الباحث القرآني

﴿إنْ يَشَأْ﴾ إنْ يُرِدْ إذْهابَكم وإيجادَ آخَرِينَ ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ يُفْنِكم ويُهْلِكْكم ﴿أيُّها النّاسُ ويَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أيْ: يُوجِدُ مَكانَكم دَفْعَةً قَوْمًا آخَرِينَ مِنَ البَشَرِ، فالخِطابُ لِنَوْعٍ مِنَ النّاسِ. وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ جَرِيرٍ مِن حَدِيثٍ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: ««أنَّهُ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: (p-165)﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ عَلى ظَهْرِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: وقالَ: إنَّهم قَوْمُ هَذا»» وفِيهِ نَوْعُ تَأْيِيدٍ لِما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ، وما نُقِلَ عَنِ العِراقِيِّ أنَّ الضَّرْبَ كانَ عِنْدَ نُزُولِها، وحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ ما ذُكِرَ سَهْوٌ عَلى ما نَصَّ عَلَيْهِ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، ومُقَلِّدُوهُما أنْ يَكُونَ المُرادُ خَلْقًا آخَرِينَ، أيْ: جِنْسًا غَيْرَ جِنْسِ النّاسِ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ خَطَأٌ، وكَوْنُهُ مِن قَبِيلِ المَجازِ - كَما قِيلَ – لا يُتِمُّ بِهِ المُرادُ لِمُخالَفَتِهِ لِاسْتِعْمالِ العَرَبِ، فَإنَّ (غَيْرًا) تَقَعُ عَلى المُغايِرِ في جِنْسٍ أوْ وصْفٍ و(آخَرُ) لا يَقَعُ إلّا عَلى المُغايَرَةِ بَيْنَ أبْعاضِ جِنْسٍ واحِدٍ. وفِي دُرَّةِ الغَوّاصِ في أوْهامِ الخَواصِّ أنَّهم يَقُولُونَ: ابْتَعْتُ عَبْدًا وجارِيَةً أُخْرى، فَيُوهِمُونَ فِيهِ؛ لِأنَّ العَرَبَ لَمْ تَصِفْ بِلَفْظَيْ (آخَرَ) و(أُخْرى) وجَمْعِهِما إلّا ما يُجانِسُ المَذْكُورَ قَبْلَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللاتَ والعُزّى﴾ ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ فَوَصَفَ جُلَّ اسْمُهُ مَناةً بِالأُخْرى لَمّا جانَسَتِ العُزّى، ووَصَفَ الأيّامَ بِالأُخَرِ لِكَوْنِها مِن جِنْسِ الشَّهْرِ، والأُمَّةُ لَيْسَتْ مِن جِنْسِ العَبْدِ لِكَوْنِها مُؤَنَّثَةً وهو مُذَكَّرٌ، فَلَمْ يَجُزْ لِذَلِكَ أنْ يَتَّصِفَ بِلَفْظٍ (أُخْرى) كَما لا يُقالُ: جاءَتْ هِنْدٌ ورَجُلٌ آخَرُ، والأصْلُ في ذَلِكَ أنَّ آخَرَ مِن قَبِيلِ أفْعَلَ الَّذِي يَصْحَبُهُ مِن، ويُجانِسُ المَذْكُورَ بَعْدَهُ، كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّكَ إذا قُلْتَ: قالَ: الفِنْدُ الزِّمّانِيُّ وقالَ آخَرُ: كانَ تَقْدِيرُ الكَلامِ: وقالَ آخَرُ مِنَ الشُّعَراءِ، وإنَّما حُذِفَتْ لَفْظَةُ (مِن) لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْها، وكَثْرَةِ اسْتِعْمالِ (آخَرَ) في النُّطْقِ. وفِي الدُّرِّ المَصُونِ: إنَّ هَذا غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وإنَّما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النُّحاةِ وأهْلُ اللُّغَةِ، وارْتَضاهُ نَجْمُ الأئِمَّةِ الرَّضِيُّ إلّا أنَّهُ يَرُدُّ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ ومَن مَعَهُ أنَّ (آخَرِينَ) صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، والصِّفَةُ لا تَقُومُ مَقامَ مَوْصُوفِها إلّا إذا كانَتْ خاصَّةً، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِكاتِبٍ، أوْ إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى تَعْيِينِ المَوْصُوفِ، وهُنا لَيْسَتْ بِخاصَّةٍ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الأوَّلِ لِتَدُلَّ عَلى المَحْذُوفِ. وقالَ ابْنُ يَسْعُوُنَ والصِّقِلِّيُّ وجَماعَهٌ: إنَّ العَرَبَ لا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ وآخَرَ؛ لِأنَّهُ إنَّما يُقابِلُ آخَرُ ما كانَ مِن جِنْسِهِ تَثْنِيَةً وجَمْعًا وإفْرادًا، وقالَ ابْنُ هِشامٍ: هَذا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ: ؎ولَقَدْ شَفَعْتُهُما بِآخَرَ ثالِثٍ وأبى الفِرارَ إلى الغَداةِ تَكَرُّمِي وقالَ أبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ: ؎وكُنْتُ أمْشِي عَلى ثِنْتَيْنِ مُعْتَدِلًا ∗∗∗ فَصِرْتُ أمْشِي عَلى أُخْرى مِنَ الشَّجَرِ وإنَّما يَعْنُونَ بِكَوْنِهِ مِن جِنْسِ ما قَبْلَهُ أنْ يَكُونَ اسْمُ المَوْصُوفِ بِآخِرَ في اللَّفْظِ، أوِ التَّقْدِيرُ يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَلى المُتَقَدِّمِ الَّذِي قُوبِلَ بِآخَرَ عَلى جِهَةِ التَّواطُؤِ، ولِذَلِكَ لَوْ قُلْتَ: جاءَنِي زَيْدٌ وآخَرُ كانَ سائِغًا؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: ورَجُلٌ آخَرُ، وكَذا: جاءَنِي زَيْدٌ وأُخْرى، تُرِيدُ: نَسَمَةً أُخْرى، وكَذا: اشْتَرَيْتُ فَرَسًا ومَرْكُوبًا آخَرَ سائِغٌ، وإنْ كانَ المَرْكُوبُ الآخَرُ جَمَلًا؛ لِوُقُوعِ المَرْكُوبِ عَلَيْهِما بِالتَّواطُؤِ، فَإنْ كانَ وُقُوعُ الِاسْمِ عَلَيْهِما عَلى جِهَةِ الِاشْتِراكِ المَحْضِ فَإنْ كانَتْ حَقِيقَتُهُما واحِدَةً جازَتِ المَسْألَةُ، نَحْوُ: قامَ أحَدُ الزَّيْدَيْنِ وقَعَدَ الآخَرُ، وإنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُما واحِدَةً لَمْ تَجُزْ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُقابَلْ بِهِ ما هو مِن جِنْسِهِ، نَحْوُ: رَأيْتُ المُشْتَرِيَ والمُشْتَرِيَ الآخَرَ تُرِيدُ بِأحَدِهِما الكَوْكَبَ وبِالآخَرِ مُقابِلَ البائِعِ، وهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ التَّواطُؤِ اتِّفاقُهُما في التَّذْكِيرِ؟ فِيهِ خِلافٌ، فَذَهَبَ المُبَرِّدُ إلى عَدَمِ اشْتِراطِهِ، فَيَجُوزُ: جاءَتْنِي جارِيَتُكَ وإنْسانٌ آخَرُ، واشْتَرَطَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ، والصَّحِيحُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ بِدَلِيلِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ: ؎والخَيْلُ تَقْتَحِمُ الغُبارَ عَوابِسا ∗∗∗ مِن بَيْنِ مَنظَمَةٍ وآخَرَ يَنْظِمُ (p-166)وما ذُكِرَ مِن أنَّ (آخَرَ) يُقابَلُ بِهِ ما تَقَدَّمَهُ مِن جِنْسِهِ هو المُخْتارُ، وإلّا فَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَتَقَدَّمَهُ شَيْءٌ مِن جِنْسِهِ، وزَعَمَ أبُو الحَسَنِ أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ، فَلَوْ قُلْتَ: جاءَنِي آخَرُ مِن غَيْرِ أنْ تَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ بِشَيْءٍ مِن صِنْفِهِ لَمْ يَجُزْ، ولَوْ قُلْتَ: أكَلْتُ رَغِيفًا وهَذا قَمِيصٌ آخَرُ لَمْ يَحْسُنْ. وأمّا قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎صَلّى عَلى عَزَّةَ الرَّحْمَنُ وابْنَتِها ∗∗∗ لَيْلى وصَلّى عَلى جاراتِها الأُخَرِ فَحُمُولٌ عَلى أنَّهُ جَعَلَ ابْنَتَها جارَّةً لَها لِتَكُونَ الأُخْرى مِن جِنْسِها، ولَوْلا هَذا التَّقْدِيرُ لَما جارَ أنْ يُعَقِّبَ ذِكْرَ البِنْتِ بِالجاراتِ، بَلْ كانَ يَقُولُ: وصَلّى عَلى بَناتِها الأُخَرِ، وقَدْ قُوبِلَ في البَيْتِ أيْضًا (أُخَرُ) وهو جَمْعٌ بِابْنَتِها وهو مُفْرَدٌ. وزَعْمٌ السُّهَيْلِيُّ أنَّ أُخْرى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ اسْتُعْمِلَتْ مِن غَيْرِ أنْ يَتَقَدَّمَها شَيْءٌ مِن صِنْفِها؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مَناةَ الطّاغِيَةِ الَّتِي كانُوا يُهِلُّونَ إلَيْها بِقُدَيْدٍ، فَجَعَلَها ثالِثَةَ اللّاةَ والعُزّى، وأُخْرى لِمَناةَ الَّتِي كانَ يَعْبُدُها عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ وغَيْرُهُ مِن قَوْمِهِ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَها ذِكْرٌ، والصَّوابُ أنَّهُ جَعَلَها أُخْرى بِالنَّظَرِ إلى اللّاتِ والعُزّى، وساغَ ذَلِكَ لِأنَّ المَوْصُوفَ بِالأُخْرى وهو الثّالِثَةُ يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَلى اللّاتِ والعُزّى، ألا تَرى أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ ثالِثَةٌ بِالنَّظَرِ إلى صاحِبَتِها؟ وإنَّما اتَّجَهَ ذَلِكَ إلى ما ذَكَرَهُ أبُو الحَسَنِ مِن أنَّ اسْتِعْمالَ آخَرَ وأُخْرى مِن غَيْرِ أنْ يَتَقَدَّمَهُما صِنْفُهُما لا يَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ، انْتَهى. وهُوَ تَحْقِيقٌ نَفِيسٌ إلّا أنَّهُ سَيَأْتِي - إنَّ شاءَ اللَّهُ تَعالى - تَحْقِيقُ الكَلامِ في الآيَةِ الَّتِي ذَكَرَها. وفِي المَسائِلِ الصُّغْرى لِلْأخْفَشِ في بابٍ عَقَدَهُ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ المَسْألَةِ أنَّ العَرَبَ لا تَسْتَعْمِلُ آخَرَ إلّا فِيما هو مِن صِنْفِ ما قَبْلَهُ، فَلَوْ قُلْتَ: أتانِي صَدِيقٌ لَكَ وعَدُوٌّ لَكَ آخَرُ لَمْ يَحْسُنْ؛ لِأنَّهُ لَغْوٌ مِنَ الكَلامِ، وهو يُشْبِهُ (سائِرَ، وبَقِيَّةَ، وبَعْضَ) في أنَّهُ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا في جِنْسِهِ، فَلَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُ رَجُلًا وتَرَكْتُ سائِرَ النِّساءِ لَمْ يَكُنْ كَلامًا، وقَدْ يَجُوزُ ما امْتُنِعَ بِتَأْوِيلٍ، كَـ: رَأيْتُ فَرَسًا وحِمارًا آخَرَ؛ نَظَرًا إلى أنَّهُ دابَّةٌ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎إذا قُلْتُ: هَذا صاحِبِي ورَضِيتُهُ ∗∗∗ وقَرَّتْ بِهِ العَيْنانِ بُدِّلْتُ آخَرا وفِي الحَدِيثِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وجَدَ خِفَّةً في مَرَضِهِ فَقالَ: «انْظُرُوا مَن أتَّكِئُ عَلَيْهِ فَجاءَتْ بَرِيرَةُ ورَجُلٌ آخَرُ فاتَّكَأ عَلَيْهِما»». وحاصِلُ هَذا أنَّهُ لا يُوصَفُ بِآخَرَ إلّا ما كانَ مِن جِنْسِ ما قَبْلَهُ لِتَتَبَيَّنَ مُغايَرَتُهُ في مَحَلٍّ يُتَوَهَّمُ فِيهِ اتِّحادُهُ ولَوْ تَأْوِيلًا، وحِينَئِذٍ لا يَكُونُ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ نَصًّا في الخَطَأِ، ومُخالَفَةُ اسْتِعْمالِ العَرَبِ المُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ. ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ﴾ أيْ: إفْنائِكم بِالمَرَّةِ وإيجادِ آخَرِينَ ﴿قَدِيرًا﴾ بَلِيغَ القُدْرَةِ، لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يَفْعَلْ وأبْقاكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العِصْيانِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ مَشِيئَتِهِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ لا لِعَجْزِهِ سُبْحانَهُ، وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب