الباحث القرآني
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهادُ﴾ ﴿قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ في فِئَتَيْنِ التَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ واللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشاءُ إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأبْصارِ﴾ ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ .
العِبْرَةُ: الِاتِّعاظُ يُقالُ مِنهُ: اعْتَبَرَ، وهو الِاسْتِدْلالُ بِشَيْءٍ عَلى شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، واشْتِقاقُها مِنَ العُبُورِ، وهو مُجاوَزَةُ الشَّيْءِ إلى الشَّيْءِ، ومِنهُ: عِبْرُ النَّهْرِ، وهو شَطُّهُ، والمِعْبَرُ: السَّفِينَةُ، والعِبارَةُ يُعَبِّرُ بِها إلى (p-٣٩٢)المُخاطَبِ بِالمَعانِي، وعَبَرْتَ الرُّؤْيا مُخَفَّفًا ومُثَقَّلًا: نَقَلْتَ ما عِنْدَكَ مِن عِلْمِها إلى الرّائِي أوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْهَلُ. وكانَ الِاعْتِبارُ انْتِقالًا عَنْ مَنزِلَةِ الجَهْلِ إلى مَنزِلَةِ العِلْمِ، ومِنهُ العَبْرَةُ: وهي الدَّمْعُ؛ لِأنَّها تُجاوِزُ العَيْنَ.
الشَّهْوَةُ: ما تَدْعُوَ النَّفْسُ إلَيْهِ، والفِعْلُ مِنهُ: اشْتَهى، ويُجْمَعُ بِالألِفِ والتّاءِ فَيُقالُ: شَهَواتٍ، ووَجَدْتُ أنا في شِعْرِ العَرَبِ جَمْعَها عَلى: شُهًى، نَحْوَ: نَزْوَةٌ ونُزًى، وكَوَّةٌ وكُوًى، عَلى قَوْلِ مَن زَعَمَ أنَّ: كُوًى جَمْعُ كَوَّةٍ، بِفَتْحِ الكافِ، وهَذا مَعَ: قَرْيَةٍ وقُرًى، ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ مِمّا جاءَ عَلى وزْنِ ”فَعْلَةٍ“ مُعْتَلِّ اللّامِ، وجُمِعَ عَلى ”فُعَلٍ“، واسْتَدْرَكْتُ أنا: شُهًى، وقالَتِ امْرَأةٌ مِن بَنِي نَضْرِ بْنِ مُعاوِيَةَ:
؎فَلَوْلا الشُّهى واللَّهِ كُنْتُ جَدِيرَةً بِأنْ أتْرُكَ اللَّذّاتِ في كُلِّ مَشْهَدِ
القِنْطارُ: فِنْعالُ نُونُهُ زائِدَةٌ، قالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، فَيَكُونُ وزْنُهُ: فِنْعالًا مِن: قَطَرَ يَقْطُرُ. وقِيلَ: أصْلٌ؛ ووَزْنُ ”فِعْلالٍ“، فِيهِ خِلافٌ: أهْوَ واقِعٌ عَلى عَدَدٍ مَخْصُوصٍ ؟ أمْ هو وزْنٌ لا يُحَدُّ ولا يُحْصَرُ ؟ والقائِلُونَ بِأنَّهُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ العَدَدِ، ويَأْتِي ذَلِكَ في التَّفْسِيرِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
ويُقالُ مِنهُ: قَنْطَرَ لِرَجُلٍ إذا كانَ عِنْدَهُ قَناطِيرُ، أوْ قِنْطارٌ مِنَ المالِ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مَأْخُوذٌ مِن: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ، عَقَدْتُهُ وأحْكَمْتُهُ، ومِنهُ سُمِّيَتِ القَنْطَرَةَ لِإحْكامِها؛ وقِيلَ: قَنْطَرْتُهُ: عَبَّيْتُهُ شَيْئًا عَلى شَيْءٍ، ومِنهُ سُمِّيَ القَنْطَرَةَ. فَشَبِهَ المالَ الكَثِيرَ الَّذِي يُعَبّى بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ بِالقَنْطَرَةِ.
الذَّهَبُ: مَعْرُوفٌ، وهو مُؤَنَّثٌ، يُجْمَعُ عَلى ذِهابٍ وذُهُوبٍ. وقِيلَ: الذَّهَبُ جَمْعُ ذَهَبَةٍ.
والفِضَّةُ: مَعْرُوفَةٌ، وجَمْعُها فِضَضٌ، فالذَّهَبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذَّهابِ، والفِضَّةُ مِنِ انْفَضَّ الشَّيْءُ: تَفَرَّقَ، ومِنهُ: فَضَضْتُ القَوْمَ.
الخَيْلُ: جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ، بَلْ واحِدُهُ: فَرَسٌ؛ وقِيلَ: واحِدُهُ: خايِلٌ، كَراكِبٍ ورَكْبٍ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاخْتِيالِها في مَشْيِها. وقِيلَ: اشْتِقاقُهُ مِنَ التَّخَيُّلِ، لِأنَّهُ يُتَخَيَّلُ في صُورَةِ مَن هو أعْظَمُ مِنهُ. وقِيلَ: الِاخْتِيالُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّخَيُّلِ.
النَّعَمُ: الإبِلُ فَقَطْ، قالَ الفَرّاءُ: وهو مُذَكَّرٌ، ولا يُؤَنَّثُ، يَقُولُونَ هَذا نَعَمٌ وارِدٌ. وقالَ الهَرَوِيُّ: النَّعَمُ: يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وإذا جُمِعَ انْطَلَقَ عَلى الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الأنْعامُ: الإبِلُ، والبَقَرُ، والغَنَمُ، واحِدُها نَعَمٌ، وهو جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ؛ وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِنُعُومَةِ مَسِّها وهو لِينُها، ومِنهُ: النّاعِمُ، والنَّعامَةُ، والنَّعامِيُّ: الجَنُوبُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ هُبُوبِها.
المَآبُ: مَفْعَلٌ مِن: آبَ يَئُوبُ إيابًا. أيْ: رَجَعَ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ، والمَكانِ والزَّمانِ.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهادُ﴾ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقاعَ قالُوا بَعْدَ وقْعَةِ بِدْرٍ: إنَّ قُرَيْشًا كانُوا أغْمارًا، ولَوْ حارَبْتَنا لَرَأيْتَ رِجالًا. وقِيلَ: نَزَلَتْ في قُرَيْشٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ، فَحَقَّقَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ. وقِيلَ: لَمّا غَلَبَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ، قالَتِ اليَهُودُ: هو النَّبِيُّ المَبْعُوثُ الَّذِي في كِتابِنا، لا تُهْزَمُ لَهُ رايَةٌ. فَقالَتْ لَهم شَياطِينُهم: لا تَعْجَلُوا حَتّى نَرى أمْرَهُ في وقْعَةٍ أُخْرى. فَلَمّا كانَتْ أُحُدٌ كَفَرُوا جَمِيعُهم؛ وقالُوا: لَيْسَ بِالنَّبِيِّ المَنصُورِ.
وقِيلَ: في أبِي سُفْيانَ وقَوْمِهِ، جَمَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، بَعْدَ بَدْرٍ، فَنَزَلَتْ. ولَمّا أخْبَرَ تَعالى قَبْلُ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم وأنَّهم وقُودُ النّارِ، ناسَبَ ذَلِكَ الوَعْدُ الصّادِقُ اتِّباعَهُ هَذا الوَعْدَ الصّادِقَ، وهو كالتَّوْكِيدِ لِما قَبْلَهُ، فالغَلَبَةُ تَحْصُلُ بِعَدَمِ انْتِفاعِهِمْ بِالأمْوالِ والأوْلادِ، والحَشْرُ لِجَهَنَّمَ مَبْدَأُ كَوْنِهِمْ يَكُونُونَ لَها وقُودًا.
وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: سَيَغْلَبُونَ ويَحْشَرُونَ، بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِالتّاءِ، خِطابًا، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ. ومَن قَرَأ بِالياءِ فالظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وتَكُونُ الجُمْلَةُ إذْ ذاكَ لَيْسَتْ مَحْكِيَّةً بِقُلْ، بَلْ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ آخَرَ، التَّقْدِيرُ: قُلْ لَهم قَوْلِي سَيُغْلَبُونَ، وإخْبارِي أنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِمُ الغَلَبَةُ والهَزِيمَةُ. كَما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] فَبِالتّاءِ أخْبَرَهم؛ بِمَعْنى ما أخْبَرَ بِهِ مِن أنَّهم سَيُغْلَبُونَ، وبِالياءِ أخْبَرَهم بِاللَّفْظِ (p-٣٩٣)الَّذِي أخْبَرَ بِهِ أنَّهم سَيُغْلَبُونَ، وأجازَ بَعْضُهم، وهو: الفَرّاءُ، وأحْمَدُ بْنُ يَحْيى، وأوْرَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمالًا أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في: سَيُغْلَبُونَ، في قِراءَةِ التّاءِ عَلى قُرَيْشٍ، أيْ: قُلْ لِلْيَهُودِ سَتُغْلَبُ قُرَيْشٌ، وفِيهِ بُعْدٌ.
والظّاهِرُ أنَّ: الَّذِينَ كَفَرُوا، يَعُمُّ الفَرِيقَيْنِ المُشْرِكِينَ واليَهُودَ، وكُلٌّ قَدْ غُلِبَ بِالسَّيْفِ، والجِزْيَةِ، والذِّلَّةِ، وظُهُورِ الدَّلائِلِ والحُجَجِ، وإلى مَعْناها الغايَةُ، وإنَّ جَهَنَّمَ مُنْتَهى حَشْرِهِمْ؛ وأبْعَدُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ ”إلى“ في مَعْنى ”في“، فَيَكُونُ المَعْنى: إنَّهم يُجْمَعُونَ في جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهادُ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ المَقُولِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافَ كَلامٍ مِنهُ تَعالى، قالَهُ الرّاغِبُ؛ والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ. وكَثِيرًا ما يُحْذَفُ لِفَهْمِ المَعْنى، وهَذا مِمّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: أنَّهُ مُبْتَدَأٌ والجُمْلَةُ الَّتِي قَبِلَهُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ؛ إذْ لَوْ كانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ لَلَزِمَ مِن ذَلِكَ حَذْفُ الجُمْلَةِ بِرَأْسِها مِن غَيْرِ أنْ يَبْقى ما يَدُلُّ عَلَيْها، وذَلِكَ لا يَجُوزُ، لِأنَّ حَذْفَ المُفْرَدِ أسْهَلُ مِن حَذْفِ الجُمْلَةِ. وأمّا مَن جَعَلَ ”المِهادُ“: ما مَهَّدُوا لِأنْفُسِهِمْ، أيْ: بِئْسَما مَهَّدُوا لِأنْفُسِهِمْ، وكانَ المَعْنى عِنْدَهُ، وبِئْسَ: فِعْلُهُمُ الَّذِي أدّاهم إلى جَهَنَّمَ، فَفِيهِ بُعْدٌ، ويُرْوى عَنْ مُجاهِدٍ.
﴿قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ في فِئَتَيْنِ التَقَتا﴾ قالَ في (رَيِّ الظَّمْآنِ): أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّها وقْعَةُ بَدْرٍ، والخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ. فَعَلى هَذا مَعْنى الآيَةِ تَثْبِيتُ النُّفُوسِ وتَشْجِيعُها، لِأنَّهُ لَمّا أمَرَ أنْ يَقُولَ لِلْكُفّارِ ما قالَ؛ أمْكَنَ أنْ يَسْتَبْعِدَ ذَلِكَ المُنافِقُونَ، وبَعْضُ ضَعَفَةِ المُؤْمِنِينَ، كَما قالَ مَن قالَ يَوْمَ الخَنْدَقِ: يَعِدُنا مُحَمَّدٌ أمْوالَ كِسْرى وقَيْصَرَ؛ ونَحْنُ لا نَأْمَنُ عَلى النِّساءِ في المَذْهَبِ، وكَما قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ حِينَ أخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالأمْنَةِ الَّتِي تَأْتِي، فَقُلْتُ في نَفْسِي: فَأيْنَ دُعّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ سَعَّرُوا البِلادَ ؟ الحَدِيثَ بِكَمالِهِ.
وقِيلَ: الخِطابُ لِلْكافِرِينَ، وهو ظاهِرٌ، ولا سِيَّما عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ سَتُغْلَبُونَ، بِالتّاءِ، ويُخَرَّجُ ذَلِكَ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَلى هَذا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهم؛ وإعْلامًا بِأنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُ دِينَهُ، وقَدْ أراكم في ذَلِكَ مِثالًا بِما جَرى لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِنَ الخِذْلانِ والقَتْلِ والأسْرِ.
وقِيلَ: الخِطابُ لِلْيَهُودِ، قالَهُ الفَرّاءُ، وابْنُ الأنْبارِيِّ وابْنُ جَرِيرٍ، وعَلى هَذا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لَهم؛ كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَغْتَرُّوا بِدُرْبَتِكم في الحَرْبِ، ومَنَعَةِ حُصُونِكم، ومُجالَبَتِكم لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإنَّ اللَّهَ غالِبُكم؛ وقَدْ عَلِمْتُمْ ما حَلَّ بِأهْلِ بَدْرٍ، ولَمْ يُلْحِقِ التّاءَ كانَ، وإنْ كانَ قَدْ أُسْنِدَ إلى مُؤَنَّثٍ، وهو الآيَةُ، لِأجْلٍ أنَّهُ تَأْنِيثٌ مَجازِيٌّ؛ وازْدادَ حُسْنًا بِالفَصْلِ، وإذا كانَ الفَصْلُ مُحَسَّنًا في المُؤَنَّثِ الحَقِيقِيِّ، فَهو أوْلى في المُؤَنَّثِ المَجازِيِّ، ومِن كَلامِهِمْ: حَضَرَ القاضِي امْرَأةً وقالَ:
؎إنَّ امْرَأً غَرَّهُ مِنكُنَّ واحِدَةٌ ∗∗∗ بَعْدِي وبَعْدَكِ في الدُّنْيا لَمَغْرُورُ
وقِيلَ: ذُكِرَ لِأنَّ مَعْنى الآيَةِ البَيانُ، فَهو كَما قالَ:
؎بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَةٌ رَخْصَةٌ ∗∗∗ كَخُرْعُوبَةِ البانَةِ المُنْفَطِرْ
ذَهَبَ إلى القَضِيبِ، وفي قَوْلِهِ ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: في قِصَّةِ فِئَتَيْنِ، ومَعْنى: التَقَتا، أيْ لِلْحَرْبِ والقِتالِ.
﴿فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ﴾ أيْ: فِئَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفِئَةٌ أُخْرى تُقاتِلُ في سَبِيلِ الشَّيْطانِ، فَحَذَفَ مِنَ الأُولى ما أثْبَتَ مُقابِلَهُ في الثّانِيَةِ، ومِنَ الثّانِيَةِ ما أثْبَتَ نَظِيرَهُ في الأُولى، فَذَكَرَ في الأُولى لازِمَ الإيمانِ، وهو القِتالُ في سَبِيلِ اللَّهِ. وذَكَرَ في الثّانِيَةِ مَلْزُومَ القِتالِ في سَبِيلِ الشَّيْطانِ، وهو الكُفْرُ.
والجُمْهُورُ بِرَفْعِ ”فِئَةٌ“، عَلى القَطْعِ، التَّقْدِيرُ: إحْداهُما، فَيَكُونُ: فِئَةٌ، عَلى هَذا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوِ التَّقْدِيرُ: مِنهُما، فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ.
وقِيلَ: الرَّفْعُ، عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في ”التَقَتا“ .
وقَرَأ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ وحُمَيْدٌ: فِئَةٍ، بِالجَرِّ، عَلى البَدَلِ التَّفْصِيلِيِّ، وهو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، كَما قالَ:
؎وكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ∗∗∗ ورِجْلٍ رَمى فِيها الزَّمانُ فَشُلَّتِ
(p-٣٩٤)ومِنهم مَن رَفَعَ: كافِرَةٌ، ومِنهم مَن خَفَضَها عَلى العَطْفِ، فَعَلى هَذِهِ القِراءَةِ تَكُونُ: فِئَةٌ الأُولى، بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، فَيَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ أيْ: فِئَةٌ مِنهُما تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وتَرْتَفِعُ أُخْرى عَلى وجْهَيِ القَطْعِ إمّا عَلى الِابْتِداءِ، وإمّا عَلى الخَبَرِ.
وقَرَأ ابْنُ السُّمَيْقِعِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: فِئَةً، بِالنَّصْبِ، قالُوا: عَلى المَدْحِ، وتَمامُ هَذا القَوْلِ: إنَّهُ انْتَصَبَ الأوَّلُ عَلى المَدْحِ، والثّانِي عَلى الذَّمِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: أمْدَحُ فِئَةً تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وأذُمُّ أُخْرى كافِرَةً.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّصْبُ في: فِئَةٍ، عَلى الِاخْتِصاصِ، ولَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّ المَنصُوبَ عَلى الِاخْتِصاصِ لا يَكُونُ نَكِرَةً، ولا مُبْهَمًا، وأجازَ هو وغَيْرُهُ قَبْلَهُ كالزَّجّاجِ: أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في ”التَقَتا“، وذَكَرَ فِئَةً: عَلى سَبِيلِ التَّوْطِئَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: تُقاتِلُ، بِالتّاءِ عَلى تَأْنِيثِ الفِئَةِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ، ومُقاتِلٌ: يُقاتِلُ بِالياءِ، عَلى التَّذْكِيرِ، قالُوا: لِأنَّ مَعْنى الفِئَةِ القَوْمُ فَرُدَّ إلَيْهِ، وجَرى عَلى لَفْظِهِ.
﴿يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ﴾ قَرَأ نافِعٌ، ويَعْقُوبُ، وسَهْلٌ، ”تَرَوْنَهم“ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وطَلْحَةُ: تُرَوْنَهم بِضَمِّ التّاءِ عَلى الخِطابِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ الياءِ عَلى الغَيْبَةِ، فَأمّا مَن قَرَأ بِالتّاءِ المَفْتُوحَةِ فَهو جارٍ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الخِطابِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ في ”لَكم“: لِلْمُؤْمِنِينَ، والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في ”تَرَوْنَهم“: لِلْمُؤْمِنِينَ أيْضًا. وضَمِيرُ النَّصْبِ في تَرَوْنَهم: وضَمِيرُ الجَرِّ في ”مِثْلَيْهِمْ“: عائِدٌ عَلى الكافِرِينَ، والتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أيُّها المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ في العَدَدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أبْلَغَ في الآيَةِ؛ أنَّهم رَأوُا الكُفّارَ في مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، ومَعَ ذَلِكَ نَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ وأوْقَعَ المُسْلِمُونُ بِهِمْ. وهَذِهِ حَقِيقَةُ التَّأْيِيدِ بِالنَّصْرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٤٩]
واسْتُبْعِدَ هَذا المَعْنى؛ لِأنَّهم جَعَلُوا هَذِهِ الآيَةَ، وآيَةَ الأنْفالِ، قِصَّةً واحِدَةً، وهُناكَ نَصٌّ عَلى أنَّهُ تَعالى قَلَّلَ المُشْرِكِينَ في أعْيُنِ المُؤْمِنِينَ، فَلا يُجامِعُ هَذا التَّكْثِيرَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ؛ ويُحْتَمَلُ عَلى مَن قَرَأ بِتاءِ الخِطابِ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في: تَرَوْنَهم لِلْكافِرِينَ، والمَجْرُورُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أيُّها المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ مِثْلَيِ المُؤْمِنِينَ، واسْتُبْعِدَ هَذا إذْ كانَ التَّرْكِيبُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ: تَرَوْنَهم مِثْلَيْكم.
وأُجِيبَ بِأنَّهُ مِنَ الِالتِفاتِ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ في: مِثْلَيْهِمْ، عَلى الفِئَةِ المُقاتِلَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، أيْ: تَرَوْنَ أيُّها المُؤْمِنُونَ الفِئَةَ الكافِرَةَ مِثْلَيِ الفِئَةِ المُقاتِلَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وهم أنْفُسُهم، والمَعْنى: تَرَوْنَهم مِثْلَيْكم، وهَذا تَقْلِيلٌ، إذا كانُوا نَيِّفًا عَلى ألْفٍ، والمُسْلِمُونَ في تَقْدِيرِ ثُلُثٍ مِنهم؛ فَأرى اللَّهُ المُسْلِمِينَ الكافِرِينَ في ضِعْفَيِ المُسْلِمِينَ عَلى ما قَرَّرَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ يَكُنْ مِنكم مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] لِتَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ.
وإذَنْ كانَ الضَّمِيرُ في لَكم: لِلْكافِرِينَ، وفي ”تَرَوْنَهم“: الخِطابُ لَهم، والمَنصُوبُ والمَجْرُورُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والتَّقْدِيرُ: تَرَوْنَ أيُّها الكافِرُونَ المُؤْمِنِينَ مِثْلَيْ أنْفُسِهِمْ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ عائِدًا عَلى الفِئَةِ الكافِرَةِ، أيْ: مِثْلَيِ الفِئَةِ الكافِرَةِ وهم أنْفُسُهم، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعالى قَدْ أرى المُشْرِكِينَ المُؤْمِنِينَ أضْعافَ أنْفُسِ المُؤْمِنِينَ، أوْ أضْعافَ الكافِرِينَ عَلى قِلَّةِ المُؤْمِنِينَ؛ لِيَهابُوهم ويَجْبُنُوا عَنْهم، وكانَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ مَدَدًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَما أمَدَّهم تَعالى بِالمَلائِكَةِ، فَإنْ كانَتْ هَذِهِ، وآيَةُ الأنْفالِ في قِصَّةٍ واحِدَةٍ، فالجَمْعُ بَيْنَ هَذا التَّكْثِيرِ، وذاكَ التَّقْلِيلِ بِاعْتِبارِ حالَيْنِ، قُلِّلُوا أوَّلًا في أعْيُنِ الكُفّارِ حَتّى يَجْتَرِئُوا عَلى مُلاقاةِ المُؤْمِنِينَ، وكُثِّرُوا حالَةَ المُلاقاةِ حَتّى قَهَرُوا وغَلَبُوا؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وقِفُوهم إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: ٢٤] ﴿لا يُسْألُ عَنْ ذَنبِهِ إنسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩] وأمّا مَن قَرَأ بِالياءِ المَفْتُوحَةِ، فالظّاهِرُ أنَّ الجُمْلَةَ تَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ: ﴿وأُخْرى كافِرَةٌ﴾ وضَمِيرُ الرَّفْعِ عائِدٌ عَلَيْها، عَلى المَعْنى، إذْ لَوْ عادَ عَلى اللَّفْظِ لَكانَ؛ تَراهم، وضَمِيرُ النَّصْبِ عائِدٌ عَلى: فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وضَمِيرُ الجَرِّ في: مِثْلَيْهِمْ، عائِدٌ عَلى فِئَةٍ أيْضًا، وذَلِكَ عَلى مَعْنى الفِئَةِ، (p-٣٩٥)إذْ لَوْ عادَ عَلى اللَّفْظِ لَكانَ التَّرْكِيبُ: تَراها مِثْلَيْها، أيْ تَرى الفِئَةُ الكافِرَةُ الفِئَةَ المُؤْمِنَةَ في مِثْلَيْ عَدَدِ نَفْسِها. أيْ: سِتِّمِائَةٍ ونَيِّفٍ وعِشْرِينَ، أوْ مِثْلَيْ أنْفُسِ الفِئَةِ الكافِرَةِ، أيْ: ألْفَيْنِ، أوْ قَرِيبًا مِن ألْفَيْنِ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الفاعِلِ عائِدًا عَلى الفِئَةِ المُؤْمِنَةِ عَلى المَعْنى، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ والمَجْرُورُ عائِدًا عَلى الفِئَةِ الكافِرَةِ عَلى المَعْنى، أيْ: تَرى الفِئَةُ المُؤْمِنَةُ الفِئَةَ الكافِرَةَ مِثْلَيْ نَفْسِها.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ عَلى الفِئَةِ الكافِرَةِ، أيْ: مِثْلَيِ الفِئَةِ الكافِرَةِ. والجُمْلَةُ إذْ ذاكَ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وأُخْرى كافِرَةٌ، فَفي الوَجْهِ الأوَّلِ الرّابِطُ: الواوَ، وفي هَذا الوَجْهِ الرّابِطُ ضَمِيرُ النَّصْبِ. وإذا كانَ الضَّمِيرُ في: لَكم لِلْيَهُودِ؛ فالآيَةُ كَما أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يَقُولَهُ لَهُمُ احْتِجاجًا عَلَيْهِمْ؛ وتَثْبِيتًا لِصُورَةِ الوَعْدِ السّابِقِ مِن أنَّ الكُفّارَ: سَيُغْلَبُونَ. فَمَن قَرَأ بِالتّاءِ كانَ مَعْناهُ: لَوْ حَضَرْتُمْ، أوْ إنْ كُنْتُمْ حَضَرْتُمْ، وساغَ هَذا الخِطابُ لِوُضُوحِ الأمْرِ في نَفْسِهِ، ووُقُوعِ اليَقِينِ بِهِ، لِكُلِّ إنْسانٍ في ذَلِكَ العَصْرِ، ومَن قَرَأ بِالياءِ فَضَمِيرُ الفاعِلِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْفِئَةِ المُؤْمِنَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْفِئَةِ الكافِرَةِ عَلى ما تَقَرَّرَ قَبْلُ.
والرُّؤْيَةُ في هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ بَصَرِيَّةٌ تَتَعَدّى لِواحِدٍ، وانْتَصَبَ مِثْلَيْهِمْ، عَلى الحالِ. قالَهُ أبُو عَلِيٍّ، ومَكِّيٌّ، والمَهْدَوِيُّ. ويُقَوِّي ذَلِكَ ظاهِرُ قَوْلِهِ: رَأْيَ العَيْنِ، وانْتِصابُهُ عَلى هَذا انْتِصابُ المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رُؤْيَةٌ ظاهِرَةٌ مَكْشُوفَةٌ، لا لَبْسَ فِيها مُعايَنَةٌ كَسائِرِ المُعايَناتِ. وقِيلَ: الرُّؤْيَةُ هُنا مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، فَيَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، والثّانِي هو: مِثْلَيْهِمْ. ورُدَّ هَذا بِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: قَوْلُهُ تَعالى: رَأْيَ العَيْنِ، والثّانِي: أنَّ رُؤْيَةَ القَلْبِ عِلْمٌ، ومُحالٌ أنْ يُعْلَمَ الشَّيْءُ شَيْئَيْنِ.
وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ: بِأنَّ انْتِصابَهُ انْتِصابُ المَصْدَرِ التَّشْبِيهِيِّ، أيْ: رَأْيًا مِثْلَ رَأْيِ العَيْنِ؛ أيْ: يُشْبِهُ رَأْيَ العَيْنِ ولَيْسَ في التَّحْقِيقِ بِهِ، وعَنِ الثّانِي: بِأنَّ مَعْنى الرُّؤْيَةِ هُنا الِاعْتِقادُ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ مُحالًا، وإذا كانُوا قَدْ أطْلَقُوا العِلْمَ في اللُّغَةِ عَلى الِاعْتِقادِ دُونَ اليَقِينِ، فَلِأنْ يُطْلِقُوا الرَّأْيَ عَلَيْهِ أوْلى. قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] أيْ: فَإنِ اعْتَقَدْتُمْ إيمانَهُنَّ، ويَدُلُّ عَلى هَذا قِراءَةُ مَن قَرَأ: تَرَوْنَهم، بِضَمِّ التّاءِ، أوِ الياءِ. قالُوا: فَكانَ المَعْنى أنَّ اعْتِقادَ التَّضْعِيفِ في جَمْعِ الكُفّارِ، أوِ المُؤْمِنِينَ كانَ تَخْمِينًا وظَنًّا، لا يَقِينًا.
فَلِذَلِكَ تُرِكَ في العِبارَةِ ضَرْبٌ مِنَ الشَّكِّ، وذَلِكَ أنْ أُرِيَ، بِضَمِّ الهَمْزَةِ، تَقَوُّلُها فِيما عِنْدَكَ فِيهِ نَظَرٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَكَما اسْتَحالَ أنْ يُحْمَلَ الرَّأْيُ هُنا عَلى العِلْمِ، يَسْتَحِيلُ أنْ يُحْمَلَ عَلى النَّظَرِ بِالعَيْنِ، لِأنَّهُ كَما لا يَقَعُ العِلْمُ غَيْرَ مُطابِقٍ لِلْمَعْلُومِ، كَذَلِكَ لا يَقَعُ النَّظَرُ البَصَرِيُّ مُخالِفًا لِلْمَنظُورِ إلَيْهِ؛ فالظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إنَّما هو عَلى سَبِيلِ التَّخْمِينِ والظَّنِّ، وإنَّهُ لِتَمَكُّنِ ذَلِكَ في اعْتِقادِهِمْ؛ شُبِّهَ بِرُؤْيَةِ العَيْنِ، والرَّأْيُ مَصْدَرُ: رَأى، يُقالُ: رَأى رَأْيًا ورُؤْيَةً ورُؤْيا، ويَغْلِبُ رُؤْيا في المَنامِ؛ ورُؤْيَةً في البَصَرِيَّةِ يَقَظَةً، ورَأْيًا في الِاعْتِقادِ، يُقالُ: هَذا رَأْيُ فُلانٍ، قالَ:
؎رَأى النّاسُ إلّا مَن رَأى مِثْلَ رَأْيِهِ ∗∗∗ خَوارِجَ تَرّاكِينَ قَصْدَ المَخارِجِ
ومَعْنى: مِثْلَيْهِمْ، قَدْرُهم مَرَّتَيْنِ. وزَعْمَ الفَرّاءُ أنَّ مَعْنى: يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ، ثَلاثَةُ أمْثالِهِمْ كَقَوْلِ القائِلِ: عِنْدِي ألْفٌ وأنا مُحْتاجٌ إلى مِثْلَيْها. وغَلَّطَهُ الزَّجّاجُ، وقالَ: إنَّما مِثْلُ الشَّيْءِ مُساوٍ لَهُ ومِثْلاهُ مُساوِيِهِ مَرَّتَيْنِ.
وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: أوْقَعَ الفَرّاءُ في هَذا التَّأْوِيلِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا ثَلاثَةَ أمْثالِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَتَوَهَّمَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونُوا يَرَوْنَهم إلّا عَلى عِدَّتِهِمْ، وهَذا بَعِيدٌ، ولَيْسَ المَعْنى عَلَيْهِ، وإنَّما المَعْنى أراهُمُ اللَّهُ عَلى غَيْرِ عِدَّتِهِمْ بِجِهَتَيْنِ: إحْداهُما: أنَّهُ رَأى الصَّلاحَ في ذَلِكَ، لِأنَّ المُؤْمِنِينَ يَقْوى قُلُوبُهم بِذَلِكَ؛ والأُخْرى: أنَّهُ آيَةُ النَّبِيِّ ﷺ انْتَهى كَلامُ ابْنِ كَيْسانَ.
وتَظاهَرَتِ الرِّواياتِ أنَّ جَمِيعَ الكُفّارِ بِبَدْرٍ كانُوا نَحْوَ الألْفِ أوْ تِسْعِمِائَةٍ، والمُؤْمِنِينَ ثَلاثِمِائَةٍ وأرْبَعَةَ عَشَرَ. وقِيلَ: وثَلاثَةَ عَشْرَةَ، لَكِنْ رَجَعَ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الأخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، ورَجَعَ طالِبُ بْنُ أبِي طالِبٍ، وأتْباعٌ وناسٌ كَثِيرٌ (p-٣٩٦)حَتّى بَقِيَ لِلْقِتالِ مَن يَقْرُبُ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَذَكَرَ اللَّهُ المِثْلَيْنِ، إذْ أمْرُهُما مُتَيَقَّنٌ لَمْ يَدْفَعْهُ أحَدٌ. وحُكِيَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا في قِتالِ بَدْرٍ سِتَّمِائَةٍ وسِتَّةً وعِشْرِينَ، وقَدْ ذَهَبَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ إلى أنَّهم كانُوا نَحْوَ الألْفِ.
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«يَوْمَ بَدْرٍ القَوْمُ ألْفٌ“» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَظَرْنا إلى المُشْرِكِينَ فَرَأيْناهم يَضْعُفُونَ عَلَيْنا، ثُمَّ نَظَرْنا إلَيْهِمْ فَما رَأيْناهم يَزِيدُونَ عَلَيْنا رَجُلًا واحِدًا. وقالَ في رِوايَةٍ: لَقَدْ قُلِّلُوا في أعْيُنِنا حَتّى لَقَدْ قُلْتُ لِرَجُلٍ إلى جانِبِي تَراهم سَبْعِينَ ؟ قالَ: أراهم مِائَةً، فَأسَرْنا مِنهم رَجُلًا فَقُلْنا: كَمْ كُنْتُمْ ؟ قالَ: ألْفًا. ونُقِلَ أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا أُسِرُوا، قالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: كَمْ كُنْتُمْ ؟ قالُوا: كُنّا ثَلاثَمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشْرَةَ، قالُوا: ما كُنّا نَراكم إلّا تَضْعُفُونَ عَلَيْنا، وتَكْثِيرُ كُلِّ طائِفَةٍ في عَيْنِ الأُخْرى، وتَقْلِيلُها بِالنِّسْبَةِ إلى وقْتَيْنِ جائِزٌ، فَلا يَمْتَنِعُ.
﴿واللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: يُقَوِّيهِ بِعَوْنِهِ. وقِيلَ: النَّصْرُ الحُجَّةُ. ونِسْبَةُ التَّأْيِيدِ إلَيْهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُؤَيَّدَ هُمُ المُؤْمِنُونَ، ومَفْعُولُ: مَن يَشاءُ، مَحْذُوفٌ؛ أيْ: مَن يَشاءُ نَصْرَهُ.
(إنَّ في ذَلِكَ) أيَ: النَّصْرِ. وقِيلَ: رُؤْيَةُ الجَيْشِ مِثْلَيْهِمْ، (لَعِبْرَةً) أيِ: اتِّعاظًا ودَلالَةً.
﴿لِأُولِي الأبْصارِ﴾ إنْ كانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، فالمَعْنى: لِلَّذِينَ أبْصَرُوا الجَمْعَيْنِ، وإنْ كانَتِ اعْتِقادِيَّةً، فالمَعْنى: لِذَوِي العُقُولِ السَّلِيمَةِ القابِلَةِ لِلِاعْتِبارِ.
﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: زُيِّنَ؛ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والفاعِلُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: هو اللَّهُ تَعالى، قالَهُ عُمَرُ؛ لِأنَّهُ قالَ حِينَ نَزَلَتِ: الآنَ يا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَها، فَنَزَلَتْ ﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥] الآيَةَ، ومَعْنى التَّزْيِينِ: خَلْقُها وإنْشاءُ الجِبِلَّةِ عَلى المَيْلِ إلَيْها، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ﴾ [الكهف: ٧] فَزَيَّنَها تَعالى لِلِابْتِلاءِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ: زَيَّنَ لِلنّاسِ حُبُّ، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وهو الضَّمِيرُ العائِدُ عَلى اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يُؤَيِّدُ﴾ .
وقِيلَ: المُزَيِّنُ الشَّيْطانُ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ الحَسَنِ، قالَ: مَن زَيَّنَها ؟ ما أحَدٌ أشَدُّ ذَمًّا لَها مِن خالِقِها، ويَصِحُّ إسْنادُ التَّزْيِينِ إلى اللَّهِ - تَعالى - بِالإيجادِ والتَّهْيِئَةِ لِلِانْتِفاعِ، ونِسْبَتُهُ إلى الشَّيْطانِ بِالوَسْوَسَةِ، وتَحْصِيلِها مِن غَيْرِ وجْهِها. وأشارَتِ الآيَةُ إلى تَوْبِيخِ مُعاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ اليَهُودِ وغَيْرِهِمُ، المَفْتُونِينَ بِالدُّنْيا، وأضافَ المَصْدَرَ إلى المَفْعُولِ، وهو الكَثِيرُ في القُرْآنِ، وعَبَّرَ عَنِ المُشْتَهَياتِ بِالشَّهَواتِ مُبالَغَةً؛ إذْ جَعَلَها نَفْسَ الأعْيانِ، وتَنْبِيهًا عَلى خِسَّتِها، لِأنَّ الشَّهْوَةَ مُسْتَرْذَلَةٌ عِنْدَ العُقَلاءِ، يُذَمُّ مُتْبِعُها ويُشْهَدُ لَهُ بِالِانْتِظامِ في البَهائِمِ، وناهِيكَ لَها ذَمًّا قَوْلُهُ ﷺ: «حُفَّتِ النّارُ بِالشَّهَواتِ وحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ»
وأتى بِذِكْرِ الشَّهَواتِ أوَّلًا مَجْمُوعَةً عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، ثُمَّ أخَذَ في تَفْسِيرِها شَهْوَةً شَهْوَةً؛ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ المُزَيَّنَ ما هو إلّا شَهْوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لا غَيْرَ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْها، وذَمٌّ لِطالِبِها ولِلَّذِي يَخْتارُها عَلى ما عِنْدَ اللَّهِ، وبَدَأ في تَفْصِيلِها بِالأهَمِّ فالأهَمِّ، بَدَأ بِالنِّساءِ لِأنَّهُنَّ حَبائِلُ الشَّيْطانِ وأقْرَبُ وأكْثَرُ امْتِزاجًا: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ»، «ما رَأيْتُ مِن ناقِصاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحازِمِ مِنكُنَّ» . ويُقالُ: فِيهِنَّ فِتْنَتانِ؛ قَطْعُ الرَّحِمِ وجَمْعُ المالِ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، وفي البَنِينَ فِتْنَةٌ واحِدَةٌ وهي جَمْعُ المالِ. وثَنى بِالبَنِينَ لِأنَّهم مِن ثَمَراتِ النِّساءِ، وفُرُوعٌ عَنْهُنَّ، وشَقائِقُ النِّساءِ في الفِتَنِ؛ «الوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» .
؎وإنَّما أوْلادُنا بَيْنَنا ∗∗∗ أكْبادُنا تَمْشِي عَلى الأرْضِ
؎لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلى بَعْضِهِمْ ∗∗∗ لامْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنَ الغَمْضِ
المَرْءُ مَفْتُونٌ بِابْنِهِ وبِشِعْرِهِ، وقُدِّمُوا عَلى الأمْوالِ لِأنَّ حُبَّ الإنْسانِ ولَدَهُ أكْثَرُ مِن حُبِّهِ مالَهُ؛ وحَيْثُ ذَكَرَ الِامْتِنانَ والإنْعامَ أوِ الِاسْتِعانَةَ والغَلَبَةَ، قُدِّمَتِ الأمْوالُ عَلى الأوْلادِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ ”والبَنِينَ“: الذُّكْرانِ. وقِيلَ: يَشْمَلُ الإناثَ، وغَلَبَ التَّذْكِيرُ.
﴿والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ﴾ ثُلِّثَ بِالأمْوالِ (p-٣٩٧)لِما في المالِ مِنَ الفِتْنَةِ، ولِأنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ غالِبُ الشَّهَواتِ، ولِأنَّ المَرْءَ يَرْتَكِبُ الأخْطارَ في تَحْصِيلِهِ لِلْوَلَدِ. واخْتُلِفَ في القِنْطارِ، أهْوَ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ، أمْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؟ فَقِيلَ: ألْفٌ ومِائَتا أُوقِيَّةٍ، وقِيلَ: اثْنا عَشَرَ ألْفَ أُوقِيَّةٍ، وقِيلَ: ألْفٌ ومِائَتا دِينارٍ. وكُلُّ هَذِهِ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الأوَّلُ: رَواهُ أُبَيٌّ، وقالَ بِهِ مُعاذٌ، وابْنُ عُمَرَ، وعاصِمُ بْنُ أبِي النَّجُودِ، والحَسَنُ في رِوايَةٍ. والثّانِي: رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ وقالَ بِهِ. والثّالِثُ: رَواهُ الحَسَنُ، ورَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وقِيلَ: اثْنا عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ، أوْ ألْفُ دِينارٍ ذَهَبًا، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَنِ الحَسَنِ، والضَّحّاكِ، وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: ثَمانُونَ ألْفًا. وقالَ مُجاهِدٌ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَبْعُونَ ألْفَ دِينارٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: ثَمانِيَةُ آلافِ مِثْقالٍ، وهي مِائَةُ رِطْلٍ. وقالَ الكَلْبِيُّ: ألْفُ مِثْقالِ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ. وقالَ قَتادَةُ: مِائَةُ رِطْلٍ مِنَ الذَّهَبِ، أوْ ثَمانُونَ ألْفَ دِرْهَمٍ مِنَ الفِضَّةِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ: مِائَةُ ألْفٍ، ومِائَةُ مَنٍّ، ومِائَةُ رِطْلٍ، ومِائَةُ مِثْقالٍ، ومِائَةُ دِرْهَمٍ. ولَقَدْ جاءَ الإسْلامُ يَوْمَ جاءَ، وبِمَكَّةَ مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ قَنْطَرُوا. وقِيلَ: أرْبَعُونَ أُوقِيَّةً مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ وقالَهُ ابْنُ سِيدَهْ في (المُحْكَمِ) . وقِيلَ: ثَمانِيَةُ آلافِ مِثْقالٍ، وهي مِائَةُ رِطْلٍ.
وقالَ ابْنُ سِيدَهْ في (المُحْكَمِ) القِنْطارُ: بِلُغَةِ بَرْبَرَ: ألْفُ مِثْقالٍ. ورَوى أنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في تَفْسِيرِ: ﴿وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا﴾ [النساء: ٢٠] قالَ: ألْفَ دِينارٍ. وحَكى الزَّجّاجُ أنَّهُ قِيلَ: إنَّ القِنْطارَ هو رِطْلُ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وأظُنُّهُ وهْمًا، وإنَّ القَوْلَ مِائَةُ رِطْلٍ، فَسَقَطَتْ مِائَةٌ لِلنّاقِلِ، انْتَهى. وقالَ أبُو حَمْزَةَ الثُّمالِيُّ: القِنْطارُ بِلِسانِ أفْرِيقِيَّةَ والأنْدَلُسِ: ثَمانِيَةُ آلافِ مِثْقالٍ، وهَذا يَكُونُ في الزَّمانِ الأوَّلِ. وأمّا الآنَ فَهو عِنْدَنا: مِائَةُ رِطْلٍ، والرِّطْلُ عِنْدَنا، سِتَّةَ عَشَرَ أُوقِيَّةً. وقالَ أبُو بَصْرَةَ، وأبُو عُبَيْدَةَ: مِلْءُ مِسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا. قالَ ابْنُ سِيدَهْ: وكَذا هو بِالسُّرْيانِيَّةِ. وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: وكَذا هو بِلُغَةِ الرُّومِ.
وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: المالُ الكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: المالُ العَظِيمُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: القِنْطارُ عِنْدَ العَرَبِ وزْنٌ لا يُحَدُّ، وقالَ الحَكَمُ: القِنْطارُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ مِن مالٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: القِنْطارُ مِعْيارٌ يُوزَنُ بِهِ، كَما أنَّ الرِّطْلَ مِعْيارٌ.
ويُقالُ: لَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الوَزْنُ قِنْطارًا، أيْ: يَعْدِلُ القِنْطارَ، وأصَحُّ الأقْوالِ الأوَّلُ، والقِنْطارُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ البِلادِ في قَدْرِ الأُوقِيَّةِ انْتَهى.
والمُقَنْطَرَةُ: مُفَعْلَلَةُ، أوْ مُفَيْعَلَةُ مِنَ القِنْطارِ. ومَعْناهُ المُجْتَمِعَةُ، كَما يَقُولُ: الأُلُوفُ المُؤَلَّفَةُ، والبَدْرَةُ المُبَدَّرَةُ. اشْتَقُّوا مِنها وصْفًا لِلتَّوْكِيدِ. وقِيلَ: المُقَنْطَرَةُ المُضَعَّفَةُ، قالَهُ قَتادَةُ والطَّبَرِيُّ. وقِيلَ: المُقَنْطَرَةُ تِسْعَةُ قَناطِيرَ، لِأنَّهُ جَمْعُ جَمْعٍ، قالَهُ النَّقّاشُ، وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: لا تَكُونُ المُقَنْطَرَةُ أقَلَّ مِن تِسْعَةٍ. وقالَ الفَرّاءُ: لا تَكُونُ أكْثَرَ مِن تِسْعَةٍ، وهَذا كُلُّهُ تَحَكُّمٌ. وقالَ السُّدِّيُّ: المُقَنْطَرَةُ المَضْرُوبَةُ دَنانِيرَ، أوْ دَراهِمَ. وقالَ الرَّبِيعُ والضَّحّاكُ: المُنَضَّدُ الَّذِي بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وقِيلَ: المَخْزُونَةُ المَدْخُورَةُ. وقالَ يَمانٌ: المَدْفُونَةُ المَكْنُوزَةُ. وقِيلَ: الحاضِرَةُ العَتِيدَةُ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَ مَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ: ما المالُ إلّا ما حازَتْهُ العِيانُ
﴿مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ﴾ تَبْيِينٌ لِلْقَناطِيرِ، وهو في مَوْضِعِ الحالِ مِنها، أيْ كائِنًا مِنَ الذَّهَبِ ﴿والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ﴾ أيِ: الرّاعِيَةِ في المُرُوجِ، سامَتْ: سَرَحَتْ، وأخَذَتْ سَوْمَها مِنَ الرَّعْيِ؛ أيْ: غايَةَ جَهْدِها، ولَمْ تُقْصَرْ عَلى حالٍ دُونَ حالٍ، فَيَكُونُ قَدْ عُدِّيَ الفِعْلُ بِالتَّضْعِيفِ، كَما عُدِّيَ بِالهَمْزَةِ في قَوْلِهِمْ: ”أسْمَتْها“ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبْزى، ومُجاهِدٌ، والرَّبِيعُ. ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ: أنَّها المُطَهَّمَةُ الحِسانُ. وقالَ السُّدِّيُّ: هي الرّائِقَةُ مِن سِيما الحَسَنِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: سَوْمُها: الحُسْنُ، واخْتارَهُ النَّحّاسُ. مِن قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ وسِيمٌ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ، إلّا إنِ ادَّعى القَلْبَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والكِسائِيُّ: المُعَلَّمَةُ بِالشِّياتِ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو مِنَ السُّومَةِ، وهي العَلامَةُ قالَ أبُو طالِبٍ: (p-٣٩٨)
؎أمِينٌ مُحِبٌّ لِلْعِبادِ مُسَوَّمِ ∗∗∗ بِخاتَمِ رَبٍّ طاهِرٍ لِلْخَواتِمِ
قالَ أبُو زَيْدٍ: أصْلُ ذَلِكَ أنْ تَجْعَلَ عَلَيْها صُوفَةً أوْ عَلامَةً تُخالِفُ سائِرَ جَسَدِها؛ لِتَبِينَ مِن غَيْرِها في المَرْعى. وقالَ ابْنُ فارِسَ في (المُجْمَلِ) المُسَوَّمَةُ: هي المُرْسَلُ عَلَيْها رُكْبانُها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُعَدَّةُ لِلْجِهادِ. وقالَ ابْنُ المُبَرِّدِ: المَعْرُوفَةُ في البُلْدانِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: البَلْقُ. وقِيلَ: ذَواتُ الأوْضاحِ مِنَ الغُرَّةِ والتَّحْجِيلِ. وقِيلَ: هي الهَمالِيجُ.
﴿والأنْعامِ والحَرْثِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعاطِيفُ مِن قَوْلِهِ: والقَناطِيرُ، إلى آخِرِها. غَيْرَ ما أتى تَبْيِينًا مَعْطُوفًا عَلى الشَّهَواتِ، أيْ: وحُبُّ القَناطِيرِ وكَذا وكَذا. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: مِنَ النِّساءِ، فَيَكُونُ مُنْدَرِجًا في الشَّهَواتِ؛ ولَمْ يَجْمَعِ الحَرْثَ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ في الأصْلِ. وقِيلَ: يُرادُ بِهِ المَفْعُولُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ولا تَسْقِي الحَرْثَ﴾ [البقرة: ٧١] .
﴿ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ أشارَ: بِذَلِكَ، وهو مُفْرَدٌ إلى الأشْياءِ السّابِقَةِ وهي كَثِيرَةٌ، لِأنَّهُ أرادَ ذَلِكَ المَذْكُورَ، أوِ المُتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. والمَعْنى: تَحْقِيرُ أمْرِ الدُّنْيا، والإشارَةُ إلى فَنائِها وفَناءِ ما يُسْتَمْتَعُ بِهِ فِيها، وأدْغَمَ أبُو عُمَرَ؛ وفي الإدْغامِ الكَبِيرِ ثاءٌ؛ والحَرْثُ: في ذالِ ذَلِكَ، واسْتُضْعِفَ لِصِحَّةِ السّاكِنِ قَبْلَ الثّاءِ.
﴿واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ أيِ: المَرْجِعُ، وهو إشارَةٌ إلى نَعِيمِ الآخِرَةِ الَّذِي لا يَفْنى ولا يَنْقَطِعُ.
ومِن غَرِيبِ ما اسْتُنْبِطَ مِنَ الأحْكامِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ فِيها دَلالَةً عَلى إيجابِ الصَّدَقَةِ في الخَيْلِ السّائِمَةِ لِذِكْرِها مَعَ ما تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ أوِ النَّفَقَةُ، فالنِّساءُ والبَنُونَ فِيهِمُ النَّفَقَةُ، وباقِيها فِيها الصَّدَقَةُ، قالَهُ الماتُرِيدِيُّ.
وذَكَرُوا في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، الخِطابُ العامُّ، ويُرادُ بِهِ الخاصُّ في قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلى قَوْلِ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ هُمُ اليَهُودُ.
وهَذا مِن تَلْوِينِ الخِطابِ، والتَّجْنِيسِ المُغايِرِ في (تَرَوْنَهم مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ)، والِاحْتِراسُ في ﴿رَأيَ العَيْنِ﴾ قالُوا: لِئَلّا يُعْتَقَدَ أنَّهُ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، فَهو مِن بابِ الحَزْرِ وغَلَبَةِ الظَّنِّ، والإبْهامُ في زُيِّنَ لِلنّاسِ، والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في ﴿والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ﴾ والحَذْفُ في مَواضِعَ، وهي كُلُّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إلى تَصْحِيحِ المَعْنى بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["قُل لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ","قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَایَةࣱ فِی فِئَتَیۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةࣱ تُقَـٰتِلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةࣱ یَرَوۡنَهُم مِّثۡلَیۡهِمۡ رَأۡیَ ٱلۡعَیۡنِۚ وَٱللَّهُ یُؤَیِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَعِبۡرَةࣰ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَبۡصَـٰرِ","زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰتِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَـٰطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَ ٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ"],"ayah":"قُل لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق