الباحث القرآني
﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ في النَّبِيِّ ﷺ ومَيْلِهِ بِقَلْبِهِ إلى عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، انْتَهى. ونَبَّهَ تَعالى عَلى (p-٣٦٥)انْتِفاءِ اسْتِطاعَةِ العَدْلِ بَيْنَ النِّساءِ والتَّسْوِيَةِ، حَتّى لا يَقَعَ مَيْلٌ البَتَّةَ، ولا زِيادَةٌ ولا نُقْصانٌ فِيما يَجِبُ لَهُنَّ. وفي ذَلِكَ عُذْرٌ لِلرِّجالِ فِيما يَقَعُ مِنَ التَّفاوُتِ في المَيْلِ القَلْبِيِّ والتَّعَهُّدِ والنَّظَرِ والتَّأْنِيسِ والمُفاكَهَةِ؛ فَإنَّ التَّسْوِيَةَ في ذَلِكَ مَجالٌ خارِجٌ عَنْ حَدِّ الِاسْتِطاعَةِ؛ وعَلَّقَ انْتِفاءَ الِاسْتِطاعَةِ في التَّسْوِيَةِ عَلى تَقْدِيرِ وُجُودِ الحِرْصِ مِنَ الإنْسانِ عَلى ذَلِكَ. وقِيلَ مَعْنى أنْ تَعْدِلُوا في المَحَبَّةِ قالَهُ عُمَرُ وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ. وقِيلَ في التَّسْوِيَةِ والقَسَمِ. وقِيلَ في الجِماعِ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ " «أنَّهُ كانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسائِهِ فَيَعْدِلُ، ويَقُولُ: هَذِهِ قِسْمَتِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تُؤاخِذْنِي فِيما تَمْلِكُ، ولا أمَلِكُ يَعْنِي المَحَبَّةَ»؛ لِأنَّ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كانَتْ أحَبَّ إلَيْهِ، وكانَ عُمَرُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قَلْبِي فَلا أمْلِكُهُ، وأمّا ما سِوى ذَلِكَ فَأرْجُو أنْ أعْدِلَ فِيهِ.
﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ نَهى تَعالى عَنِ الجَوْرِ عَلى المَرْغُوبِ؛ أيْ إنْ وقَعَ مِنكُمُ التَّفْرِيطُ في شَيْءٍ مِنَ المُساواةِ، فَلا تَجُورُوا كُلَّ الجَوْرِ. والضَّمِيرُ في فَتَذَرُوها عائِدٌ عَلى المَمِيلِ عَنْها، المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾ .
وقَرَأ أُبَيٌّ: فَتَذْرُوها كالمَسْجُونَةِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: فَتَذْرُوها كَأنَّها مُعَلَّقَةٌ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ المُعَلَّقَةِ في الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كالمَحْبُوسَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وقِيلَ مَعْنى كالمُعَلَّقَةِ كالبَعِيدَةِ عَنْ زَوْجِها. قِيلَ أوْ عَنْ حَقِّها، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ مَأْخُوذٌ مِن تَعْلِيقِ الشَّيْءِ لِبُعْدِهِ عَنْ قَرارِهِ. وتَذْرُوها يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلى تَمِيلُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِإضْمارِ (أنْ) في جَوابِ النَّهْيِ. وكالمُعَلِّقَةِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ؛ فَتَتَعَلَّقَ الكافُ بِمَحْذُوفٍ. وفي الحَدِيثِ: «مَن كانَتْ لَهُ امْرَأتانِ يَمِيلُ مَعَ إحْداهُما جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ وأحَدُ شِقَّيْهِ مائِلٌ» والمَعْنى: يَمِيلُ مَعَ إحْداهُما كُلَّ المَيْلِ، لا مُطْلَقَ المَيْلِ. «وقَدْ فاضَلَ عُمَرُ في عَطاءٍ بَيْنَ أزْواجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَأبَتْ عائِشَةُ، وقالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَعْدِلُ بَيْنَنا في القَسِيمَةِ بِمالِهِ ونَفْسِهِ، فَساوى عُمَرُ بَيْنَهُنَّ»، وكانَ لِمُعاذٍ امْرَأتانِ؛ فَإذا كانَ عِنْدَ إحْداهُما، لَمْ يَتَوَضَّأْ في بَيْتِ الأُخْرى، فَماتَتا في الطّاعُونِ، فَدَفَنَهُما في قَبْرٍ واحِدٍ.
﴿وإنْ تُصْلِحُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ تُصْلِحُوا ما مَضى مِن قِبَلِكم، وتَتَدارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وتَتَّقُوا فِيما يُسْتَقْبَلُ غَفَرَ اللَّهُ لَكم انْتَهى. وفي ذَلِكَ نَزْغَةُ الِاعْتِزالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإنْ تُصْلِحُوا ما أفْسَدْتُمْ بِسُوءِ العِشْرَةِ، وتَلْزَمُوا ما يَلْزَمُكم مِنَ العَدْلِ فِيما تَمْلِكُونَ؛ فَإنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا لِما تَمْلِكُونَهُ مُتَجاوِزًا عَنْهُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: غَفُورًا لِما سَلَفَ مِنكم مِنَ المَيْلِ كُلَّ المَيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ، انْتَهى؛ فَعَلى هَذا هي مَغْفِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِقَوْمٍ بِأعْيانِهِمْ واقَعُوا المَحْظُورَ في مُدَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وخَتَمَتْ تِلْكَ بِالإحْسانِ، وهَذِهِ بِالإصْلاحِ؛ لِأنَّ الأُولى في مَندُوبٍ إلَيْهِ إذْ لَهُ أنْ لا يُحْسِنَ، وأنْ يَشِحَّ، ويُصالِحَ بِما يُرْضِيهِ، وهَذِهِ في لازِمٍ إذْ لَيْسَ لَهُ إلّا أنْ يُصْلِحَ، بَلْ يَلْزَمُهُ العَدْلُ فِيما يَمْلِكُ.
﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ الضَّمِيرُ في يَتَفَرَّقا عائِدٌ عَلى الزَّوْجَيْنِ المَذْكُورَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها﴾ [النساء: ١٢٨] والمَعْنى: وإنْ شَحَّ كُلٌّ مِنهُما، ولَمْ يَصْطَلِحا، وتَفَرَّقا بِطَلاقٍ؛ فاللَّهُ يُغْنِي كُلًّا مِنها عَنْ صاحِبِهِ بِفَضْلِهِ، ولُطْفِهِ في المالِ والعِشْرَةِ والسِّعَةِ. ووُجُودِ المُرادِ، والسِّعَةُ الغِنى والمَقْدِرَةُ، وهَذا وعْدٌ بِالغِنى لِكُلِّ واحِدٍ إذا تَفَرَّقا، وهو مَعْرُوفٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى. ونِسْبَةُ الفِعْلِ إلَيْهِما يَدُلُّ عَلى أنَّ لِكُلٍّ مِنهُما مَدْخَلًا في التَّفَرُّقِ، وهو التَّفَرُّقُ بِالأبْدانِ، وتَراخِي المُدَّةِ بِزَوالِ العِصْمَةِ، ولا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَفَرُّقٌ بِالقَوْلِ وهو طَلاقٌ؛ لِأنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجِ، ولا نَصِيبَ لِلْمَرْأةِ في التَّفَرُّقِ القَوْلِيِّ؛ فَيُسْنَدُ إلَيْها خِلافًا لِمَن ذَهَبَ إلى أنَّ التَّفَرُّقَ هاهُنا هو بِالقَوْلِ، وهو الطَّلاقُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ أفْلَحَ: وإنْ يَتَفارَقا بِألِفِ المُفاعَلَةِ؛ أيْ وإنْ (p-٣٦٦)يُفارِقْ كُلٌّ مِنهُما صاحِبَهُ. وهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقَوْلُ العَرَبِ: إنْ لَمْ يَكُنْ وِفاقٌ فَطَلاقٌ. فَنَبَّهَ تَعالى عَلى أنَّ لَهُما أنْ يَتَفارَقا؛ كَما أنَّ لَهُما أنْ يَصْطَلِحا. ودَلَّ ذَلِكَ عَلى الجَوازِ، قالُوا: وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ إشارَةٌ إلى الغِنى بِالمالِ. وكانَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فِيما رَوَوْا طُلَقَةً ذُوَقَةً فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ فَقالَ: إنِّي رَأيْتُ اللَّهَ تَعالى عَلَّقَ الغِنى بِأمْرَيْنِ فَقالَ: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى﴾ [النور: ٣٢] الآيَةَ، وقالَ: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ .
﴿وكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا﴾ ناسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ السَّعَةِ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ مِن سِعَتِهِ. والواسِعُ عامٌّ في الغِنى والقُدْرَةِ والعِلْمِ، وسائِرِ الكِمالاتِ. وناسَبَ ذِكْرَ وصْفِ الحِكْمَةِ، وهو وضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ ما يُناسِبُ؛ لِأنَّ السَّعَةَ ما لَمْ تَكُنْ مَعَها الحِكْمَةُ كانَتْ إلى فَسادٍ أقْرَبَ مِنها لِلصَّلاحِ؛ قالَهُ الرّاغِبُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ فِيما حَكَمَ ووَعَظَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: فِيما حَكَمَ عَلى الزَّوْجِ مِن إمْساكِها بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٍ بِإحْسانٍ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: أوْ حَيْثُ نُدِبَ إلى الفُرْقَةِ عِنْدَ اخْتِلافِهِما وعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُما.
﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى سَعَةَ رِزْقِهِ، وحِكْمَتَهُ، ذَكَرَ أنَّ لَهُ مُلْكَ ما في السَّماواتِ، وما في الأرْضِ؛ فَلا يَعْتاضُّ عَلَيْهِ غِنى أحَدٍ، ولا التَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ مَن لَهُ ذَلِكَ هو الغَنِيُّ المُطْلَقُ.
﴿ولَقَدْ وصَّيْنا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم وإيّاكم أنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وصَّيْنا: أمَرْنا أوْ عَهِدْنا إلَيْهِمْ وإلَيْكم، ومِن قَبْلِكم: يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (أُوتُوا)؛ وهو الأقْرَبُ، أوْ بِـ (وصَّيْنا) . والمَعْنى: أنَّ الوَصِيَّةَ بِالتَّقْوى هي سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الأُمَمِ الماضِيَةِ، فَلَسْتُمْ مَخْصُوصِينَ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ. و(إيّاكم) عَطْفٌ عَلى المَوْصُولِ، وتَقَدَّمَ المَوْصُولُ؛ لِأنَّ وصِيَّتَهُ هي السّابِقَةُ عَلى وصَّيْنا، فَهو تَقَدُّمٌ بِالزَّمانِ. ومِثْلُ هَذا العَطْفِ - أعْنِي عَطْفَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ المُنْفَصِلِ عَلى الظّاهِرِ - فَصِيحٌ جاءَ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ، ولا يَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ، وقَدْ وهِمَ في ذَلِكَ بَعْضُ أصْحابِنا وشُيُوخِنا؛ فَزَعَمَ أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ؛ لِأنَّكَ تَقْدِرُ عَلى أنْ تَأْتِيَ بِهِ مُتَّصِلًا؛ فَتَقُولُ: آتِيكَ وزَيْدًا. ولا يَجُوزُ عِنْدَهُ: رَأيْتُ زَيْدًا وإيّاكَ إلّا في الشِّعْرِ، وهَذا وهْمٌ فاحِشٌ؛ بَلْ مِن مُوجَبِ انْفِصالِ الضَّمِيرِ كَوْنُهُ يَكُونُ مَعْطُوفًا؛ فَيَجُوزُ قامَ زَيْدٌ وأنْتَ، وخَرَجَ بَكْرٌ وأنا، لا خِلافَ في جَوازِ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ ضَرَبْتُ زَيْدًا وإيّاكَ.
والَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ هو عامٌّ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى تَخْصِيصِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِاليَهُودِ والنَّصارى كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ؛ لِأنَّ وصِيَّةَ اللَّهِ بِالتَّقْوى لَمْ تَزَلْ مُذْ أوْجَدَ العالَمَ؛ فَلَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِاليَهُودِ والنَّصارى. وأنِ اتَّقُوا: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أيْ بِأنِ اتَّقُوا اللَّهَ، وأنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً التَّقْدِيرُ أيِ اتَّقُوا اللَّهَ؛ لِأنَّ وصَّيْنا فِيهِ مَعْنى القَوْلِ.
﴿وإنْ تَكْفُرُوا﴾ ظاهِرُهُ الخِطابُ لِمَن وقَعَ لَهُ الخِطابُ بِقَوْلِهِ: وإيّاكم، وهم هَذِهِ الأُمَّةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ شامِلًا لِلَّذِينِ أُوتُوا الكِتابَ، ولِلْمُخاطَبِينَ وغَلَبَ الخِطابُ عَلى ما تَقَرَّرَ في لِسانِ العَرَبِ كَما تَقُولُ: قُلْتُ لِزَيْدٍ ذَلِكَ، لا تَضْرِبْ عَمْرًا، وكَما تَقُولُ: زَيْدٌ وأنْتَ تَخْرُجانِ.
﴿فَإنَّ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾؛ أيْ أنْتُمْ مِن جُمْلَةِ مَن يَمْلِكُهُ تَعالى، وهو المُتَصَرِّفُ فِيكم؛ إذْ هو خالِقُكم والمُنْعِمُ عَلَيْكم بِأصْنافِ النِّعَمِ، وأنْتُمْ مَمْلُوكُونَ لَهُ، فَلا يُناسِبُ أنْ تَكْفُرُوا مَن هو مالِكُكم، وتُخالِفُونَ أمْرَهُ؛ بَلْ حَقُّهُ أنْ يُطاعَ ولا يُعْصى، وأنْ يُتَّقى عِقابُهُ، ويُرْجى ثَوابُهُ، ولِلَّهِ ما في سَمائِهِ وأرْضِهِ مَن يُوَحِّدُهُ ويَعْبُدُهُ، ولا يَعْصِيهِ.
﴿وكانَ اللَّهُ غَنِيًّا﴾؛ أيْ عَنْ خَلْقِهِ، وعَنْ عِبادَتِهِمْ لا تَنْفَعُهُ طاعَتُهم، ولا يَضُرُّهُ كُفْرُهم.
(حَمِيدًا)؛ أيْ مُسْتَحِقًّا لِأنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، وإنْ كَفَرْتُمُوهُ أنْتُمْ.
﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ الوَكِيلُ القائِمُ بِالأُمُورِ، المُنْفِذُ فِيها ما يَراهُ؛ فَمَن لَهُ مُلْكُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، فَهو كافٍ فِيما يَتَصَرَّفُ فِيهِ، لا يَعْتَمِدُ عَلى غَيْرِهِ. وأعادَ قَوْلَهُ: ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ثَلاثَ مَرّاتٍ بِحَسَبِ السِّياقِ. (p-٣٦٧)فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الأوَّلُ: تَنْبِيهٌ عَلى مَوْضِعِ الرَّجاءِ يَهْدِي المُتَفَرِّقِينَ. والثّانِي: تَنْبِيهٌ عَلى اسْتِغْنائِهِ عَنِ العِبادِ. والثّالِثُ: مُقَدِّمَةٌ لِلْوَعِيدِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَكْرِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ تَقْرِيرٌ لِما هو مُوجِبٌ تَقْواهُ لِيَتَّقُوهُ؛ فَيُطِيعُوهُ ولا يَعْصُوهُ؛ لِأنَّ الخَشْيَةَ والتَّقْوى أصْلُ الخَيْرِ كُلِّهِ. وقالَ الرّاغِبُ: الأوَّلُ: لِلتَّسْلِيَةِ عَمّا فاتَ. والثّانِي: أنَّ وصِيَّتَهُ لِرَحْمَتِهِ لا لِحاجَةٍ، وأنَّهم إنْ كَفَرُوهُ لا يَضُرُّوهُ شَيْئًا. والثّالِثُ: دَلالَتُهُ عَلى كَوْنِهِ غَنِيًّا. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الأوَّلُ: تَقْرِيرُ كَوْنِهِ واسِعَ الجُودِ. والثّانِي: لِلتَّنْزِيهِ عَنْ طاعَةِ المُطِيعِينَ. والثّالِثُ: لِقُدْرَتِهِ عَلى الإفْناءِ والإيجادِ؛ والغَرَضُ مِنهُ: تَقْرِيرُ كَوْنِهِ قادِرًا عَلى مَدْلُولاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَحْسُنُ أنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الدَّلِيلَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِن مَدْلُولاتِهِ، وهَذِهِ الإعادَةُ أحْسَنُ وأوْلى مِنَ الِاكْتِفاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً واحِدَةً؛ لِأنَّهُ عِنْدَهُ إعادَةُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يُحْضِرُ في الذِّهْنِ ما يُوجِبُ العِلْمَ بِالمَدْلُولِ؛ وكانَ العِلْمُ الحاصِلُ بِذَلِكَ المَدْلُولِ أقْوى وأجَلَّ؛ فَظَهَرَ أنَّ هَذا التَّكْرارَ في غايَةِ الكَمالِ. وقالَ مَكِّيٌّ: نَبَّهْنا أوَّلًا عَلى مُلْكِهِ وسَعَتِهِ. وثانِيًا عَلى حاجَتِنا إلَيْهِ وغِناهُ، وثالِثًا عَلى حِفْظِهِ لَنا، وعِلْمِهِ بِتَدْبِيرِنا.
﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيُّها النّاسُ ويَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ ظاهِرُهُ أنَّ الخِطابَ لِمَن تَقَدَّمَ لَهُ الخِطابُ أوَّلًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الخِطابُ لِلْمُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ والمَعْنى: ويَأْتِ بِآخَرِينَ مِنكم. وقَرِيبٌ مِنهُ ما نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن أنَّهُ خِطابٌ لِمَن كانَ يُعادِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنَ العَرَبِ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: الخِطابُ لِلْكُفّارِ، وهو تَهْدِيدٌ لَهم؛ كَأنَّهُ قالَ: إنْ يَشَأْ يُهْلِكْكم كَما أهْلَكَ مَن قَبْلَكم إذْ كَفَرُوا بِرُسُلِهِ. وقِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النّاسِ؛ والمَعْنى: إنْ شاءَ يُهْلِكْكم كَما أنْشَأكم، وأنْشَأ قَوْمًا آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: الخِطابُ لِلَّذِينِ شَفَعُوا في طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، وخاصَمَ وخاصَمُوا عَنْهُ في أمْرِ خِيانَتِهِ في الدِّرْعِ والدَّقِيقِ. وهَذا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وقَدْ يَظْهَرُ العُمُومُ فَيَكُونُ خِطابًا لِلْعالِمِ الحاضِرِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الخِطابُ والنِّداءُ. ويَأْتِ بِآخَرِينَ أيْ بِناسٍ غَيْرِكم؛ فالمَأْتِيُّ بِهِ مِن نَوْعِ المُذْهَبِ؛ فَيَكُونُ مِن جِنْسِ المُخاطَبِ المُنادى، وهُمُ النّاسُ.
ورُوِيَ أنَّها لَمّا نَزَلَتْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ عَلى ظَهْرِ سَلْمانَ، وقالَ: (إنَّهم قَوْمُ هَذا) يُرِيدُ ابْنَ فارِسَ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُما أنْ يَكُونَ المُرادُ بِآخَرِينَ مِن نَوْعِ المُخاطَبِينَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَأْتِ بِآخَرِينَ مَكانَكم أوْ خَلْقًا آخَرِينَ غَيْرَ الإنْسِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وعِيدًا لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ، ويَكُونَ الآخَرُونَ مِن غَيْرِ نَوْعِهِمْ. كَما أنَّهُ قَدْ رُوِيَ أنَّهُ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ قَبْلَ بَنِي آدَمَ، انْتَهى. وما جَوَّزَهُ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ مَدْلُولَ (آخَرَ) في اللُّغَةِ هو مَدْلُولٌ غَيْرُ خاصٍّ بِجِنْسِ ما تَقَدَّمَ؛ فَلَوْ قُلْتَ: جاءَ زَيْدٌ وآخَرُ مَعَهُ، أوْ مَرَرْتُ بِامْرَأةٍ وأُخْرى مَعَها، أوِ اشْتَرَيْتُ فَرَسًا وآخَرَ، وسابَقْتُ بَيْنَ حِمارٍ وآخَرَ؛ لَمْ يَكُنْ آخَرُ ولا أُخْرى مُؤَنَّثُهُ، ولا تَثْنِيَتُهُ، ولا جَمْعُهُ، إلّا مِن جِنْسِ ما يَكُونُ قَبْلَهُ. ولَوْ قُلْتَ: اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وآخَرَ، ويَعْنِي بِهِ: غَيْرَ ثَوْبٍ؛ لَمْ يَجُزْ. فَعَلى هَذا تَجْوِيزُهم أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِآخَرِينَ مِن غَيْرِ جِنْسِ ما تَقَدَّمَ، وهُمُ النّاسُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وهَذا هو الفَرْقُ بَيْنَ غَيْرٍ وبَيْنَ آخَرَ؛ لِأنَّ غَيْرًا تَقَعُ عَلى المُغايِرِ في جِنْسٍ أوْ في صِفَةٍ؛ فَتَقُولُ: اشْتَرَيْتُ ثَوْبًا وغَيْرَهُ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ثَوْبًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَوْبٍ، (p-٣٦٨)وقَلَّ مَن يَعْرِفُ هَذا الفَرْقَ.
﴿وكانَ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾؛ أيْ عَلى إذْهابِكم والإتْيانِ بِآخَرِينَ. وأتى بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ في القُدْرَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أرادَهُ، وهَذا غَضَبٌ عَلَيْهِمْ، وتَخْوِيفٌ وبَيانٌ لِاقْتِدارِهِ.
﴿مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ أيْ مَن كانَ لا رَغْبَةَ لَهُ إلّا في ثَوابِ الدُّنْيا، ولا يَعْتَقِدُ أنَّ ثَمَّ سِواهُ؛ فَلَيْسَ كَما ظَنَّ، بَلْ عِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدّارَيْنِ. فَمَن قَصَدَ الآخِرَةَ أعْطاهُ مِن ثَوابِ الدُّنْيا، وأعْطاهُ قَصْدَهُ، ومَن قَصَدَ الدُّنْيا فَقَطْ أعْطاهُ مِنَ الدُّنْيا ما قُدِّرَ لَهُ، وكانَ لَهُ في الآخِرَةِ العَذابُ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: مَن عَبَدَ الأصْنامَ طَلَبًا لِلْعِزِّ لا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، ولَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ عِزُّ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أوْ لِلتَّقْرِيبِ والشَّفاعَةِ؛ أيْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، ولَكِنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَعِنْدَهُ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ، لا عِنْدَ مَن تَطْلُبُونَ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في أهْلِ النِّفاقِ الَّذِينَ يُراءُونَ بِأعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ في الدُّنْيا لِثَوابِ الدُّنْيا لا غَيْرَ.
و(مَن) يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً؛ والظّاهِرُ أنَّها شَرْطٌ، وجَوابُهُ الجُمْلَةُ المَقْرُونةُ بِفاءِ الجَوابِ؛ ولا بُدَّ في الجُمْلَةِ الواقِعَةِ جَوابًا لِاسْمِ الشَّرْطِ غَيْرِ الظَّرْفِ مِن ضَمِيرٍ عائِدٍ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ حَتّى يَتَعَلَّقَ الجَزاءُ بِالشَّرْطِ؛ والتَّقْدِيرُ: ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ لَهُ إنْ أرادَهُ؛ هَكَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ جَوابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ. والتَّقْدِيرُ: مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَلا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، ولْيَطْلُبِ الثَّوابَيْنِ؛ فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ. وقالَ الرّاغِبُ: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ تَبْكِيتٌ لِلْإنْسانِ؛ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلى أحَدِ السُّؤالَيْنِ، مَعَ كَوْنِ المَسْئُولِ مالِكًا لِلثَّوابَيْنِ، وحَثَّ عَلى أنْ يَطْلُبَ مِنهُ تَعالى ما هو أكْمَلُ، وأفْضَلُ مِن مَطْلُوبِهِ؛ فَمَن طَلَبَ خَسِيسًا مَعَ أنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَطْلُبَ نَفِيسًا؛ فَهو دَنِيءُ الهِمَّةِ. قِيلَ والآيَةُ وعِيدٌ لِلْمُنافِقِينَ، لا يُرِيدُونَ بِالجِهادِ غَيْرَ الغَنِيمَةِ. وقِيلَ هي حَضٌّ عَلى الجِهادِ.
﴿وكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾؛ أيْ سَمِيعًا لِأقْوالِهِمْ؛ بَصِيرًا بِأعْمالِهِمْ ونِيّاتِهِمْ.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ قالَ الطَّبَرِيُّ: هي سَبَبُ نازِلَةِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وقِيامِ مَن قامَ في أمْرِهِ بِغَيْرِ القِسْطِ. وقالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في اخْتِصامِ غَنِيٍّ وفَقِيرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ .
ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ النِّساءَ والنُّشُوزَ والمُصالَحَةَ؛ أعْقَبَهُ بِالقِيامِ بِأداءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعالى، وفي الشَّهادَةِ حُقُوقُ اللَّهِ. أوْ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تَعالى طالِبَ الدُّنْيا، وأنَّهُ عِنْدَهُ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ بَيَّنَ أنَّ كَمالَ السَّعادَةِ أنْ يَكُونَ قَوْلُ الإنْسانِ وفِعْلُهُ لِلَّهِ تَعالى، أوْ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ.
﴿وإنْ خِفْتُمْ أنْ لا تُقْسِطُوا في اليَتامى﴾ [النساء: ٣] والإشْهادُ عِنْدَ دَفْعِ أمْوالِ اليَتامى إلَيْهِمْ، وأمَرَ بِبَذْلِ النَّفْسِ والمالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ أُبَيْرِقٍ، واجْتِماعَ قَوْمِهِ عَلى الكَذِبِ والشَّهادَةِ بِالباطِلِ، ونَدَبَ لِلْمُصالَحَةِ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِأنْ أمَرَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالقِيامِ بِالعَدْلِ والشَّهادَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وأتى بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ في قَوّامِينَ حَتّى لا يَكُونَ مِنهم جَوْرٌ ما. والقِسْطُ: العَدْلُ. ومَعْنى ﴿شُهَداءَ لِلَّهِ﴾؛ أيْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا يُراعِي في الشَّهادَةِ إلّا جِهَةَ اللَّهِ تَعالى. والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿شُهَداءَ لِلَّهِ﴾ مِنَ الشَّهادَةِ في الحُقُوقِ؛ ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾، وهَكَذا فَسَّرَهُ المُفَسِّرُونَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: شُهَداءَ لِلَّهِ مَعْناهُ بِالوَحْدانِيَّةِ. (p-٣٦٩)ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾، بِقَوْلِهِ: ﴿قَوّامِينَ بِالقِسْطِ﴾؛ والتَّأْوِيلُ الأوَّلُ أبْيَنُ، انْتَهى كَلامُهُ. ويُضَعِّفُهُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهم شُهَداءُ لِلَّهِ بِالوَحْدانِيَّةِ؛ إلّا إنْ أُرِيدَ اسْتِمْرارُ الشَّهادَةِ.
وتَقَدَّمَتْ صِفَةُ (قَوّامِينَ) بِالقِسْطِ عَلى ﴿شُهَداءَ لِلَّهِ﴾؛ لِأنَّ القِيامَ بِالقِسْطِ أعَمُّ والشَّهادَةَ أخَصُّ. ولِأنَّ القِيامَ بِالقِسْطِ فِعْلٌ وقَوْلٌ، والشَّهادَةَ قَوْلٌ فَقَطْ. ومَعْنى: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾؛ أيْ تَشْهَدُونَ عَلى أنْفُسِكم؛ أيْ تُقِرُّونَ بِالحَقِّ، وتُقِيمُونَ القِسْطَ عَلَيْها. والظّاهِرُ أنَّهُ أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ أنْفُسَ الشُّهَداءِ لِلَّهِ تَعالى. وأبْعَدَ مَن جَوَّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى في أنْفُسِكم: الأهْلُ والأقارِبُ، وأنْ يَكُونَ ﴿أوِ الوالِدَيْنِ﴾ تَفْسِيرًا لِأنْفُسِكم، ويُضَعِّفُهُ العَطْفُ بَـ (أوْ) . وانْتَصَبَ (شُهَداءَ) عَلى أنَّهُ خَبْرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. ومَن ذَهَبَ إلى جَعْلِهِ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في قَوّامِينَ كَأبِي البَقاءِ؛ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ فِيها تَقْيِيدَ القِيامِ بِالقِسْطِ؛ سَواءٌ كانَ مِثْلَ هَذا أمْ لا. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ما يَشْهَدُ لِهَذا القَوْلِ الضَّعِيفِ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ كُونُوا قَوّامِينَ بِالعَدْلِ في الشَّهادَةِ عَلى مَن كانَ، ومَجِيءُ لَوْ هُنا لِاسْتِقْصاءِ جَمِيعِ ما يُمْكِنُ فِيهِ الشَّهادَةُ، لَما كانَتِ الشَّهادَةُ مِنَ الإنْسانِ عَلى نَفْسِهِ بِصَدَدِ أنْ لا يُقِيمَها لِما جُبِلَ عَلَيْهِ المَرْءُ مِن مُحاباةِ نَفْسِهِ، ومُراعاتِها. نَبَّهَ عَلى هَذِهِ الحالِ، وجاءَ هَذا التَّرْتِيبُ في الِاسْتِقْصاءِ في غايَةٍ مِنَ الحُسْنِ والفَصاحَةِ. فَبَدَأ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾؛ لِأنَّهُ لا شَيْءَ أعَزُّ عَلى الإنْسانِ مِن نَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الوالِدَيْنِ، وهُما أقْرَبُ إلى الإنْسانِ، وسَبَبُ نَشْأتِهِ؛ وقَدْ أمَرَ بِبِرِّهِما، وتَعْظِيمِهِما والحَوْطَةِ لَهُما، ثُمَّ ذَكَرَ الأقْرَبِينَ؛ وهم مَظِنَّةُ المَحَبَّةِ والتَّعَصُّبِ. وإذا كانَ هَؤُلاءِ أُمِرَ في حَقِّهِمْ بِالقِسْطِ والشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ، فالأجْنَبِيُّ أحْرى بِذَلِكَ. والآيَةُ تَعَرَّضَتْ لِلشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ لا لَهم، فَلا دَلالَةَ فِيها عَلى الشَّهادَةِ لَهم، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ. ولَوْ شَرْطِيَّةٌ بِمَعْنى (إنْ)، وقَوْلُهُ عَلى أنْفُسِكم مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: وإنْ كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلى أنْفُسِكم فَكُونُوا شُهَداءَ لِلَّهِ، هَذا تَقْرِيرُ الكَلامِ. وحَذْفُ (كانَ) بَعْدَ (لَوْ) كَثِيرٌ تَقُولُ: ائْتِنِي بِتَمْرٍ ولَوْ حَشَفًا؛ أيْ وإنْ كانَ التَّمْرُ حَشَفًا فائْتِنِي بِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَوْ عَلى أنْفُسِكم مُتَعَلِّقٌ بِشُهَداءَ. فَإنْ عَنى (شُهَداءَ) هَذا المَلْفُوظَ بِهِ فَلا يَصِحُّ ذَلِكَ، وإنْ عَنى الَّذِي قَدَّرْناهُ نَحْنُ فَيَصِحُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَوْ عَلى أنْفُسِكم، ولَوْ كانَتِ الشَّهادَةُ عَلى أنْفُسِكم أوْ آبائِكم أوْ أقارِبِكم. فَإنْ قُلْتَ: الشَّهادَةُ عَلى الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ أنْ يَقُولَ: أشْهَدُ أنَّ لِفُلانٍ عَلى والِدِي كَذا، وعَلى أقارِبِي، فَما مَعْنى الشَّهادَةِ عَلى نَفْسِهِ ؟ قُلْتُ: هي الإقْرارُ عَلى نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ في مَعْنى الشَّهادَةِ عَلَيْها بِإلْزامِ الحَقِّ لَها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وإنْ كانَتِ الشَّهادَةُ وبالًا عَلى أنْفُسِكم، أوْ عَلى (p-٣٧٠)آبائِكم وأقارِبِكم؛ وذَلِكَ أنْ يَشْهَدَ عَلى مَن تَوَقَّعَ ضَرَرَهُ مِن سُلْطانٍ ظالِمٍ أوْ غَيْرِهِ، انْتَهى كَلامُهُ. وتَقْدِيرُهُ: ولَوْ كانَتِ الشَّهادَةُ عَلى أنْفُسِكم لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ المَحْذُوفَ إنَّما يَكُونُ مِن جِنْسِ المَلْفُوظِ بِهِ قَبْلُ لِيَدُلَّ عَلَيْهِ؛ فَإذا قُلْتَ: كُنْ مُحْسِنًا لِمَن أساءَ إلَيْكَ، فَتُحْذَفُ (كانَ) واسْمُها والخَبَرُ، ويَبْقى مُتَعَلِّقُهُ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، ولا تُقَدِّرُهُ: ولَوْ كانَ إحْسانُكَ لِمَن أساءَ. فَلَوْ قُلْتَ: لِيَكُنْ مِنكَ إحْسانٌ، ولَوْ لِمَن أساءَ، فَتُقَدِّرُ: ولَوْ كانَ الإحْسانُ لِمَن أساءَ؛ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ؛ ولَوْ قَدَّرْتَهُ: ولَوْ كُنْتَ مُحْسِنًا لِمَن أساءَ إلَيْكَ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا؛ لِأنَّكَ تَحْذِفُ ما لا دَلالَةَ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ مُطابِقٍ. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وإنْ كانَتِ الشَّهادَةُ وبالًا عَلى أنْفُسِكم هَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ ما تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ كَوْنٌ مُقَيَّدٌ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ الكَوْنِ المُقَيَّدِ. لَوْ قُلْتَ: كانَ زَيْدٌ فِيكَ، وأنْتَ تُرِيدُ مُحِبًّا فِيكَ؛ لَمْ يَجُزْ؛ لِأنَّ مُحِبًّا مُقَيَّدٌ؛ وإنَّما ذَلِكَ جائِزٌ في الكَوْنِ المُطْلَقِ، وهو: تَقْدِيرٌ كائِنٌ أوْ مُسْتَقِرٌّ.
﴿إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾؛ أيْ إنْ يَكُنِ المَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا، فَلا تَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ لِغِناهُ، أوْ فَقِيرًا فَلا تَمْنَعْها تَرَحُّمًا عَلَيْهِ وإشْفاقًا. فَعَلى هَذا الجَوابُ مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّ العَطْفَ هو بِـ (أوْ)، ولا يُثَنّى الضَّمِيرُ إذا عُطِفَ بِها، بَلْ يُفْرَدُ . وتَقْدِيرُ الجَوابِ: فَلْيَشْهَدْ عَلَيْهِ، ولا يُراعِي الغَنِيَّ لِغِناهُ، ولا لِخَوْفٍ مِنهُ، ولا الفَقِيرَ لِمَسْكَنَتِهِ وفَقْرِهِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: فاللَّهُ أوْلى بِهِما لَيْسَ هو الجَوابَ، بَلْ لَمّا جَرى ذِكْرُ الغَنِيِّ والفَقِيرِ عادَ الضَّمِيرُ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ فاللَّهُ أوْلى بِجِنْسَيِ الغَنِيِّ والفَقِيرِ؛ أيْ بِالأغْنِياءِ والفُقَراءِ. وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: فاللَّهُ أوْلى بِهِمْ ما يَشْهَدُ بِإرادَةِ الجِنْسِ. وذَهَبَ الأخْفَشُ وقَوْمٌ إلى أنَّ (أوْ) في مَعْنى الواوِ؛ فَعَلى قَوْلِهِمْ يَكُونُ الجَوابُ: فاللَّهُ أوْلى بِهِما؛ أيْ حَيْثُ شَرَعَ الشَّهادَةَ عَلَيْهِما، وهو أنْظَرُ لَهُما مِنكم. ولَوْلا أنَّ الشَّهادَةَ عَلَيْهِما مَصْلَحَةٌ لَهُما لَما شَرَعَها. وقالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وقَدْ ذَكَرَ العَطْفَ بِالواوِ وثُمَّ؛ وحَتّى ما نَصُّهُ تَقُولُ: زَيْدٌ أوْ عُمَرُ، وقامَ زَيْدٌ لا عُمَرُ وقامَ، وكَذَلِكَ سائِرُ ما بَقِيَ مِن حُرُوفِ العَطْفِ يَعْنِي غَيْرَ الواوِ وحَتّى والفاءِ وثُمَّ والَّذِي بَقِيَ بَلْ ولَكِنْ وأمْ. قالَ: لا تَقُولُ قاما؛ لِأنَّ القائِمَ إنَّما هو أحَدُهُما لا غَيْرُ، ولا يَجُوزُ قاما إلّا في أوْ خاصَّةً؛ وذَلِكَ شُذُوذٌ لا يُقاسُ عَلَيْهِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾؛ فَأعادَ الضَّمِيرَ عَلى الغَنِيِّ والفَقِيرِ لِتَفَرُّقِهِما في الذِّكْرِ، انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِسَدِيدٍ. ولا شُذُوذَ في الآيَةِ، ولا دَلِيلَ فِيها عَلى جَوازِ: زَيْدٌ أوْ عَمْرٌو قاما عَلى جِهَةِ الشُّذُوذِ، ولا غَيْرُهُ. ولِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾ لَيْسَ بِجَوابٍ كَما قَرَّرْناهُ، والضَّمِيرُ لَيْسَ عائِدًا عَلى الغَنِيِّ والفَقِيرِ المَلْفُوظِ بِهِما في الآيَةِ؛ وإنَّما يَعُودُ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى مِن جِنْسَيِ الغَنِيِّ والفَقِيرِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: إنْ يَكُنْ غَنِيٌّ أوْ فَقِيرٌ عَلى أنَّ (كانَ) تامَّةٌ.
﴿فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى أنْ تَعْدِلُوا﴾ لَمّا أمَرَ تَعالى بِالقِيامِ بِالعَدْلِ وبِالشَّهادَةِ لِمَرْضاةِ اللَّهِ نَهى عَنِ اتِّباعِ الهَوى، وهو ما تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ مِمّا لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ تَعالى، وإنْ تَعْدِلُوا مِنَ العُدُولِ عَنِ الحَقِّ، أوْ مِنَ العَدْلِ، وهو القِسْطُ. فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: إرادَةَ أنْ تَجُورُوا، أوْ مَحَبَّةَ أنْ تَجُورُوا. وعَلى الثّانِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كَراهَةَ أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النّاسِ، وتُقْسِطُوا. وعَكَسَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا التَّقْدِيرَ؛ فَقالَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ مَخافَةَ أنْ تَعْدِلُوا، ويَكُونُ العَدْلُ بِمَعْنى القِسْطِ؛ كَأنَّهُ قالَ: انْتَهُوا خَوْفَ أنْ تَجُورُوا، أوْ مَحَبَّةَ أنْ تُقْسِطُوا. فَإنْ جَعَلْتَ العامِلَ (تَتَّبِعُوا) فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: مَحَبَّةَ أنْ تَجُورُوا انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ التَّقْدِيرِ يَكُونُ العامِلُ في أنْ تَعْدِلُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا مِن مَعْنى النَّهْيِ. وكانَ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الهَوى﴾، ثُمَّ أضْمَرَ فِعْلًا، وقَدَّرَهُ: انْتَهُوا خَوْفَ أنْ تَجُورُوا، أوْ مَحَبَّةَ أنْ تُقْسِطُوا؛ ولِذَلِكَ قالَ: فَإنْ جَعَلْتَ العامِلَ تَتَبَّعُوا. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ أنَّ العامِلَ هو تَتَّبِعُوا، ولا حاجَةَ إلى إضْمارِ جُمْلَةٍ أُخْرى؛ فَيَكُونُ فِعْلُها عامِلًا في ﴿أنْ تَعْدِلُوا﴾ . وإذا كانَ العامِلُ تَتَّبِعُوا؛ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الأوَّلُ هو المُتَّجِهُ، وعَلى هَذِهِ التَّقادِيرِ فَـ ﴿أنْ تَعْدِلُوا﴾ (p-٣٧١)مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أنْ لا تَعْدِلُوا؛ فَحَذَفَ (لا) أيْ لا تَتَّبِعُوا الهَوى في تَرْكِ العَدْلِ. وقِيلَ المَعْنى لا تَتَّبِعُوا الهَوى لِتَعْدِلُوا؛ أيْ لِتَكُونُوا في اتِّباعِكُمُوهُ عُدُولًا؛ تَنْبِيهًا أنَّ اتِّباعَ الهَوى، وتَحَرِّيَ العَدالَةِ مُتَنافِيانِ لا يَجْتَمِعانِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: المَعْنى اتْرُكُوا مُتابَعَةَ الهَوى حَتّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ العَدْلِ. والعَدْلُ عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتابَعَةِ الهَوى، ومَن تَرَكَ أحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الآخَرُ؛ فالتَّقْدِيرُ: لِأجْلِ أنْ تَعْدِلُوا.
﴿وإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا﴾ الظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِلْمَأْمُورِينَ بِالقِيامِ بِالقِسْطِ والشَّهادَةِ لِلَّهِ والمَنهِيِّينَ عَنِ اتِّباعِ الهَوى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو في لَيِّ الحاكِمِ عُنُقَهُ عَنْ أحَدِ الخَصْمَيْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ نَحْوَهُ قالَ: لَيُّ الحاكِمِ شِدْقَهُ لِأحَدِ الخَصْمَيْنِ مَيْلًا إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ ومُجاهِدٌ: هي في الشُّهُودِ يَلْوِي الشَّهادَةَ بِلِسانِهِ فَيُحَرِّفُها، ولا يَقُولُ الحَقَّ فِيها، أوْ يُعْرِضُ عَنْ أداءِ الحَقِّ فِيها، ويَقُولُ مَعْناهُ: يُدافِعُوا الشَّهادَةَ مِن لَيِّ الغَرِيمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ تَلْوُوا ألْسِنَتَكم عَنْ شَهادَةِ الحَقِّ، أوْ حُكُومَةِ العَدْلِ، أوْ تُعْرِضُوا عَنِ الشَّهادَةِ بِما عِنْدَكم، وتَمْنَعُوها.
وقَرَأ جَماعَةٌ في الشّاذِّ وابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ: وإنْ تَلُوا بِضَمِّ اللّامِ بِواوٍ واحِدَةٍ، ولَحَّنَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ قارِئَ هَذِهِ القِراءَةِ. قالَ: لا مَعْنى لِلِّوايَةِ هُنا؛ وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّها قِراءَةٌ مُتَواتِرَةٌ في السَّبْعِ، ولَها مَعْنًى صَحِيحٌ وتَخْرِيجٌ حَسَنٌ؛ فَنَقُولُ: اخْتُلِفَ في قَوْلِهِ ﴿وإنْ تَلْوُوا﴾ .
فَقِيلَ هي مِنَ الوِلايَةِ؛ أيْ وإنْ ولِيتُمْ إقامَةَ الشَّهادَةِ، أوْ أعْرَضْتُمْ عَنْ إقامَتِها؛ والوِلايَةُ عَلى الشَّيْءِ هو الإقْبالُ عَلَيْهِ. وقِيلَ هو مِنَ اللَّيِّ، وأصْلُهُ: تَلْوُوا، وأُبْدِلَتِ الواوُ المَضْمُومَةُ هَمْزَةً، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى اللّامِ، وحُذِفَتْ. قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وأبُو عَلِيٍّ والنَّحّاسُ، ونُقِلَ عَنِ النَّحّاسِ أيْضًا أنَّهُ اسْتُثْقِلَتِ الحَرَكَةُ عَلى الواوِ، فَأُلْقِيَتْ عَلى اللّامِ، وحُذِفَتْ إحْدى الواوَيْنِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ.
﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ هَذا فِيهِ وعِيدٌ لِمَن لَوى عَنِ الشَّهادَةِ أوْ أعْرَضَ عَنْها.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾ مُناسَبَتُها لِما قَبْلَها؛ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالقِيامِ بِالقِسْطِ والشَّهادَةِ لِلَّهِ؛ بَيَّنَ أنَّهُ لا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إلّا مَن كانَ راسِخَ القَدَمِ في الإيمانِ بِالأشْياءِ المَذْكُورَةِ، في هَذِهِ الآيَةِ، فَأمَرَ بِها. والظّاهِرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومَعْنى: آمِنُوا داوِمُوا عَلى الإيمانِ؛ قالَهُ الحَسَنُ، وهو أرْجَحُ؛ لِأنَّ لَفْظَ المُؤْمِنِ مَتى أُطْلِقَ لا يَتَناوَلُ إلّا المُسْلِمَ. وقِيلَ لِلْمُنافِقِينَ؛ أيْ يا أيُّها الَّذِينَ أظْهَرُوا الإيمانَ بِألْسِنَتِهِمْ آمِنُوا بِقُلُوبِكم. وقِيلَ لِمَن آمَنَ بِمُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ؛ أيْ يا مَن آمَنَ بِنَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ آمِن بِمُحَمَّدٍ. وقِيلَ هم جَمِيعُ الخَلْقِ؛ أيْ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ أخْذِ المِيثاقِ حِينَ قالَ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] . وقِيلَ اليَهُودُ خاصَّةً. وقِيلَ المُشْرِكُونَ آمَنُوا بِاللّاتَ والعُزّى والأصْنامِ والأوْثانِ. وقِيلَ: آمَنُوا عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ آمِنُوا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْلالِ. وقِيلَ آمَنُوا في الماضِي والحاضِرِ، آمِنُوا في المُسْتَقْبَلِ.
ونَظِيرُهُ: ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ﴾ [محمد: ١٩] مَعَ أنَّهُ كانَ عالِمًا بِذَلِكَ. ورُوِيَ «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ، وسَلّامًا ابْنَ أُخْتِهِ، وسَلَمَةَ ابْنَ أخِيهِ، وأسَدًا وأُسَيْدًا ابْنَيْ كَعْبٍ، وثَعْلَبَةَ بْنَ قَيْسٍ، ويامِينَ أتَوُا الرَّسُولَ، وقالُوا نُؤْمِنُ بِكَ وبِكِتابِكَ، ومُوسى والتَّوْراةِ، وعُزَيْرٍ، ونَكْفُرُ بِما سِواهُ مِنَ الكُتُبِ والرُّسُلِ؛ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وكِتابِهِ القُرْآنِ، وبِكُلِّ كِتابٍ كانَ قَبْلَهُ؛ فَقالُوا: لا نَفْعَلُ؛ فَنَزَلَتْ فَآمَنُوا كُلُّهم» .
﴿والكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ﴾ هو القُرْآنُ بِلا خِلافٍ ﴿والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾ المُرادُ بِهِ جِنْسُ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ آخَرًا: وكَتَبَهُ، وإنْ كانَ الخِطابُ لِلْيَهُودِ والنَّصارى، فَكَيْفَ قِيلَ لَهم ﴿والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾، وهم مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِما فَحَسْبُ، وما كانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ ما أُنْزِلَ (p-٣٧٢)مِنَ الكُتُبِ؛ فَأُمِرُوا أنْ يُؤْمِنُوا بِجَمِيعِ الكُتُبِ. أوْ لِأنَّ إيمانَهم بِبَعْضٍ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ طَرِيقَ الإيمانِ بِالجَمِيعِ واحِدٌ، وهو المُعْجِزَةُ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ، وابْنُ كَثِيرٍ: (نُزِّلَ) و(أُنْزِلَ) بِالبَنّاءِ لِلْمَفْعُولِ والباقُونَ بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قالَ نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ، وأنْزَلَ مِن قَبْلُ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا في عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلافِ الكُتُبِ قَبْلَهُ، انْتَهى. وهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ (نَزَّلَ) و(أنْزَلَ) لا تَصِحُّ لِأنَّ التَّضْعِيفَ في (نَزَّلَ) لَيْسَ لِلتَّكْثِيرِ والتَّفْرِيقِ؛ وإنَّما هو لِلتَّعْدِيَةِ، وهو مُرادِفٌ لِلْهَمْزَةِ. وقَدْ أشْبَعْنا الرَّدَّ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ في دَعْواهُ ذَلِكَ أوَّلَ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
﴿ومَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ جَوابُ الشَّرْطِ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلى الكُفْرِ بِالمَجْمُوعِ، بَلِ المَعْنى: ومَن يَكْفُرْ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ. وقُرِئَ: وكِتابِهِ عَلى الإفْرادِ والمُرادُ جِنْسُ الكُتُبِ. ولَمّا كانَ خَيْرَ الإيمانِ عَلِقَ بِثَلاثَةٍ: بِاللَّهِ والرَّسُولِ والكُتُبِ؛ لِأنَّ الإيمانَ بِالكُتُبِ تَضَمَّنَ الإيمانَ بِالمَلائِكَةِ واليَوْمِ الآخِرِ، وبُولِغَ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ المَلِكَ مُغَيَّبٌ عَنّا، وكَذَلِكَ اليَوْمُ الآخِرُ لَمْ يَقَعْ، وهو مُنْتَظَرٌ، فَنَصَّ عَلَيْهِما عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ؛ ولِئَلّا يَتَأوَّلَهُما مُتَأوِّلٌ عَلى خِلافِ ما هُما عَلَيْهِ. فَمَن أنْكَرَ المَلائِكَةَ أوِ القِيامَةَ فَهو كافِرٌ، وقَدَّمَ الكُتُبَ عَلى الرُّسُلِ عَلى التَّرْتِيبِ الوُجُودِيِّ؛ لِأنَّ المَلَكَ يَنْزِلُ بِالكُتُبِ والرُّسُلُ تَتَلَقّى الكُتُبَ مِنَ المَلَكِ. وقَدَّمَ في الأمْرِ بِالإيمانِ المَوْصُولِ عَلى الكِتابِ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ أوَّلُ ما يُباشِرُهُ المُؤْمِنَ ثُمَّ يَتَلَقّى الكِتابَ مِنهُ. فَحَيْثُ نَفى الإيمانَ كانَ عَلى التَّرْتِيبِ الوُجُودِيِّ، وحَيْثُ أثْبَتَ كانَ عَلى التَّرْتِيبِ اللِّقائِيِّ، وهو راجِعٌ لِلْوُجُودِ في حَقِّ المُؤْمِنِ.
{"ayahs_start":129,"ayahs":["وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤا۟ أَن تَعۡدِلُوا۟ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِیلُوا۟ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","وَإِن یَتَفَرَّقَا یُغۡنِ ٱللَّهُ كُلࣰّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَ ٰسِعًا حَكِیمࣰا","وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّیۡنَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِیَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُوا۟ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِیًّا حَمِیدࣰا","وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلًا","إِن یَشَأۡ یُذۡهِبۡكُمۡ أَیُّهَا ٱلنَّاسُ وَیَأۡتِ بِـَٔاخَرِینَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَ ٰلِكَ قَدِیرࣰا","مَّن كَانَ یُرِیدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعَۢا بَصِیرࣰا","۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ إِن یَكُنۡ غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرࣰا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلۡهَوَىٰۤ أَن تَعۡدِلُوا۟ۚ وَإِن تَلۡوُۥۤا۟ أَوۡ تُعۡرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِی نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا"],"ayah":"إِن یَشَأۡ یُذۡهِبۡكُمۡ أَیُّهَا ٱلنَّاسُ وَیَأۡتِ بِـَٔاخَرِینَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَ ٰلِكَ قَدِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق