(p-١٥٧)﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ فَإيّايَ فاعْبُدُونِ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿وكَأيِّنْ مِن دابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها اللَّهُ يَرْزُقُها وإيّاكم وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ ﴿لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهم ولِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُ ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ .
أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إلى أنَّ قَوْلَهُ: (يا عِبادِيَ) الآيَةَ، نَزَلَتْ فِيمَن كانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ؛ أُمِرُوا بِالهِجْرَةِ عَنْها إلى المَدِينَةِ، أيْ: جانِبُوا أهْلَ الشِّرْكِ، واطْلُبُوا أهْلَ الإيمانِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: سافِرُوا لِطَلَبِ أوْلِيائِهِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، ومالِكُ بْنُ أنَسٍ: الأرْضُ الَّتِي فِيها الظُّلْمُ والمُنْكَرُ تَتَرَتَّبُ فِيها هَذِهِ الآيَةُ، ويَلْزَمُ الهِجْرَةُ عَنْها إلى بَلَدٍ حَقٍّ. وقالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: ﴿إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ﴾ عِدَةٌ بِسَعَةِ الرِّزْقِ في جَمِيعِ الأرْضِ. وقِيلَ: أرْضُ الجَنَّةِ واسِعَةٌ أُعْطِيكم. وقالَ مُجاهِدٌ: سافِرُوا لِجِهادِ أعْدائِهِ.
﴿فَإيّايَ فاعْبُدُونِ﴾ مِن بابِ الِاشْتِغالِ: أيْ: فَإيّايَ اعْبُدُوا فاعْبُدُونِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى الفاءِ في (فاعْبُدُونِ)، وتَقَدُّمِ المَفْعُولِ ؟ قُلْتُ: الفاءُ جَوابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ؛ لِأنَّ المَعْنى: إنْ أرْضِي واسِعَةٌ، فَإنْ لَمْ تُخْلِصُوا العِبادَةَ في أرْضٍ، فاخْلِصُوها في غَيْرِها. ثُمَّ حُذِفَ الشَّرْطُ وعُوِّضَ مِن حَذْفِهِ تَقْدِيمَ المَفْعُولِ، مَعَ إفادَةِ تَقْدِيمِهِ مَعْنى الِاخْتِصاصِ والإخْلاصِ. انْتَهى. ويَحْتاجُ هَذا الجَوابُ إلى تَأمُّلٍ.
ولَمّا أخْبَرَ تَعالى بِسِعَةِ أرْضِهِ، وكانَ ذَلِكَ إشارَةً إلى الهِجْرَةِ، وأمَرَ بِعِبادَتِهِ، فَكانَ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أنَّهُ إذا خَرَجَ مِن أرْضِهِ الَّتِي نَشَأ فِيها لِأجْلِ مَن حَلَّها مِن أهْلِ الكُفْرِ إلى دارِ الإسْلامِ، لا يَسْتَقِيمُ لَهُ فِيها ما كانَ يَسْتَقِيمُ لَهُ في أرْضِهِ، ورُبَّما أدّى ذَلِكَ إلى هَلاكِهِ، أخْبَرَ أنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَها أجَلٌ تَبْلُغُهُ، وتَمُوتُ في أيِّ مَكانٍ حَلَّ، وأنَّ رُجُوعَ الجَمْعِ إلى أجْزائِهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَرَأ عَلِيٌّ: ”تَرْجِعُونَ“ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ؛ والجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِتاءِ الخِطابِ. ورُوِيَ عَنْ عاصِمٍ: بِياءِ الغَيْبَةِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: (ذائِقَةُ) بِالتَّنْوِينِ؛ (المَوْتِ) بِالنَّصْبِ. وقَرَأ: (لَنُبَوِّئَنَّهم) مِنَ المَباءَةِ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ، والرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وابْنُ وثّابٍ، وطَلْحَةُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: مِنَ الثَّواءِ؛ وبَوَّأ يَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ. قالَ تَعالى: (تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وقَدْ جاءَ مُتَعَدِّيًا بِاللّامِ. قالَ تَعالى: ﴿وإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦] والمَعْنى: لَيَجْعَلَنَّ لَهم مَكانَ مَباءَةٍ، أيْ: مَرْجِعًا يَأْوُونَ إلَيْهِ. ( غُرَفًا) أيْ: عَلالِيَ، وأمّا ثَوى فَمَعْناهُ: أقامَ، وهو فِعْلٌ لازِمٌ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ فَصارَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، وقَدْ قُرِئَ مُشَدَّدًا ”عَدّى“ بِالتَّضْعِيفِ، فانْتَصَبَ ﴿غُرَفًا﴾، إمّا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ: في غُرَفٍ، ثُمَّ اتَّسَعَ فَحُذِفَ، وإمّا عَلى تَضْمِينِ الفِعْلِ مَعْنى التَّبْوِئَةِ، فَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، أوْ شِبْهِ الظَّرْفِ المَكانِيِّ المُخْتَصِّ بِالمُبْهَمِ يُوَصِّلُ إلَيْهِ الفِعْلُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: ”غُرُفًا“، بِضَمِّ الرّاءِ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ: ”فَنِعْمَ“، بِالفاءِ؛ والجُمْهُورُ: بِغَيْرِ فاءٍ. (الَّذِينَ صَبَرُوا) أيْ: عَلى مُفارَقَةِ أوْطانِهِمْ والهِجْرَةِ وجَمِيعِ المَشاقِّ، مِنَ امْتِثالِ الأوامِرِ واجْتِنابِ المَناهِي.
﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ هَذانِ جِماعُ الخَيْرِ كُلِّهِ: الصَّبْرُ، وتَفْوِيضُ الأُمُورِ إلى اللَّهِ تَعالى.
(p-١٥٨)ولَمّا أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، مَن أسْلَمَ بِمَكَّةَ بِالهِجْرَةِ، خافُوا الفَقْرَ فَقالُوا: غُرْبَةٌ في بِلادٍ لا دارَ لَنا، ولا فِيهِ عَقارٌ، ولا مَن يُطْعِمُ. فَمَثَّلَ لَهم بِأكْثَرِ الدَّوابِّ الَّتِي تَتَقَوَّتُ ولا تَدَّخِرُ، ولا تَرَوّى في رِزْقِها، ولا تَحْمِلُ رِزْقَها، مِنَ الحَمْلِ: أيْ: لا تَنْقُلُ، ولا تَنْظُرُ في ادِّخارٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وأبُو مِجْلَزٍ، وعَلِيُّ بْنُ الأقْمَرِ. والِادِّخارُ جاءَ في حَدِيثِ: «كَيْفَ بِكَ إذا بَقِيتَ في حُثالَةٍ مِن حُثالَةِ النّاسِ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَةٍ لِضَعْفِ اليَقِينِ ؟» قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الحَمالَةِ الَّتِي لا تَتَكَفَّلُ لِنَفْسِها ولا تَرَوّى. وقالَ الحَسَنُ: (لا تَحْمِلُ رِزْقَها) لا تَدَّخِرُ، إنَّما تُصْبِحُ فَيَرْزُقُها اللَّهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا يَدَّخِرُ إلّا الآدَمِيُّ والنَّمْلُ والفَأْرَةُ والعَقْعَقُ، وقِيلَ: البُلْبُلُ يَحْتَكِرُ في حِضْنَيْهِ، ويُقالُ: لِلْعَقْعَقِ مَخابِئُ، إلّا أنَّهُ يَنْساها. وانْتِفاءُ حَمْلِها لِرِزْقِها، إمّا لِضَعْفِها وعَجْزِها عَنْ ذَلِكَ، وإمّا لِكَوْنِها خُلِقَتْ لا عَقْلَ لَها، فَيُفَكِّرُ فِيما يُخَبِّؤُهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ: أيْ: يَرْزُقُها عَلى ضَعْفِها. (وإيّاكم) أيْ: عَلى قُدْرَتِكم عَلى الِاكْتِسابِ، وعَلى التَّحَيُّلِ في تَحْصِيلِ المَعِيشَةِ، ومَعَ ذَلِكَ فَرازِقُكم هو اللَّهُ (وهو السَّمِيعُ) لِقَوْلِكم: نَخْشى الفَقْرَ، (العَلِيمُ) بِما انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمائِرُكم.
ثُمَّ أعْقَبَ تَعالى ذَلِكَ بِإقْرارِهِمْ بِأنَّ مُبْدِعَ العالَمِ ومُسَخِّرَ النَّيِّرَيْنِ هو اللَّهُ. وأتْبَعَ ذَلِكَ بِبَسْطِ الرِّزْقِ وضِيقِهِ، فَقالَ: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ﴾ أنْ يَبْسُطَهُ (ويَقْدِرُ) لِمَن يَشاءُ أنْ يَقْدِرَهُ. والضَّمِيرُ في (لَهُ) ظاهِرُهُ العَوْدُ عَلى مَن يَشاءُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الواحِدُ يُبْسَطُ لَهُ في وقْتٍ، ويُقْدَرُ في وقْتٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا عَلَيْهِ في اللَّفْظِ، والمُرادُ لِمَن يَشاءُ آخَرَ، فَصارَ نَظِيرَ: ﴿وما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ﴾ [فاطر: ١١] أيْ: مِن عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ. وقَوْلُهم: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ: أيْ: ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، فَيَكُونُ المَبْسُوطُ لَهُ الرِّزْقُ غَيْرَ المُضَيَّقِ عَلَيْهِ الرِّزْقُ. وقَرَأ عَلْقَمَةُ الحِمْصِيُّ: ”ويُقَدِّرُ“: بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ القافِ وشَدِّ الدّالِ (عَلِيمٌ) يَعْلَمُ ما يُصْلِحُ العِبادَ وما يُفْسِدُهم.
ولَمّا أخْبَرَ بِأنَّهم مُقِرُّونَ بِأنَّ مُوجِدَ العالَمِ، ومُسَخِّرَ النَّيِّرَيْنِ، ومُحْيِيَ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها هو اللَّهُ، كانَ ذَلِكَ الإقْرارُ مُلْزِمًا لَهم أنَّ رازِقَ العِبادِ إنَّما اللَّهُ هو المُتَكَفِّلُ بِهِ. وأمَرَ رَسُولَهُ بِالحَمْدِ لَهُ تَعالى؛ لِأنَّ في إقْرارِهِمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِالإبْداعِ ونَفْيَ الشُّرَكاءِ عَنْهُ في ذَلِكَ، وكانَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أسْنَدُوا ذَلِكَ إلى اللَّهِ وعَبَدُوا الأصْنامَ.
﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ حَيْثُ يُقِرُّونَ بِالصّانِعِ الرّازِقِ المُحْيِي، ويَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.
﴿وما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا﴾ الإشارَةُ بِهَذِهِ ازْدِراءٌ لِلدُّنْيا وتَصْغِيرٌ لِأمْرِها، وكَيْفَ لا ؟ وهي لا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، أيْ: ما هي في سُرْعَةِ زَوالِها عَنْ أهْلِها ومَوْتِهِمْ عَنْها، إلّا كَما يَلْعَبُ الصِّبْيانُ ساعَةً ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ. والحَيَوانُ، والحَياةُ بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ مَصْدَرُ حَيِيَ، والمَعْنى: لَهي دارُ الحَياةِ، أيِ: المُسْتَمِرَّةُ الَّتِي لا تَنْقَطِعُ. قالَ مُجاهِدٌ: لا مَوْتَ فِيها. وقِيلَ: الحَيَوانُ: الحَيُّ، وكَأنَّهُ أطْلَقَ عَلى الحَيِّ اسْمَ المَصْدَرِ. وجُعِلَتِ الدّارُ الآخِرَةُ حَيًّا عَلى المُبالَغَةِ بِالوَصْفِ بِالحَياةِ، وظُهُورُ الواوِ في الحَيَوانِ وفي حَيْوَةَ عَلَمٌ لِرَجُلٍ اسْتَدَلَّ بِهِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الواوَ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ تُبْدَلُ ياءً لِكَسْرِ ما قَبْلَها، نَحْوُ: شَقِيَ مِنَ الشِّقْوَةِ. ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ لامَ الكَلِمَةِ لامُها ياءٌ، زَعَمَ أنَّ ظُهُورَ الواوِ في حَيَوانٍ وحَيْوَةَ بَدَلٌ مِن ياءٍ شُذُوذًا، وجَوابُ ”لَوْ“ مَحْذُوفٌ، أيْ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، لَمْ يُؤْثِرُوا دارَ الفَناءِ عَلَيْها. وجاءَ بِناءُ مَصْدَرِ حَيِيَ عَلى فَعَلانٍ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى الحَرَكَةِ والِاضْطِرابِ، كالغَلَيانِ، والنَّزَوانِ، واللَّهَيانِ، والجَوَلانِ، والطَّوَفانِ. والحَيُّ: كَثِيرُ الِاضْطِرابِ والحَرَكَةِ، فَهَذا البِناءُ فِيهِ لِكَثْرَةِ الحَرَكَةِ.
ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهم مُقِرُّونَ بِاللَّهِ إذا سُئِلُوا: مَن خَلَقَ العالَمَ ؟ ﴿مَن نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ ؟ ذَكَرَ أيْضًا حالَةً أُخْرى يَرْجِعُونَ فِيها إلى اللَّهِ، ويُقِرُّونَ بِأنَّهُ هو الفاعِلُ لِما يُرِيدُ، وذَلِكَ حِينَ رُكُوبِ البَحْرِ واضْطِرابِ أمْواجِهِ واخْتِلافِ رِياحِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ﴾ ؟ قُلْتُ: بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ ما وصَفَهم بِهِ، وشَرَحَ مِن أمْرِهِمْ مَعْناهُ عَلى ما وُصِفُوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ والعِنادِ.
﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (p-١٥٩)كائِنِينَ في صُورَةِ مَن يُخْلِصُ الدِّينَ لِلَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، حَيْثُ لا يَذْكُرُونَ إلّا اللَّهَ، ولا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ آخَرَ. وفي المُخْلِصِينَ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ، و﴿إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ جَوابُ ”لَمّا“، أيْ: فاجَأ السَّجِيَّةَ إشْراكُهم بِاللَّهِ، أيْ: لَمْ يَتَأخَّرْ عَنْها ولا وقْتًا. والظّاهِرُ في (لِيَكْفُرُوا) أنَّها لامُ ”كَيْ“، وعَطَفَ عَلَيْهِ ﴿ولِيَتَمَتَّعُوا﴾ في قِراءَةِ مَن كَسَرَ اللّامَ وهُمُ: العَرَبِيّانِ ونافِعٌ وعاصِمٌ، والمَعْنى: عادُوا إلى شِرْكِهِمْ. (لِيَكْفُرُوا) أيِ: الحامِلُ لَهم عَلى الشِّرْكِ هو كُفْرُهم بِما أعْطاهُمُ اللَّهُ تَعالى، وتَلَذُّذُهم بِما مُتِّعُوا بِهِ مِن عَرَضِ الدُّنْيا، بِخِلافِ المُؤْمِنِينَ، فَإنَّهم إذا نَجَوْا مِن مِثْلِ تِلْكَ الشِّدَّةِ، كانَ ذَلِكَ جالِبَ شُكْرِ اللَّهِ تَعالى، وطاعَةً لَهُ مُزْدادَةً. وقِيلَ: اللّامُ في: (لِيَكْفُرُوا) ﴿ولِيَتَمَتَّعُوا﴾ لامُ الأمْرِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ مَن سَكَّنَ لامَ ﴿ولِيَتَمَتَّعُوا﴾ وهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ؛ وهَذا الأمْرُ عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ، كَقَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] .
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى بِالكُفْرِ، وبِأنْ يَعْمَلَ العُصاةُ ما شاءُوا، وهو ناهٍ عَنْ ذَلِكَ ومُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ ؟ قُلْتُ: هو مَجازٌ عَنِ الخِذْلانِ والتَّخْلِيَةِ، وأنَّ ذَلِكَ الأمْرَ مُسْخِطٌ إلى غايَةٍ. انْتَهى. والتَّخْلِيَةُ والخِذْلانُ مِن ألْفاظِ المُعْتَزِلَةِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ”﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٥٥]“، بِالتّاءِ فِيهِما: أيْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وكَذا في مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وقَرَأ أبُو العالِيَةِ: ”فَيَتَمَتَّعُوا“، بِالياءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. ومَن قَرَأ: ”ولْيَتَمَتَّعُوا“، بِسُكُونِ اللّامِ، وكانَ عِنْدَهُ اللّامُ في: (لِيَكْفُرُوا)، لامَ كَيْ، فالواوُ عاطِفَةٌ كَلامًا عَلى كَلامٍ، لا عاطِفَةٌ فِعْلًا عَلى فِعْلٍ. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”لَسَوْفَ تَعْلَمُونَ“، بِاللّامِ، ثُمَّ ذَكَّرَهم تَعالى بِنِعَمِهِ، حَيْثُ أسْكَنَهم بَلْدَةً أمِنُوا فِيها، لا يَغْزُوهم أحَدٌ ولا يَسْتَلِبُ مِنهم، مَعَ كَوْنِهِمْ قَلِيلِي العَدَدِ، قارِّينَ في مَكانٍ لا زَرْعَ فِيهِ، وهَذِهِ مِن أعْظَمِ النِّعْمَةِ الَّتِي كَفَرُوها، وهي نِعْمَةٌ لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا اللَّهُ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يُؤْمِنُونَ)، و(يَكْفُرُونَ)، بِالياءِ فِيهِما. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، والحَسَنُ: بِتاءِ الخِطابِ فِيهِما. وافْتِراؤُهُمُ الكَذِبَ: زَعْمُهم أنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا، وتَكْذِيبُهم بِالحَقِّ: كُفْرُهم بِالرَّسُولِ والقُرْآنِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿لَمّا جاءَهُ﴾: إشْعارٌ بِأنَّهم لَمْ يَتَوَقَّفُوا في تَكْذِيبِهِ وقْتَ مَجِيءِ الحَقِّ لَهم، بِخِلافِ العاقِلِ، فَإنَّهُ إذا بَلَغَهُ خَبَرٌ، نَظَرَ فِيهِ وفَكَّرَ حَتّى يَبِينَ لَهُ أصِدْقٌ هو أمْ كَذِبٌ. و(ألَيْسَ) تَقْرِيرٌ لِمُقامِهِمْ في جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: ألَسْتُمْ خَيْرَ مَن رَكِبَ المَطايا. و(لِلْكافِرِينَ) مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ: أيْ مَثْواهم.
﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا﴾: أطْلَقَ المُجاهَدَةَ، ولَمْ يُقَيِّدْها بِمُتَعَلِّقٍ، لِيَتَناوَلَ المُجاهَدَةَ في النَّفْسِ الأمّارَةِ بِالسُّوءِ والشَّيْطانِ وأعْداءِ الدِّينِ، وما ورَدَ مِن أقْوالِ العُلَماءِ، فالمَقْصُودُ بِها المِثالُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: جاهَدُوا أهْواءَهم في طاعَةِ اللَّهِ وشُكْرِ آلائِهِ والصَّبْرِ عَلى بَلائِهِ.
﴿لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾: لَنَزِيدَنَّهم هِدايَةً إلى سَبِيلِ الخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧] . وقالَ السُّدِّيُّ: جاهَدُوا فِينا بِالثَّباتِ عَلى الإيمانِ، لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا إلى الجَنَّةِ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: جاهَدُوا فِيما عَلِمُوا، لَنَهْدِيَنَّهم إلى ما لَمْ يَعْلَمُوا. وقِيلَ: جاهَدُوا في الغَزْوِ، لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَ الشَّهادَةِ والمَغْفِرَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُحْسِنِينَ المُوَحِّدِينَ. وقالَ غَيْرُهُ: المُجاهِدُونَ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: مَنِ اعْتاصَتْ عَلَيْهِ مَسْألَةٌ، فَلْيَسْألْ أهْلَ الثُّغُورِ عَنْها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾ . (والَّذِينَ): مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ القَسَمُ المَحْذُوفُ، وجَوابُهُ: وهو لَنَهْدِيَنَّهم، وبِهَذا ونَظِيرِهِ رُدَّ عَلى أبِي العَبّاسِ ثَعْلَبٍ في مَنعِهِ أنْ تَقَعَ جُمْلَةُ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، ونَظِيرُهُ: (والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُبَوِّأنَّهم) .
{"ayahs_start":56,"ayahs":["یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ أَرۡضِی وَ ٰسِعَةࣱ فَإِیَّـٰیَ فَٱعۡبُدُونِ","كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ","وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ غُرَفࣰا تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ نِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ","ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ","وَكَأَیِّن مِّن دَاۤبَّةࣲ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ یَرۡزُقُهَا وَإِیَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ","ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ","وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ","وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ","فَإِذَا رَكِبُوا۟ فِی ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ یُشۡرِكُونَ","لِیَكۡفُرُوا۟ بِمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ وَلِیَتَمَتَّعُوا۟ۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ","أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنࣰا وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَكۡفُرُونَ","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُۥۤۚ أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡكَـٰفِرِینَ","وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"],"ayah":"ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}