الباحث القرآني

قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُورَ بِمِيثاقِهِمْ وقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُلْنا لَهُمُ لا تَعْدُوا في السَبْتِ وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم وكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهِ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلا﴾ ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا﴾ "اَلطُّورُ": اَلْجَبَلُ؛ اسْمُ جِنْسٍ؛ وهَذا قَوْلٌ؛ وقِيلَ: اَلطُّورُ: كُلُّ جَبَلٍ غَيْرِ مُنْبِتٍ، (p-٥٩)وَبِالشامِ جَبَلٌ قَدْ عُرِفَ بِـ "اَلطُّورُ"؛ ولَزِمَهُ الِاسْمُ؛ وهو طُورُ سَيْناءَ؛ ولَيْسَ بِالمَرْفُوعِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ رَفْعَ الجَبَلِ كانَ فِيما يَلِي فَحْصَ التِيهِ مِن جِهَةِ دِيارِ مِصْرَ؛ وهم ناهِضُونَ مَعَ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ قَصَصُ رَفْعِ الطُورِ؛ وقَوْلُهُ: "بِمِيثاقِهِمْ"؛ أيْ: بِسَبَبِ مِيثاقِهِمْ أنْ يُعْطُوهُ في أخْذِ الكِتابِ بِقُوَّةٍ؛ والعَمَلِ بِما فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾ ؛ هو بابُ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ المَعْرُوفُ بِـ "بابِ حِطَّةٍ"؛ أمَرُوا أنْ يَتَواضَعُوا شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى عَلى الفَتْحِ الَّذِي مَنَحَهم في تِلْكَ البِلادِ؛ وأنْ يَدْخُلُوا بابَ المَدِينَةِ سُجَّدًا؛ وهَذا نَوْعٌ مِن سَجْدَةِ الشُكْرِ الَّتِي قَدْ فَعَلَها كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ؛ ورُوِيَتْ عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وإنْ كانَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ - رَحِمَهُ اللهُ - لا يَراها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُلْنا لَهم لا تَعْدُوا في السَبْتِ﴾ ؛ أيْ: عَلى الحِيتانِ؛ وفي سائِرِ الأعْمالِ؛ وهَؤُلاءِ كانُوا بِأيْلَةَ؛ مِن ساحِلِ البَحْرِ؛ فَأُمِرُوا بِالسُكُونِ عن كُلِّ شُغْلٍ في يَوْمِ السَبْتِ؛ فَلَمْ يَفْعَلُوا؛ بَلِ اصْطادُوا وتَصَرَّفُوا؛ وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُ ذَلِكَ؛ وأخَذَ اللهُ تَعالى مِنهُمُ المِيثاقَ الغَلِيظَ؛ هو عَلى لِسانِ مُوسى وهارُونَ وغَيْرِهِما مِنَ الأنْبِياءِ؛ أيْ: بِأنَّهم يَأْخُذُونَ التَوْراةَ بِقُوَّةٍ؛ ويَعْمَلُونَ بِجَمِيعِ ما فِيها؛ ويُوصِلُونَهُ إلى أبْنائِهِمْ؛ ويُؤَدُّونَ الأمانَةَ فِيهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ إخْبارٌ عن أشْياءَ واقَعُوها؛ هي في الضِدِّ مِمّا أُمِرُوا بِهِ؛ وذَلِكَ أنَّ المِيثاقَ الَّذِي رُفِعَ الطُورُ مِن أجْلِهِ نَقَضُوهُ؛ والإيمانَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ﴿ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾ ؛ إذْ ذَلِكَ التَواضُعُ إنَّما هو ثَمَرَةُ الإيمانِ؛ والإخْباتِ؛ جَعَلُوا بَدَلَهُ كُفْرَهم بِآياتِ اللهِ؛ وقَوْلَهُمْ: "حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ؛ وحِنْطَةٌ في شُعَيْرَةٍ"؛ ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا هو اسْتِخْفافٌ بِأمْرِ اللهِ؛ وكُفْرٌ بِهِ؛ وكَذَلِكَ أُمِرُوا ألّا يَعْتَدُوا في السَبْتِ؛ وفي ضِمْنِ ذَلِكَ الطاعَةُ؛ وسَماعُ الأمْرِ؛ فَجَعَلُوا بَدَلَ ذَلِكَ الِانْتِهاءَ إلى انْتِهاكِ أعْظَمِ حُرْمَةٍ؛ وهي قَتْلُ الأنْبِياءِ؛ وكَذَلِكَ أخْذُ المِيثاقِ الغَلِيظِ مِنهم تَضَمَّنَ فَهْمَهم بِقَدْرِ ما التَزَمُوهُ؛ فَجَعَلُوا بَدَلَ ذَلِكَ تَجاهُلَهم. وقَوْلُهُمْ: ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ ؛ أيْ: هي في حُجُبٍ؛ وغُلْفٌ؛ فَهي لا تَفْهَمُ؛ وأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عن طَبْعٍ مِنهُ عَلى قُلُوبِهِمْ؛ وأنَّهم كَذَبَةٌ فِيما يَدَّعُونَهُ مِن قِلَّةِ الفَهْمِ. (p-٦٠)وَقَرَأ نافِعٌ: "تَعْدُّوا"؛ بِسُكُونِ العَيْنِ؛ وشَدِّ الدالِ المَضْمُومَةِ؛ ورَوى عنهُ ورْشٌ: "تَعَدُّوا"؛ بِفَتْحِ العَيْنِ؛ وشَدِّ الدالِ المَضْمُومَةِ؛ وقَرَأ الباقُونَ: "لا تَعْدُوا"؛ ساكِنَةَ العَيْنِ؛ خَفِيفَةَ الدالِ؛ مَضْمُومَةً؛ وقَرَأ الأعْمَشُ ؛ والحَسَنُ: "لا تَعْتَدُوا". وقَوْلُهُ تَعالى: "فَبِما": "ما"؛ زائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ التَقْدِيرُ: "فَبِنَقْضِهِمْ"؛ وحَذْفُ جَوابِ هَذا الكَلامِ بَلِيغٌ؛ مَتْرُوكٌ مَعَ ذِهْنِ السامِعِ؛ تَقْدِيرُهُ: "لَعَنّاهم وأذْلَلْناهُمْ؛ وحَتَّمْنا عَلى المُوافِينَ مِنهُمُ الخُلُودَ في جَهَنَّمَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾ ؛ أيْ: في أمْرِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا﴾ ؛ يَعْنِي رَمْيَهم إيّاها بِالزِنا؛ مَعَ رُؤْيَتِهِمُ الآيَةَ في كَلامِ عِيسى في المَهْدِ؛ وإلّا فَلَوْلا الآيَةُ لَكانُوا في قَوْلِهِمْ جارِينَ عَلى حُكْمِ البَشَرِ في إنْكارِ حَمْلٍ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ؛ و"اَلْبُهْتانُ": مَصْدَرٌ؛ مِن قَوْلِكَ: "بَهَتَهُ"؛ إذا قابَلَهُ بِأمْرٍ مُبْهِتٍ؛ يَحارُ مَعَهُ الذِهْنُ؛ وهو رَمْيٌ بِباطِلٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب