُزْ. وقَدْ أجازَ ذَلِكَ أبُو البَقاءِ، وهو أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ، وكَذا طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ. وقِيلَ التَّقْدِيرُ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم لا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا والفاءُ مُقْحَمَةٌ. وما في قَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ كَهي في قَوْلِهِ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وتَقَدَّمَ الكَلامُ فِيها. والبُهْتانُ العَظِيمُ رَمْيُهم مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ بِالزِّنا مَعَ رُؤْيَتِهِمُ الآيَةَ في كَلامِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ في المَهْدِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإلّا فَلَوْلا الآيَةُ لَكانُوا في قَوْلِهِمْ جارِينَ عَلى حُكْمِ البَشَرِ في إنْكارِ حَمْلٍ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ، انْتَهى. ووُصِفَ بِالعِظَمِ؛ لِأنَّهم تَمادَوْا عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الآيَةِ، وقِيامِ المُعْجِزَةِ بِالبَراءَةِ، وقَدْ جاءَتْ تَسْمِيَةُ الرَّمْيِ بِذَلِكَ بُهْتانًا عَظِيمًا في قَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] .
﴿وقَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ الظّاهِرُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ مِن قَوْلِهِمْ قالُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ؛ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، وقَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لَأنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: ٨٧]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى وضَعَ الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكانَ ذِكْرِهِمُ القَبِيحِ في الحِكايَةِ عَنْهُ رَفْعًا لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما كانُوا يُذَكِّرُونَهُ بِهِ. ذَكَرَ الوَجْهَيْنِ الزَّمَخْشَرِيُّ، ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سِوى الثّانِي؛ قالَ: هو إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِصِفَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وهي الرِّسالَةُ عَلى جِهَةِ إظْهارِ ذَنْبِ هَؤُلاءِ المُقِرِّينَ بِالقَتْلِ، ولَزِمَهُمُ الذَّنْبُ، وهم لَمْ يَقْتُلُوا عِيسى؛ لِأنَّهم صَلَبُوا ذَلِكَ الشَّخْصَ عَلى أنَّهُ عِيسى، وعَلى أنَّ عِيسى كَذّابٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ؛ ولَكِنْ لَزِمَهُمُ الذَّنْبُ مِن حَيْثُ اعْتَقَدُوا أنَّ قَتْلَهم وقَعَ في عِيسى؛ فَكَأنَّهم قَتَلُوهُ، ولَيْسَ يَدْفَعُ الذَّنْبَ عَنْهُمُ اعْتِقادُهم أنَّهُ غَيْرُ رَسُولٍ.
﴿وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ هَذا إخْبارٌ مِنهُ تَعالى بِأنَّهم ما قَتَلُوا عِيسى، وما صَلَبُوهُ.
واخْتَلَفَ الرُّواةُ في (p-٣٩٠)كَيْفِيَّةِ القَتْلِ والصَّلْبِ، ولَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ شَيْءٌ غَيْرُ ما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ.
ومُنْتَهى ما آلَ إلَيْهِ أمْرُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ طَلَبَتْهُ اليَهُودُ فاخْتَفى هو والحَوارِيُّونَ في بَيْتٍ؛ فَدُلُّوا عَلَيْهِ وحَضَرُوا لَيْلًا، وهم ثَلاثَةَ عَشَرَ، أوْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ؛ فَفَرَّقَهم تِلْكَ اللَّيْلَةَ ووَجَّهَهم إلى الآفاقِ، وبَقِيَ هو ورَجُلٌ مَعَهُ؛ فَرُفِعَ عِيسى وأُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلى الرَّجُلِ فَصُلِبَ. وقِيلَ هو اليَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ. وقِيلَ قالَ لِأصْحابِهِ: أيُّكم يُلْقى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ ويُخَلِّصُ هَؤُلاءِ، وهو رَفِيقِي في الجَنَّةِ ؟ فَقالَ سَرْجِسُ: أنا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسى. وقِيلَ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلى الجَمِيعِ، فَلَمّا أُخْرِجُوا نَقَصَ واحِدٌ مِنَ العِدَّةِ، فَأخَذُوا واحِدًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الشَّبَهُ فَصُلِبَ. ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ والمُتَناوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ أمْرُ عِيسى لِما رَأوْهُ مِن نُقْصانِ العِدَّةِ، واخْتِلاطِ الأمْرِ؛ فَصُلِبَ ذَلِكَ الشَّخْصُ، وأُبْعِدَ النّاسُ عَنْ خَشَبَتِهِ أيّامًا حَتّى تَغَيَّرَ، ولَمْ تَثْبُتْ لَهُ صِفَةٌ؛ وحِينَئِذٍ دَنا النّاسُ مِنهُ، ومَضى الحَوارِيُّونَ يَتَحَدَّثُونَ في الآفاقِ: إنَّ عِيسى صُلِبَ. وقِيلَ لَمْ يُلْقَ شَبَهُهُ عَلى أحَدٍ؛ وإنَّما مَعْنى: ﴿ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أيْ شَبَّهَ عَلَيْهِمُ المَلِكُ المُمَخْرِقُ لِيَسْتَدِيمَ بِما نَقَصَ واحِدٌ مِنَ العِدَّةِ، وكانَ بادَرَ بِصَلْبِ واحِدٍ، وأبْعَدَ النّاسِ عَنْهُ، وقالَ: هَذا عِيسى؛ وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْتَقَدَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾؛ أمّا أنْ يُلْقى شَبَهُهُ عَلى شَخْصٍ؛ فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيُعْتَمَدَ عَلَيْهِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَن أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ اخْتِلافًا كَثِيرًا. فَقِيلَ اليَهُودِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ. وقِيلَ خَلِيفَةُ قَيْصَرَ الَّذِي كانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ. وقِيلَ واحِدٌ مِنَ اليَهُودِ. وقِيلَ دَخَلَ لِيَقْتُلَهُ. وقِيلَ رَقِيبٌ، وكَلَتْهُ بِهِ اليَهُودُ. وقِيلَ أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلى كُلِّ الحَوارِيِّينَ. وقِيلَ أُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلى الوَجْهِ دُونَ البَدَنِ، وهَذا الوُثُوقُ مِمّا يَدْفَعُ الوُثُوقَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ. ولِهَذا قالَ بَعْضُهم: إنْ جازَ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يُلْقِي شَبَهَ إنْسانٍ عَلى إنْسانٍ آخَرَ؛ فَهَذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَةِ. وقِيلَ سَبَبُ اجْتِماعِ اليَهُودِ عَلى قَتْلِهِ هو أنَّ رَهْطًا مِنهم سَبُّوهُ، وسَبُّوا أُمَّهُ فَدَعا عَلَيْهِمْ: ”اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي، وبِكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي، اللَّهُمَّ العَنْ مَن سَبَّنِي، وسَبَّ والِدَتِي“ فَمَسَخَ اللَّهُ مَن سَبَّهُما قِرَدَةً، وخَنازِيرَ، فاجْتَمَعَتِ اليَهُودُ عَلى قَتْلِهِ. و(شُبِّهَ) مُسْنَدٌ إلى الجارِّ والمَجْرُورِ؛ كَقَوْلِهِ: خُيِّلَ إلَيْهِ، ولَكِنْ وقَعَ لَهُمُ التَّشْبِيهُ. ويَجُوزُ أنْ يُسْنَدَ إلى ضَمِيرِ المَقْتُولِ الدّالِّ عَلَيْهِ: إنّا قَتَلْنا أيْ ولَكِنْ شُبِّهَ لَهم مَن قَتَلُوهُ. ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرَ المَسِيحِ؛ لِأنَّ المَسِيحَ مُشَبَّهٌ بِهِ لا مُشَبَّهٌ.
﴿وإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفي شَكٍّ مِنهُ ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ إلّا اتِّباعَ الظَّنِّ﴾ اخْتَلَفَ فِيهِ اليَهُودُ؛ فَقالَ بَعْضُهم: لَمْ يُقْتَلْ، ولَمْ يُصْلَبْ؛ الوَجْهُ وجْهُ عِيسى والجَسَدُ جَسَدُ غَيْرِهِ. وقِيلَ: أدْخَلُوا عَلَيْهِ واحِدًا لِيَقْتُلَهُ، فَأُلْقِيَ الشَّبَهُ عَلَيْهِ فَصُلِبَ، ونَقَصَ مِنَ العَدَدِ واحِدٌ. وكانُوا عَلِمُوا عَدَدَ الحَوارِيِّينَ؛ فَقالُوا: إنْ كانَ المَصْلُوبُ صاحِبَنا فَأيْنَ عِيسى ؟ وإنْ كانَ عِيسى فَأيْنَ صاحِبُنا ؟ وقِيلَ قالَ العَوامُّ: قَتَلْنا عِيسى، وقالَ مَن عايَنَ: رَفَعَهُ إلى السَّماءِ ما قُتِلَ، ولا صُلِبَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واليَقِينُ الَّذِي صَحَّ فِيهِ نَقْلُ الكافَّةِ عَنْ حَواسِّها هو أنَّ شَخْصًا صُلِبَ، وهَلْ هو عِيسى أمْ لا ؟ فَلَيْسَ هو مِن عِلْمِ الحَوّاسِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ في ذَلِكَ نَقْلٌ كافَّةً. والضَّمِيرُ في فِيهِ عائِدٌ عَلى القَتْلِ؛ مَعْناهُ: في قَتْلِهِ، وهَذا هو الظّاهِرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، وما بَعْدَهُ. وقِيلَ الضَّمِيرُ في اخْتَلَفُوا عائِدٌ عَلى اليَهُودِ أيْضًا، واخْتِلافُهم فِيهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ إلَهٌ. وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ اخْتِلافُهم فِيهِ أنَّ النَّسْطُورِيَّةَ قالُوا: وقَعَ الصَّلْبُ عَلى ناسُوتِهِ دُونَ لاهُوتِهِ. وقِيلَ وقَعَ القَتْلُ والصَّلْبُ عَلَيْهِما. وقِيلَ عائِدٌ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى؛ فَإنَّ اليَهُودَ قالُوا: هو ابْنُ زِنًا. وقالَتِ النَّصارى: هو ابْنُ اللَّهِ. وقِيلَ اخْتِلافُهم مِن جِهَةِ أنَّ النَّصارى قالُوا: إنَّ اليَهُودَ قَتَلَتْهُ وصَلَبَتْهُ واليَهُودُ الَّذِينَ عايَنُوا رَفْعَهُ قالُوا: رُفِعَ إلى السَّماءِ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّ ﴿إلّا اتِّباعَ الظَّنِّ﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّ اتِّباعَ الظَّنِّ لَيْسَ مِن جِنْسِ العِلْمِ (p-٣٩١)أيْ ولَكِنَّ اتِّباعَ الظَّنِّ لَهم.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي ولَكِنَّهم يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وهَذا تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تَفْسِيرَ إعْرابٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ إذِ الظَّنُّ والعِلْمُ يَضُمُّهُما أنَّهُما مِن مُعْتَقَداتِ اليَقِينِ. وقَدْ يَقُولُ الظّانُّ عَلى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ: عِلْمِي في هَذا الأمْرِ أنَّهُ كَذا، وهو يَعْنِي ظَنَّهُ، انْتَهى. ولَيْسَ كَما ذُكِرَ؛ لِأنَّ الظَّنَّ لَيْسَ مِن مُعْتَقَداتِ اليَقِينِ؛ لِأنَّهُ تَرْجِيحُ أحَدِ الجائِزَيْنِ؛ وما كانَ تَرْجِيحًا فَهو يُنافِي اليَقِينَ؛ كَما أنَّ اليَقِينَ يُنافِي تَرْجِيحَ أحَدِ الجائِزَيْنِ. وعَلى تَقْدِيرِ: أنَّ الظَّنَّ والعِلْمَ يَضُمُّهُما ما ذُكِرَ؛ فَلا يَكُونُ أيْضًا اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ الظَّنَّ مِنَ العِلْمِ. فَلَيْسَتِ التِّلاوَةُ ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ إلّا الظَّنَّ؛ وإنَّما التِّلاوَةُ إلّا اتِّباعَ الظَّنِّ، والِاتِّباعُ لِلظَّنِّ لا يَضُمُّهُ والعِلْمُ جِنْسُ ما ذُكِرَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإنْ قُلْتَ: لِمَ وُصِفُوا بِالشَّكِّ، والشَّكُّ أنْ لا يَتَرَجَّحَ أحَدُ الجائِزَيْنِ ؟ ثُمَّ وُصِفُوا بِالظَّنِّ، والظَّنُّ أنْ يَتَرَجَّحَ أحَدُهُما؛ فَكَيْفَ يَكُونُونَ شاكِّينَ ظانِّينَ ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ أنَّهم شاكُّونَ ما لَهم مِن عِلْمٍ قَطُّ، ولَكِنْ لاحَتْ لَهم أمارَةٌ فَظَنُّوا، انْتَهى. وهو جَوابُ سُؤالِهِ؛ ولَكِنْ يُقالُ: لا يَرِدُ هَذا السُّؤالُ؛ لِأنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ الشَّكَّ عَلى ما لَمْ يَقَعْ فِيهِ القَطْعُ واليَقِينُ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ما يَتَرَدَّدُ فِيهِ، إمّا عَلى السَّواءِ بِلا تَرْجِيحٍ، أوْ بِتَرْجِيحِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ انْدَفَعَ السُّؤالُ.
﴿وما قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُّدِّيُّ وجَماعَةٌ: الضَّمِيرُ في قَتَلُوهُ عائِدٌ عَلى الظَّنِّ. تَقُولُ: قَتَلْتُ هَذا الأمْرَ عِلْمًا إذا قَطَعْتَ بِهِ، وجَزَمْتَ الجَزْمَ الَّذِي لا يُخالِجُهُ شَيْءٌ؛ فالمَعْنى: وما صَحَّ ظَنُّهم عِنْدَهم، وما تَحَقَّقُوهُ يَقِينًا، ولا قَطَعُوا الظَّنَّ بِاليَقِينِ. وقالَ الفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ؛ الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى العِلْمِ؛ أيْ ما قَتَلُوا العِلْمَ يَقِينًا. يُقالُ: قَتَلْتُ العِلْمَ والرَّأْيَ يَقِينًا وقَتَلْتُهُ عِلْمًا؛ لِأنَّ القَتْلَ لِلشَّيْءِ يَكُونُ عَنْ قَهْرٍ واسْتِعْلاءٍ؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَمْ يَكُنْ عِلْمُهم بِقَتْلِ المَسِيحِ عِلْمًا أُحِيطَ بِهِ؛ إنَّما كانَ ظَنًّا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ تَهَكُّمٌ؛ لِأنَّ (إذا) نُفِيَ عَنْهُمُ العِلْمُ نَفْيًا كُلِّيًا بِحَرْفِ الِاسْتِغْراقِ ثُمَّ قِيلَ، وما عَلِمُوهُ عِلْمَ يَقِينٍ وإحاطَةٍ لَمْ يَكُنْ إلّا تَهَكُّمًا، انْتَهى. والظّاهِرُ قَوْلُ الجُمْهُورِ: إنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلى عِيسى بِجَعْلِ الضَّمائِرِ كُلِّها كَشَيْءٍ واحِدٍ، فَلا تَخْتَلِفُ. والمَعْنى صَحِيحٌ بَلِيغٌ، وانْتِصابُ (يَقِينًا) عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ (قَتَلُوهُ)؛ أيْ مُتَيَقِّنِينَ أنَّهُ عِيسى كَما ادَّعَوْا ذَلِكَ في قَوْلِهِمْ: إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ؛ قالَهُ السُّدِّيُّ. أوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ قَتْلًا يَقِينًا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ الحَسَنُ: وما قَتَلُوهُ حَقًّا، انْتَهى. فانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ كَقَوْلِكَ: وما قَتَلُوهُ حَقًّا؛ أيْ حَقَّ انْتِفاءِ قَتْلِهِ حَقًّا. وما حُكِيَ عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ أنَّ في الكَلامِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا وأنَّ (يَقِينًا) مَنصُوبٌ بِـ ﴿رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ والمَعْنى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ يَقِينًا؛ فَلَعَلَّهُ لا يَصِحُّ عَنْهُ. وقَدْ نَصَّ الخَلِيلُ عَلى أنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ لا يَعْمَلُ ما بَعْدَ (بَلْ) في ما قَبْلَها.
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ﴾ هَذا إبْطالٌ لِما ادَّعَوْهُ مِن قَتْلِهِ وصَلْبِهِ، وهو حَيٌّ في السَّماءِ الثّانِيَةِ عَلى ما صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ في حَدِيثِ المِعْراجِ. وهو هُنالِكَ مُقِيمٌ حَتّى يُنْزِلَهُ اللَّهُ إلى الأرْضِ لِقَتْلِ الدَّجّالِ، ولِيَمْلَأها عَدْلًا كَما مُلِئَتْ جَوْرًا، ويَحْيا فِيها أرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ كَما تَمُوتُ البَشَرُ. وقالَ قَتادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ عِيسى إلَيْهِ فَكَساهُ الرِّيشَ وألْبَسَهُ النُّورَ، وقَطَعَ عَنْهُ الطَّعامَ والشَّرابَ؛ فَصارَ مَعَ المَلائِكَةِ؛ فَهو مَعَهم حَوْلَ العَرْشِ؛ فَصارَ إنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَماوِيًّا أرْضِيًّا.
والضَّمِيرُ في إلَيْهِ عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى حَذْفِ التَّقْدِيرِ إلى سَمائِهِ، وقَدْ جاءَ ﴿ورافِعُكَ إلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥] . وقِيلَ إلى حَيْثُ لا حُكْمَ فِيهِ إلّا لَهُ. ولا يُوَجَّهُ الدُّعاءُ إلّا نَحْوَهُ، وهو راجِعٌ إلى الأوَّلِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: أعْلَمَ اللَّهُ تَعالى عَقِيبَ ذِكْرِهِ أنَّهُ وصَلَ إلى عِيسى أنْواعٌ مِنَ البَلايا أنَّهُ رَفَعَهُ إلَيْهِ فَدَلَّ أنَّ رَفْعَهُ إلَيْهِ أعْظَمُ في إيصالِ الثَّوابِ مِنَ الجَنَّةِ، ومِن كُلِّ ما فِيها مِنَ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ؛ وهَذِهِ الآيَةُ تَفْتَحُ عَلَيْكَ بابَ مَعْرِفَةِ السِّعاداتِ الرُّوحانِيَّةِ، انْتَهى. وفِيهِ نَحْوٌ (p-٣٩٢)مِن كَلامِ المُتَفَلْسِفَةِ.
(وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) . قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: المُرادُ مِنَ المَعَزَّةِ كَمالُ القُدْرَةِ، ومِنَ الحِكْمَةِ كَمالُ العِلْمِ؛ فَنَبَّهَ بِهَذا عَلى أنَّ رَفْعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الدُّنْيا إلى السَّماواتِ وإنْ كانَ كالمُتَعَذَّرِ عَلى البَشَرِ، لَكِنْ لا تُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِي وحِكْمَتِي، انْتَهى. وقالَ غَيْرُهُ: عَزِيزًا أيْ قَوِيًّا بِالنِّقْمَةِ مِنَ اليَهُودِ؛ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيّ فَقَتَلَ مِنهم مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. حَكِيمًا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ والغَضَبِ. وقِيلَ: عَزِيزًا؛ أيْ: لا يُغالَبُ؛ لِأنَّ اليَهُودَ حاوَلَتْ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أمْرًا وأرادَ اللَّهُ خِلافَهُ. حَكِيمًا أيْ: واضِعَ الأشْياءِ مَواضِعَها؛ فَمِن حَكَمَتِهِ تَخْلِيصُهُ مِنَ اليَهُودِ، ورَفْعُهُ إلى السَّماءِ لِما يُرِيدُ وتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ تَعالى. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أوْحى اللَّهُ تَعالى إلى عِيسى عَلى رَأْسِ ثَلاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ رَفَعَهُ وهو ابْنُ ثَلاثٍ وثَلاثِينَ سَنَةً؛ فَكانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلاثَ سِنِينَ. وقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأدْخَلَهُ خَوْخَةً فِيها رَوْزَنَةٌ في سَقْفِها؛ فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعالى إلى السَّماءِ مِن تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ.
﴿وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ . إنْ: هُنا نافِيَةٌ، والمُخْبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ قامَتْ صِفَتُهُ مَقامَهُ، التَّقْدِيرُ: وما أحَدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ. كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِنكم إلّا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١] والمَعْنى: وما مِنَ اليَهُودِ. وقَوْلُهُ: ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أيْ: وما أحَدٌ مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ، وما أحَدٌ مِنكم إلّا وارِدُها. قالَ الزَّجّاجُ: وحُذِفَ (أحَدٌ) لِأنَّهُ مَطْلُوبٌ في كُلِّ نَفْيٍ يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْناءُ نَحْوَ: ما قامَ إلّا زَيْدٌ، مَعْناهُ ما قامَ أحَدٌ إلّا زَيْدٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ واقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ؛ تَقْدِيرُهُ: وإنْ مِن أهْلِ الكِتابِ أحَدٌ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، ونَحْوُهُ: ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، ﴿وإنْ مِنكم إلّا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١] . والمَعْنى: وما مِنَ اليَهُودِ أحَدٌ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، انْتَهى.
وهُوَ غَلَطٌ فاحِشٌ إذْ زَعَمَ أنَّ ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ واقِعَةٌ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ إلى آخِرِهِ، وصِفَةُ (أحَدٌ) المَحْذُوفِ إنَّما هو الجارُّ والمَجْرُورُ وهو (مِن أهْلِ الكِتابِ)، والتَّقْدِيرُ كَما ذَكَرْناهُ: وإنْ أحَدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾؛ فَلَيْسَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ، ولا هي جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ كَما زَعَمَ؛ إنَّما هي جُمْلَةُ جَوابِ القَسَمِ، والقَسَمُ مَحْذُوفٌ، والقَسَمُ وجَوابُهُ في مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو (أحَدٌ) المَحْذُوفُ؛ إذْ لا يَنْتَظِمُ مِن أحَدٍ والمَجْرُورِ إسْنادٌ؛ لِأنَّهُ لا يُفِيدُ؛ وإنَّما يَنْتَظِمُ الإسْنادُ بِالجُمْلَةِ القَسَمِيَّةِ وجَوابِها؛ فَذَلِكَ هو مَحَطُّ الفائِدَةِ وكَذَلِكَ أيْضًا الخَبَرُ هو ﴿إلّا لَهُ مَقامٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، وكَذَلِكَ إلّا وارِدُها؛ إذْ لا يَنْتَظِمُ مِمّا قَبْلَ إلّا تَرْكِيبٌ إسْنادِيٌّ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَيْنِ في: بِهِ ومَوْتِهِ عائِدانِ عَلى عِيسى وهو سِياقُ الكَلامِ، والمَعْنى: مِن أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ في زَمانِ نُزُولِهِ.
رُوِيَ أنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ في آخِرِ الزَّمانِ؛ فَلا يَبْقى أحَدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ إلّا يُؤْمِنُ بِهِ؛ حَتّى تَكُونَ المِلَّةُ واحِدَةً وهي مِلَّةُ الإسْلامِ؛ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وأبُو مالِكٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وعِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ والحَسَنُ أيْضًا ومُجاهِدٌ وغَيْرُهم: الضَّمِيرُ في بِهِ لِعِيسى، وفي مَوْتِهِ لِكِتابِيٍّ وقالُوا: ولَيْسَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ حَتّى يُؤْمِنَ بِعِيسى ويَعْلَمَ أنَّهُ نَبِيٌّ؛ ولَكِنْ عِنْدَ المُعايَنَةِ لِلْمَوْتِ فَهو إيمانٌ لا (p-٣٩٣)يَنْفَعُهُ كَما لَمْ يَنْفَعْ فِرْعَوْنَ إيمانُهُ وقْتَ المُعايَنَةِ. وبَدَأ بِما يُشْبِهُ هَذا لِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ. قالَ: والمَعْنى ما مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى أحَدٌ إلّا لَيُؤْمِنَنَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعِيسى، وبِأنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ ؟ يَعْنِي: إذا عايَنَ قَبْلَ أنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ حِينَ لا يَنْفَعُهُ إيمانُهُ لِانْقِطاعِ وقْتِ التَّكْلِيفِ. ثُمَّ حُكِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ والحَجّاجِ حِكايَةٌ فِيها طُولٌ يَمَسُّ بِالتَّفْسِيرِ مِنها: أنَّ اليَهُودِيَّ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ دُبُرَهُ ووَجْهَهُ وقالُوا: يا عَدُوَّ اللَّهِ أتاكَ عِيسى نَبِيًّا فَكَذَّبْتَ بِهِ؛ فَيَقُولُ: آمَنتُ أنَّهُ نَبِيٌّ. وتَقُولُ لِلنَّصْرانِيِّ: أتاكَ عِيسى نَبِيًّا فَزَعَمْتَ أنَّهُ اللَّهُ أوِ ابْنُ اللَّهِ؛ فَيَقُولُ: آمَنتُ أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ حَيْثُ لا يَنْفَعُهُ إيمانُهُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ؛ فَقالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: فَإنْ أتاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ؟ قالَ: لا تَخْرُجُ نَفْسُهُ حَتّى يُحَرِّكَ بِها شَفَتَيْهِ. قالَ: وإنْ خَرَجَ فَوْقَ بَيْتٍ أوِ احْتَرَقَ أوْ أكَلَهُ سَبُعٌ ؟ قالَ: يَتَكَلَّمُ بِها في الهَوى، ولا تَخْرُجُ رُوحُهُ حَتّى يُؤْمِنَ بِهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ أُبَيٍّ: ”إلّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ“ بِضَمِّ النُّونِ عَلى مَعْنى: وإنْ مِنهم أحَدٌ إلّا سَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ؛ لِأنَّ أحَدًا يَصْلُحُ لِلْجَمْعِ. فَإنْ قُلْتَ: فَما فائِدَةُ الإخْبارِ بِإيمانِهِمْ بِعِيسى قَبْلَ مَوْتِهِمْ ؟ قُلْتُ: فائِدَتُهُ الوَعِيدُ، ولْيَكُنْ عِلْمُهم بِأنَّهم لا بُدَّ لَهم مِنَ الإيمانِ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ المُعايَنَةِ، وأنَّ ذَلِكَ لا يَنْفَعُهم بَعْثًا لَهم وتَنْبِيهًا عَلى مُعالَجَةِ الإيمانِ بِهِ في أوانِ الِانْتِفاعِ بِهِ، ولِيَكُونَ إلْزامًا لِلْحُجَّةِ لَهم.
وكَذَلِكَ قَوْلُهُ.
﴿ويَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ يَشْهَدُ عَلى اليَهُودِ بِأنَّهم كَذَّبُوهُ، وعَلى النَّصارى بِأنَّهم دَعَوْهُ ابْنَ اللَّهِ، انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ أنَّهُ لا يَبْقى أحَدٌ مِن جَمِيعِ أهْلِ الكِتابِ إلّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ، عَلى أنَّ اللَّهَ يُحْيِيهِمْ في قُبُورِهِمْ في ذَلِكَ الزَّمانِ ويُعْلِمُهم نُزُولَهُ وما نَزَلَ لَهُ، ويُؤْمِنُونَ بِهِ حِينَ لا يَنْفَعُهم إيمانُهم، انْتَهى. وقالَ عِكْرِمَةُ: الضَّمِيرُ في بِهِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وفي مَوْتِهِ لِلْكِتابِيِّ. قالَ: ولَيْسَ يَخْرُجُ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانِيٌّ مِنَ الدُّنْيا حَتّى يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ، ولَوْ غَرِقَ أوْ سَقَطَ عَلَيْهِ جِدارٌ؛ فَإنَّهُ يُؤْمِنُ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وقِيلَ: يَعُودُ في بِهِ عَلى اللَّهِ، وفي مَوْتِهِ عَلى أحَدٍ المُقَدَّرِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: إذا نَزَلَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَتْلِ الدَّجّالِ لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرانِيٌّ إلّا آمَنَ بِاللَّهِ حِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الدَّجّالِ، وتَصِيرُ الأُمَمُ كُلُّها واحِدَةً عَلى مِلَّةِ الإسْلامِ، ويُعْزى هَذا القَوْلُ أيْضًا إلى ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ.
وقالَ العَبّاسُ بْنُ غَزْوانَ: وإنَّ مِن أهْلِ الكِتابِ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وهي قِراءَةٌ عَسِرَةُ التَّخْرِيجِ، ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ أيْ: شَهِيدًا عَلى أهْلِ الكِتابِ عَلى اليَهُودِ بِتَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ وطَعْنِهِمْ فِيهِ، وعَلى النَّصارى بِجَعْلِهِمْ إيّاهُ إلاهًا مَعَ اللَّهِ أوِ ابْنًا لَهُ، والضَّمِيرُ في يَكُونُ لِعِيسى. وقالَ عِكْرِمَةُ: لِمُحَمَّدٍ ﷺ . قِيلَ: وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ والبَدِيعِ؛ فَمِنها التَّجْنِيسُ المُغايِرُ في: (يُخادِعُونَ) و(خادِعُهم)، و(شَكَرْتُمْ) و(شاكِرًا) . والمُماثِلُ في: (وإذا قامُوا) . والتَّكْرارُ في اسْمِ اللَّهِ، وفي: (هَؤُلاءِ) و(هَؤُلاءِ)، وفي: و(يَرَوْنَ) و(يُرِيدُونَ)، وفي: (الكافِرِينَ) و(الكافِرِينَ)، وفي: (أهْلِ الكِتابِ) و(كِتابًا)، وفي: (بِمِيثاقِهِمْ) و(مِيثاقًا) . والطِّباقُ في: الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ، وفي: (إنْ تَبْدُوا) أوْ (تُخْفُوهُ)، وفي: (نُؤْمِنُ) و(نَكْفُرُ)، والِاخْتِصاصُ في: (إلى الصَّلاةِ)، وفي: ﴿الدَّرْكِ الأسْفَلِ﴾ [النساء: ١٤٥]، وفي: ﴿الجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾ [النساء: ١٤٨] . والإشارَةُ في مَواضِعَ الِاسْتِعارَةِ في ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] اسْتَعارَ اسْمَ الخِداعِ لِلْمُجازاةِ وفي (سَبِيلًا)، وفي (سُلْطانًا) لِقِيامِ الحُجَّةِ و﴿الدَّرْكِ الأسْفَلِ﴾ [النساء: ١٤٥] لِانْخِفاضِ طَبَقاتِهِمْ في النّارِ، و(اعْتَصِمُوا) لِلِالتِجاءِ، وفي: ﴿أنْ يُفَرِّقُوا﴾، وفي: ﴿ولَمْ يُفَرِّقُوا﴾ وهو حَقِيقَةٌ في الأجْسامِ اسْتُعِيرَ لِلْمَعانِي، وفي (سُلْطانًا) اسْتُعِيرَ لِلْحُجَّةِ، وفي: (غُلْفٌ) و﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ﴾ . وزِيادَةُ الحَرْفِ لِمَعْنى في (فَبِما نَقْضِهِمْ) .
وإسْنادُ الفِعْلِ إلى غَيْرِ فاعِلِهِ في: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وجاءَتْهُمُ البَيِّناتُ وإلى الرّاضِي بِهِ وفي: وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ، وفي: ﴿وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا﴾، ﴿وقَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ﴾ . وحُسْنُ النَّسَقِ في: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم، والمَعاطِيفِ (p-٣٩٤)عَلَيْهِ حَيْثُ نُسِّقَتْ بِالواوِ الَّتِي تَدُلُّ عَلى الجَمِيعِ فَقَطْ. وبَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ أعْصارٌ مُتَباعِدَةٌ فَشَرَكَ أوائِلَهم وأواخِرَهم لِعَمَلِ أُولَئِكَ ورِضا هَؤُلاءِ. وإطْلاقُ اسْمِ كُلٍّ عَلى بَعْضٍ وفي: كُفْرِهم بِآياتِ اللَّهِ وهو القُرْآنُ والإنْجِيلُ ولَمْ يَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ إلّا بِهِما وفي قَوْلِهِمْ إنّا قَتَلْنا ولَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إلّا بَعْضُهم. والتَّعْرِيضُ في رَسُولِ اللَّهِ إذا قُلْنا إنَّهُ مِن كَلامِهِمْ. والتَّوْجِيهُ في غُلْفٌ مِنَ احْتِمالِ المَصْدَرِ جَمْعُ غِلافٍ أوْ جَمْعُ أغْلُفٍ. وعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ وهو في ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ عَلى مَن جَعَلَهُما لِغَيْرِ عِيسى. والنَّقْلُ مِن صِيغَةِ فاعِلٍ إلى فَعِيلٍ في شَهِيدٍ. والحَذْفُ في مَواضِعَ.
{"ayahs_start":150,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَ ٰلِكَ سَبِیلًا","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حَقࣰّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا","وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَوۡفَ یُؤۡتِیهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","یَسۡـَٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَیۡهِمۡ كِتَـٰبࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ فَقَدۡ سَأَلُوا۟ مُوسَىٰۤ أَكۡبَرَ مِن ذَ ٰلِكَ فَقَالُوۤا۟ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَ ٰلِكَۚ وَءَاتَیۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَـٰنࣰا مُّبِینࣰا","وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِیثَـٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡبَابَ سُجَّدࣰا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُوا۟ فِی ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظࣰا","فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَیۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا","وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡیَمَ بُهۡتَـٰنًا عَظِیمࣰا","وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢا","بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَیۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیمࣰا","وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا"],"ayah":"فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَیۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق