قال: (﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [العنكبوت ٥٩] أي: على أذى المشركين والهجْرة لإظْهار الدين).
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على أمرين -على كلام المؤلف- على أذى المشركين، وعلى الهجرة لإظهار الدين؛ لأن في كليهما مشقة على النفوس، لا أذى المشركين المتنوع بالقول والفعل، وكما يقولون: حرب الأعصاب والمضايقات النفسية، ولا الهجرة من بلادهم التي سكنوها وأقاموا فيها إلى بلاد أخرى يكونون فيها غرباء، كل هذا لا شك أنه مشق على النفوس، وإنما خص المؤلف الصبر بهذين الأمرين؛ لتعيين السياق لهما إذ إن السياق كما ترون كله في مسألة الهجرة وما أشبهها.
ولكن لو قيل بالعموم ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على كل ما أمروا بالصبر عليه ونجعله منقسمًا إلى ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيته، وصبر على أقداره، لو قلنا بالعموم لكان أولى؛ لأن القول بالعموم يدخل فيها الصبر على الأذى والهجرة بخلاف القول بالخصوص، وعلى هذا فنقول: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على الأقسام كلها، الصبر على الطاعة: مجاهدة النفس على فعلها وإتمامها وإتقانها، والصبر عن المعصية: حبس النفس عن فعلها، والصبر على الأقدار: حبس النفس عن التسخّط.
* طالب: التحمل.
* الشيخ: إي، عن التسخط على القدَر، وقد سبق لنا أن مقامات المصاب بأذى أربعة.
قال: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلقة بـ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾، وقدمت لإفادة الحصر، والتوكل معناه الاعتماد، وعرّفه بعضهم بقوله: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المـضار مع الثقة به سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ أي: لا على غيره ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾، واعلم أن التوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توكل عبادة مقرون بالخشية والمحبة والتعظيم وتفويض الأمر تفويضًا كاملًا إلى المعتمد عليه، وهذا النوع لا يجوز إلا لله عز وجل الذي هو توكل العبادة، الثاني: توكل اعتماد بلا عبادة؛ بمعنى أن الإنسان يعتمد على غيره، لكن لا اعتمادًا يشعر بأنه متذلل وخاش له وراغب إليه، ونحو ذلك، وهذا النوع أو هذا القسم إن كان على ما يمكن الاعتماد عليه فهو شرك أصغر، وإن كان على ما لا يمكن الاعتماد عليه فهو شرك أكبر كيف ذلك؟
إذا كان على ميت أو غائب لا يمكنك أن تعتمد عليه فإنه شرك أكبر؛ لأنه ليس لذلك معنى إلا أن تعتقد أن هذا المعتمد عليه متصرف في الكون بغير مباشرة، وهذا كما يحصل لكثير من المشركين الذين يعتمدون على الأموات والأولياء وإن كانوا بعيدين وما أشبه ذلك، أما إذا كان يعتمد عليه وهو يمكن أن يكون سببًا لجلب المنفعة أو دفع المضرة، لكنه معتمد عليه على أنه من فوقه وهو من تحته، فإن هذا نوع من الشرك الأصغر مثل اعتماد كثير من الناس الآن على رواتب الدولة وما أشبه ذلك كونك تعتمد على هذا على أنها هي مصدر رزقك، فإن هذا نوع من الشرك الأصغر؛ لأنها هي ليست إلا مجرد سبب، ولهذا من كان على هذه الحال تجده يراعي الـمتوكل عليه ويخافه وربما يترك ما أوجب الله عليه مراعاةً له ومداهنة أو يفعل ما حرم الله عليه كذلك.
أما القسم الثالث: فهو الاعتماد على الغير، لا على سبيل الخشية والخوف والرغبة إليه، ولا على شعور أنه فوقك أو أعلى منك، لكن على شعور أنك أنت الذي فوقه وأنت الذي تدبره فتعزل وتنصب، وهذا جائز ولا حرج فيه، وقد وقع من النبي ﷺ فإنه كان يبعث السعاة توكيلًا لهم على ما يريد هذا لا بأس به، وهذا ما يحصل بأي شيء؟
بطريق الوكالة عندما أوكل إنسانًا يشتري لي شيئًا أو يبيع لي شيئًا أو ما أشبه ذلك، أنا معتمد عليه الآن في هذا الأمر، لكن هل هو اعتماد على أني أشعر أنني أنا المحتاج إليه وأنه فوقي ولَّا لا؟ لا، بل على العكس أعتقد أنني أنا الذي فوقه لا سيما إذا كان بعوض، وأن الأمر إليّ في شأنه إن شئت عزلت، وإن شئت نصبت، وهذا لا بأس به، وقد أجمع العلماء على جواز التوكيل في البيع والشراء وغيره مما تدخل فيه الوكالة، وهنا المراد بالآية الكريمة: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي الأقسام؟
* طالب: الأول.
* الشيخ: القسم الأول، وكذلك الثاني بنوعيه، فإنهم لا يعتمدون على أحد سوى الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار، واعلم أن التوكل أحد شقي الدين، فإن الدين مكون من أمرين: عبادة واستعانة، كما قال الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة ٥]، وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود ١٢٣]، وهذا كثير في القرآن؛ لأن العبادة لا تقوم إلا بفعل من العبد وبمعونة من الله سبحانه وتعالى، ويجب على المرء عندما يتعبد لله أن يكون معتمدًا على ربه؛ لأن الله لو وكله إلى نفسه لوكله إلى ضعف وعجز وعورة، ولا يستطيع أن يقوم بما أوجب الله عليه.
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ قال: (فيرزقهم من حيث لا يحتسبون)، وهذه الجملة من المؤلف لا تناسب التوكل؛ لأن الذي يناسب التوكل: (فيكون حسبهم) كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣]، أما الرزق من حيث لا يشعر فيناسبه التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق ٢، ٣].
وفرق بين الأمرين؛ لكن المؤلف رحمه الله أتى بهذه الجملة توطئةً لما بعدها وهي قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ [العنكبوت ٦٠] وإلا فبالنظر إلى الآية المفسرة لا يناسبها هذا القول.
* طالب: (...) فإن النبي ﷺ يقول: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ»[[أخرجه الترمذي (٢٣٤٤)، وابن ماجه (٤١٦٤) من حديث عمر بن الخطاب. ]].
* الشيخ: إي، توكلتم في طلب الرزق، لكن التوكل المطلق يكون الله حسبه فيقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
طيب عندنا في هذه، هل الله سبحانه وتعالى يكون وكيلًا وموكلًا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم، يكون وكيلًا وموكلًا، أما (وكيلًا)، فكثير في القرآن: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء ٨١] ومثلها حسيبًا، وأما موكلًا؟
* طالب: ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام ٨٩].
* الشيخ: إي نعم، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ وليس التوكيل من الله لهؤلاء كتوكيلي أنا لفلان وفلان مثلًا؛ لأن توكيلي لفلان وفلان إما لعجزي أو تقصيري، أو ما أشبه ذلك، لكن توكيل الله بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يجعل هؤلاء هم القائمين بها لا أنه سبحانه وتعالى عاجز.
* طالب: بعض الناس مثلًا إذا حرضته على شيء (...).
* الشيخ: ما فيها شيء؛ لأن (وكل الله) جعله حفيظًا، والله سبحانه وتعالى حفيظ على كل شيء، وليس معناه أني أنا الله، هذا ما أحد يفهمه، ما فيه شيء، فمعنى (وكله) أي: جعله وكيلًا؛ أي: حفيظًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، يعني معناها أني سأقوم بالأمانة، فإن الله تعالى لا يغيب عنه شيء وهو عالم بكل شيء.
* طالب: (...).
* الشيخ: وكل؟ لا (...).
* الطالب: لكن عند العوام (...).
* الشيخ: لا.
* الطالب: اللفظة.
* الشيخ: (...) حتى أنا لو أقول له وكل فلان بمعنى قدم له طعام يأكله.
* طالب: (...) لا يجي علي بالهم.
* الشيخ: أبدًا اللي يجي على بالهم؛ بمعنى أني أجعل الله تعالى حارسًا لك، هذا المعنى، وأني سأقوم به على الوجه الأكمل.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ ﴿كَأَيِّنْ﴾، يقول المؤلف: (كم) فعلى هذا تكون استفهامية ولا خبرية؟
* طالب: خبرية.
* الشيخ: خبرية؛ يعني: وكم من دابة؟ ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ أي: كثير من الدواب ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾، والدابة في اللغة العربية كل ما يدب على الأرض سواء مشى على بطنه أو على رجلين أو على أربع، كلها تسمى دابة، أما في العرف فهي لذوات الأربع فقط، فلا تشمل ما يمشي على بطنه، ولا ما يمشي على رجلين اثنتين، ولا على ما يمشي على سبع وسبعين، كذا؟ لذوات الأربع فقط؟ وفيها أيضًا عرف أخص من هذا؛ أن الدابة الحمار فقط يقولون مثلًا: راح منا على دابة. كل من كلمته بهذا الكلام ذهب إلى أنه الحمار، لكن الكلام على المعنى اللغوي، أما الأعراف فإنها تتبع أصحابها المعنى اللغوي في اللغة الدابة: كل ما دب على الأرض كثير.
(﴿مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ لضعفهم) عندكم ولَّا ضعفها؟
* طالب: ضعفها.
* الشيخ: صحيح.
* طالب: (...).
* الشيخ: إحنا نقول: سبع وسبعين، عندنا دابة تسمى أم سبع وسبعين رجلًا.
* طالب: عديناها فوق الخمسين بشوية.
* الشيخ: بس؟ (...) مبالغة يعني هذه.
* طالب: ما هي مبالغة.
* طالب آخر: (...).
* الشيخ: لا، الإنسان يمكن نوع آخر.
* طالب: أقل من الستين وفوق الخمسين.
* الشيخ: مثل الدودة تمشي لها أرجل كثيرة -سبحان الله العظيم- الناس يسمونها أم سبع وسبعين رجلًا، لكن أنها دون الستين، هي ربما إنها على سبيل المبالغة الظاهر إذا كان هذا هو المراد.
* طالب: يا شيخ، إعراب ﴿كَأَيِّنْ﴾؟
* الشيخ: ﴿كَأَيِّنْ﴾ مبتدأ، و﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ تمييز لها، و﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ قيل: إنها هي الخبر، وقيل: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ هو الخبر، وجملة ﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ صفة لـ﴿دَابَّةٍ﴾، وهذا أقرب؛ لأن الكلام لا يتم إلا بقوله: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.
* طالب: السيارة تدخل في معنى الدابة؟
* الشيخ: لا، ما تدخل.
* طالب: لماذا؟
* الشيخ: إلا دببتها أنت، هذه تدخل -بارك الله فيك- في الفلك ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ﴾ [الزخرف ١٢].
* طالب: كيف تدخل في الفلك؟
* الشيخ: لأنها مثل السفينة اللي كانت تمشي على البحر فهي فلك.
* طالب: والدابة يشترط فيها أيش؟
* الشيخ: أنها هي اللي تدب، هذه ما هي تدب.
* طالب: تدب يعني أيش؟
* الشيخ: هي بنفسها.
* طالب: ترفع رجلها، وهكذا؟
* الشيخ: لا، هي التي تدب؛ يعني هي نفسها تفعل هذا الشيء، السيارة ما هي بتفعل وقوله: ﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ قال: (لضعفها)، فما معنى لا تحمله أي: ما تقواه يعني؟ ولَّا لا تستطيع أن تتكسب للرزق؟
الجواب: الأخير؛ يعني ما تستطيع أن تكتسب، وتحمل الرزق حيث تقوم بكفاية نفسها، وهذا شيء كثير، أول ما يرد علينا نحن في حال الصغر والطفولة هل نحن نحمل أرزاقنا؟ أبدًا لولا أن الله قيض لنا الأم، وقيض لنا هذين الثديين ما حملنا أرزاقنا، وهذا شيء معروف، كذلك أيضًا يوجد دواب تأتيها عاهات وأمراض ما تستطيع أن تطلب الرزق فيهيئ الله لها رزقًا بحيث يأتيها، وهي في مكانها، وكم قص علينا من قصص كثيرة في هذا الباب تكون مثلًا هذه الدابة نفسها جاءها أمراض كسرت رجلها، كسر جناحها عميت، وما أشبه ذلك فيجدون الأشياء تأتي إليها بإذن الله وتأكلها؟
* طالب: (...) لضعفها.
* الشيخ: لا، (لضعفها) ما هو معناه، هذا تعليل؛ يعني معناها أنها لا تحمل؛ لأنها ضعيفة إما ضعيفة في الإرادة أو ضعيفة في البدن أو غير ذلك.
* طالب: (...).
* الشيخ: قلنا: ليس معنى ﴿لَا تَحْمِلُ﴾ ما تقوى تشيله؛ يعني ما تقوى تحمله المعنى لا تستطيع أن تكتسب، كذلك أيضًا يوجد أشياء صغيرة؛ ما تستطيع أن تذهب بعيدًا، ثم يقيض الله لها طعامًا يسقط حولها، وتأتي إليه، وهذه الدواب أيضًا منها ما يستطيع بنفسه أن يدخر الرزق، ومنها ما لا يدخر الرزق، ومنها ما له أعوان، ومنه ما ليس له أعوان، المهم أن اللي يتفكر في مخلوقات الله في هذا الأمر يجد العجب العجاب.
وقد قصصنا عليكم القصة التي ذكرها ابن القيم في أن رجلًا وضع طعامًا لذرة، فلما أحست به عجزت عن تحمله فذهبت إلى صاحباتها ودعتهن فجاؤوا فلما جاؤوا وصاروا حول المكان رفع الطعام، جاءت تطلبه في المكان ويطلبوه كلهم ما وجدوه، رجعوا وبقيت هي تفتش حول المكان فوضعه لها ثانيةً، فلما تيقنته ذهبت ودعتهم، فلما أقبلوا رفعه، ثم إنه أيضًا بدأت تطلب ورجعوا، في المرة الثالثة وضعه ذهبت ودعتهم، فلما رفعه ولم يجدوه يقول: إنهم قتلوا هذه الذرة قتلوها، يقول: فذكرتها لشيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إن الكذب لا يحبه أحد حتى النمل لما كذبت عليهم هذه وهبتهم، جابتهم من بيوتهم استفزعتهم قتلوها.
* طالب: هل يلزم (...)؟
* الشيخ: إي نعم، الدية (...)، الشاهد أن الإنسان يرى العجب العجاب في مخلوقات الله سبحانه وتعالى هذه الضعيفة اللي ما تحمل رزقها يقوم الله عز وجل برزقها؛ لأن الله تعالى قال في كتابه عن نفسه: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود ٦] ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ نكرة في سياق النفي المؤكد عمومه بـ(من) الزائدة أي: دابة في الأرض، فعلى الله رزقها ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ مع ذلك أيضًا.
﴿رِزْقُهَا﴾ وليست الدواب كلها ترتزق من شيء واحد، أليس كذلك؟ بعضها يناسبه هذا، وبعضه ما يناسبه، وأيًّا كان فإن الله سبحانه يقدر له الرزق المناسب له، ومع ذلك يعلم جل وعلا مستقرها ومستودعها؛ يعني محل استقرارها ومحل استيداعها؛ يعني ما تؤول إليه في يوم القيامة هذا المستقر، والمستودع الدنيا والبرزخ الذي بين الدنيا والآخرة، فإن هذا شيء يكون الإنسان فيه بمنزلة الوديعة يبقى زمانًا ثم ينتقل.
* طالب: بعض المفسرين يقولون: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ يعني لا تدخره (...) صحيح؟
* الشيخ: إي، هذا من جملة (...)، وبعضها يدخره كما هو معروف.
* الطالب: (...) مقدر بعلم الله عز وجل.
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لأن الله يقول في القرآن: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد ٨] كل شيء.
* الطالب: وكذلك أجلها أيضًا.
* الشيخ: وأجلها وحالاتها أيضًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك ١٤]، ما دام الله خلقه فهو عالم به جل وعلا في كل أحواله ومقدر كل أحواله مقدرة سبحان الله العظيم.
* طالب: (...) شيء خاص بالآدمي يكتب رزقه وأجله.
* الشيخ: لا، أبدًا ﴿كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾، لكن النصوص تكاثرت في الآدمي؛ لأنه هو محل الخطاب والتكليف ليستعد ما من شيء بدأ من القطرة من المطر مكتوبة مقدرة، وهي من هي بذات إرادة، ثم إنه: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ -هذه يدل عليها- ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام ٣٨]، هذه ستبعث يوم القيامة كل شيء له حياة لا بد أن يبعث يوم القيامة، فقدرة الله عظيمة ما يتصورها الإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه ١١٠].
* طالب: وأصرح من هذا: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام ٥٩].
* الشيخ: إي نعم.
* طالب: بعض العلماء يقولون (...) الحلال (...).
* الشيخ: الحيوانات؟
* طالب: يقول ما لها أجل (...).
* الشيخ: أنا أخشى على هذا الرجل اللي يقول ها الكلام، أخشى عليه.
* طالب: (...) من نصيب (...).
* الشيخ: حتى المال الجماد من نصيبك ما هو من رزقك.
* طالب: يقول: من نصيبي؛ يعني إذا..
* الشيخ: مو هو برزقك، لك هو؟
* طالب: إلا.
* الشيخ: أليس رزقك مكتوبًا؟ مكتوب بأيش؟ مكتوب بقاؤه وكيفيته واستمراره وكل شيء، وأيش نوعه؟ هل أنت من اللي يرزق بالإبل، أو يرزق بالغنم، أو يرزق بالدراهم، أو يرزق بالاكتساب والاحتطاب والاحتشاش، وما أشبه ذلك؟
* طالب: (...) يقول: إن مثل الغنم وهذه ما لها (...).
* الشيخ: (...) عندك الآن الآيات، وها اللي (...) هو الله؟ ها الحين يخلق الشيء، ويقدره فناء ووجودًا، ونقول: هذا ما علم ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج ٧٠]، أنت تستعظم هذا، ويبهرك الأمر، لكن هو على الله يسير قدرة الله ما لها منتهى أبدًا، ولا لها حد، فالمهم كل شيء مكتوب حتى إنه دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله، ويئن (...) من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تئن وقد قال طاووس: إن الملائكة تكتب حتى أنين المريض؟ فلما قال ذلك كف رضي الله عنه وصار يتحمل ولا يئن في المرض[[أخرجه الدينوري في المجالسة (٢٥٣).]] مع أن الأنين أحيانًا يكون شيئًا طبيعيًّا، فهذا دليل على أن كل شيء يكتب.
* طالب: (...) يخفف.. الأنين.
* الشيخ: إي، يخفف مثل شكوى الإنسان إلى أخيه وإلى صديقه مما نزل به يكون يخفف عليه بعض الألم، الشاهد هذه يجب علينا يا إخواني أن نعتقد أن الله تعالى عالم بكل شيء، وأنه مقدر لكل شيء، وأن آجال كل شيء مكتوبة، وكل حركاتها مكتوبة وسكناتها مكتوبة؛ لأنها لا يحدث شيء في الأرض، ولا في السماء إلا بعلم الله وإرادته وخلقه سبحانه وتعالى.
* طالب: (...) هل ملك الموت يقبض أرواح الحشرات (...)؟
* الشيخ: إي، هذه محل نزاع بين السلف، والظاهر أنه يعم، وهي محل خلاف بين السلف والأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، ولكن الذي يظهر أنه عام؛ لأن ملك الـموت مـضاف إلى المـوت مـوت كل حيوان؟
* طالب: (...).
* الشيخ: هنا؟ لا، لغة تشمل، لكن لما قال: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ علم أنه أراد ما سوى بني آدم أما: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ هذا عام لبني آدم وغيره.
قال: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾، شوف أتى بالجملة الاسمية: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ والرزق بمعنى (العطاء)، العطاء بلا عوض هذا هو الرزق، العطاء بلا عوض يسمى رزقًا ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.
قوله: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا﴾ أي: هذه الدابة ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾، هذا معطوف على أيش؟ على (هاء) في قوله: ﴿يَرْزُقُهَا﴾ والفصل هنا واجب ولا جائز؟
* طالب: جائز.
* الشيخ: الفصل جائز؟ فصل الضمير الآن الضمير هنا منفصل؟
* طالب: فصل الضمير هنا، إيه واجب؛ لأنه ما يمكن يحل محله المتصل.
* الشيخ: الفصل هنا واجب؛ لأنه كلما أتى الضمير بعد العطف فهو واجب الانفصال؛ إذ إن الضمير المتصل هنا ما يمكن يتأتي لو قلت: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا﴾ وكم ما صح، فإذا أتى الضمير بعد العطف أو بعد (إلا)، فقد علم أنه لا بد أن يكون منفصلًا ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.
قال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (﴿وَإِيَّاكُمْ﴾ أيها المهاجرون وإن لم يكن معكم زاد ولا نفقة)؛ لأن الكلام -كما عرفتم- كله مسوق في الهجرة ومغادرة البلد فالله تعالى كما رزق هذه الدواب العظيمة التي لا يحصيها جنسًا فضلًا عن النوع وفضلًا عن الأفراد إلا الله عز وجل فأنتم كذلك إذا هاجرتم لا يضيع رزقكم بل رزقكم على الله عز وجل، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال ٧٠]، وقد حصل هذا فأسرى بدر الذين أسلموا ماذا حصل لهم؟ حصل لهم من الفيء والغنائم أكثر مما أخذ منهم.
وقوله: (﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بضمائركم).
﴿السَّمِيعُ﴾ نعم، لأقوالكم وهو سميع سبحانه وتعالى لكل شيء يسمع كل صوت، وإن خفي كما قال الله تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه ٧] فهو يعلم كل ما يكون من صوت خفي سواء كان قولًا أم غير قول، لكن المؤلف خص القول؛ لأنه محط التكليف والإثم أو الأجر، والسميع من أسماء الله سبحانه وتعالى وله معنيان: أحدهما: إدراك المسموع، والثاني: إجابة الدعاء، أما إدراك المسموع فله أمثلة كثيرة مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ [المجادلة ١]، وأما إجابة الدعاء، فمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم ٣٩] ﴿سَمِيعُ﴾ بمعنى يسمع صوت الداعي أو يجيب دعاءه؟
* طالب: يجيب دعاءه.
* الشيخ: إي نعم؛ لأن هذا هو المقصود، الإجابة دون مجرد سماع الصوت ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، واعلم أن السمع الذي هو بمعنى إدراك المسموع، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يراد به بيان إدراك سمع الله سبحانه وتعالى لكل مسموع، وقسم آخر: يراد به مع ذلك النصر والتأييد، وقسم ثالث: يراد به مع ذلك التهديد والوعيد؛ وهذا على حسب السياق كغيره من صفات الله، كثير من صفات الله سبحانه وتعالى تكون مرادًا بها هذه الأمور الثلاثة كثير من الصفات، ففي قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف٨٠]، ويش المقصود هنا؟ التهديد.
وكذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران ١٨١]، هذا يراد به التهديد.
وفي مثل قوله تعالى لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، يراد به النصر والتأييد، ما هو مجرد أنه يسمع فقط لا، يراد به النصر والتأييد.
وفي مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة ١] يراد به بيان إحاطة سمع الله بكل مسموع؛ لأن السياق لا يقتضي (...) ولا تهديدًا فيكون المقصود به بيان إحاطة علم الله عز وجل بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في هذه الآية: «تبارك الذي وسِع سمعُه الأصوات، والله إني لفي أدنَى أو طَرَفِ الحجرة، وإنَّه لَيَخْفَى عليَّ بعْضُ حديثِها»[[أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).]]. والله تعالى فوق عرشه عالٍ على خلقه، ومع ذلك يسمع حديثها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، يسمع مجادلتها ومحاورتها للنبي ﷺ، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
* وفي هذه الآية فائدة مهِمَّة -بالنسبة للذين يتكلمون على أسماء الله وصفاته-: وهو أنه من المعروف عند أهل السنة أن الاسم يتضمن ثلاثة أشياء إذا كان وصفًا من متعدٍّ إذا كان مشتقًّا من وصف متعدٍّ فإنه يتضمن ثلاثة أشياء وهي: الاسم والصفة والحكم اللي هو الأثر، فهنا ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ﴾ لماذا؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. يسمع؛ لأنه سميع بصير فدل هذا على أن ﴿سَمِيعٌ﴾ تتضمن ثبوت مقتضاها وهو أنه يسمع، ومعلوم أنه لا سماع إلا بسمع خلافًا لمن قال: إنه يسمع بذاته كما قاله ابن حزم وجماعة لا بصفة هي السمع قالوا: يسمع بذاته ولا نثبت له صفة هي السمع، وهذا كلام في الحقيقة هراء فالله يقول: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الكهف ٥٨].
فأثبت الصفة ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾، وقال: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت ٢١]، وقال: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس ١٠٧] فدل هذا على أن الرحيم مشتق منين؟ من الرحمة؛ لأنه قال: ﴿الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ يوازيه تمامًا ﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، فهمتم يا جماعة؟ وهذا مقرر عند أهل السنة ومعلوم، والحمد الله أن الأسماء التي تتضمن وصفًا متعديًا أنها تدل على ثلاثة الأمور.
قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ انتهينا من تقسيم السمع أنه بمعنى الإجابة، وبمعنى إدراك المسموع، وأن الثاني يتنوع إلى ثلاثة أنواع: سمع يراد به التهديد، وسمع يراد به التأييد، وسمع يراد به بيان إحاطة سمع الله بكل مسموع.
وقوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾ قال: (﴿الْعَلِيمُ﴾ بضمائركم)، وعلى رأي المؤلف تكون الآية هذه تدل على الأقوال، وما في الضمائر فقط مع أن هناك أفعالًا لا تتعلق بالسمع.
فإذا قلنا: العليم بالضمائر، بقي عندنا قسم من أفعال الناس، وهي الحركات الأفعال، أفعال الجوارح تكون الآية ما فيها دليل عليها، ولهذا الصواب أن يقال: العليم بجميع أحوالكم فالله تعالى عليم ليس بما في الضمائر فقط بل بما في الضمائر وبما يفعل وبما يسمع؛ لأن العلم من أشمل ما يكون من صفات الله كما قال الله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق ١٢] فهو من أعم الصفات شمولًا.
وقوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾ ما هو العلم؟ يقول العلماء: إن العلم هو إدراك المعلوم على ما هو عليه إدراكًا جازمًا مطابقًا.
شوف حقيقة إن (مطابقًا) إذا قلنا: المعلوم على ما هو عليه ما حاجة إلى مطابق، أما إذا قلنا: إدراك الشيء إدراكًا جازمًا مطابقًا؛ فهذا صحيح، المهم أنه لا بد أن يكون الإدراك جازمًا فخرج به أيش؟ الشك، والظن، والوهم و(مطابقًا) خرج به الجهل المركب، و(إدراك) خرج به الجهل البسيط، فيكون تعلق الإدراك بالأمور على خمسة أنواع: علم، وجهل بسيط، وجهل مركب، وشك، وظن، ووهم، ستة أشياء.
* طالب: الجهل البسيط يطلع (...) إدراك الأمور على ما..
* الشيخ: على ما هي عليه إدراكًا جازمًا مطابقًا نشوف التفصيل الآن، العلم؛ أنك تدرك الشيء على ما هو عليه جازمًا به، هذا واضح، كأن أدرك بأن هذا الذي أمامي مسجل، تمام؟
طيب الجهل البسيط أن يقال لي: ما هذا الذي أمامك؟ فأقول: لا أدري، هذا جهل بسيط، الجهل المركب أن يقول لي قائل: ما هذا الذي أمامك؟ فأقول: هذه ألعوبة رضعان، ألعوبة أطفال، صح؟ هذا ويش هو جهل مركب ولَّا لا؟
* طالب: مركب.
* الشيخ: مركب من جهلي بحقيقة الحال، ومن جهلي بحالي، ظننت أني عالم وأنا جاهل، طيب الشك أن يقال لي: ما هذه؟ فأقول: إما مسجل أو راديو، هذا شك؛ لأن أحد الاحتمالين صحيح، فيكون هذا شك، طيب كونه شكًّا مع التساوي، هذا شك، إذا رجحت أنه مسجل فهو ظن، والمرجوح اللي هو راديو وهم، هذا تعلق العلم بالأشياء، كل هذه الأمور منتفية عن الله عز وجل ما عدا العلم، فإنه ثابت لله سبحانه وتعالى على أكمل وجه.
فإن قال قائل: هذا الجزم منكم بأنه لا يقع أو لا يكون على الله من هذه الأمور الستة إلا العلم يرده قوله تعالى في الحديث القدسي: «وَمَا ترَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ترَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ إِسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»[[أخرجه البخاري (٦٥٠٢) من حديث أبي هريرة.]].
فأثبت الله سبحانه وتعالى أنه يتردد في بعض أفعاله؟
فالجواب: أن التردد قسمان: تردد لتوقف المتردد في الأمر هل يكون خيرًا أو لا؟ وهذا بالنسبة إلى الله ممتنع لا يمكن هذا أبدًا؛ لأن الله تعالى يعلم، وتردد باعتبار النظر للغير يعني ترددًا لأمر يتعلق بغيره مثل هذه الحال، فإن تردد الله عز وجل لا لخفاء الأمر عليه، ولكن لأنه يكره أن يسوء عبده المؤمن فيتردد لا لشك في الأمر واستظهار للواقع، ولكن لأجل هذه المسألة لأمر يتعلق بغيره، فهذا لا يعتبر نقصًا، بل هو كمال يدل على رحمة الله عز وجل، وبهذا يزول الإشكال.
وكذلك أيضًا قوله: ﴿الْعَلِيمُ﴾ من الأسماء المتعدية أو لا؟ فتكون متضمنةً لثبوت الاسم والصفة والحكم.
(﴿وَلَئِنْ﴾ لام قسم ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾ أي: الكفار ﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [العنكبوت ٦١])، يقول المؤلف في ﴿لَئِنْ﴾: إن اللام لام قسم؛ يعني موطئة للقسم، وقد اجتمع هنا قسم وشرط وين الشرط؟ ﴿إنْ سَأَلْتَهُمْ﴾.
وقوله: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ هذا جواب القسم ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ والموجود الآن جواب القسم ولا جواب الشرط؟
* طالب: جواب القسم.
* الشيخ: جواب القسم؛ لأن القاعدة أنه إذا اجتمع شرط وقسم؟
* طالب: حذف جواب المتأخر.
* الشيخ: حذف جواب المتأخر قال ابن مالك:
؎وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ∗∗∗ جَــــــوَابَ مَــــا أَخَّــــــرْتَ فَهْـــــــوَمُلْتَــــــــــــــزَمْ
فعندنا ﴿لَئِنْ﴾ اللام قسم، و(إن) شرطية، فكان الجواب: لأيش؟ للقسم.
وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ فيها ضميران: التاء والهاء، التاء لمن؟
* طالب: (...).
* الشيخ: للمخاطب ولا للنبي ﷺ، أو لكل مخاطب؟
* طالب: (...).
* الشيخ: للمخاطبين؟ لا، الهاء الغايب ما تكون للخطاب.
* طالب: (...).
* الشيخ: للمخاطبين (...).
(التاء) في قوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ تقدم لنا أمثالها كثيرًا، وقلنا: إنه يجوز أن تكون (...) إنما مثل هذه الأمور اللي ما ..
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يقول المؤلف: (لام القسم)، هي لامُ قسمٍ وشرط، (إن) شرطية، واللام لام القسم، وإنَّما ذكر المؤلف ذلك لئلا يُظَنَّ أن قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ جواب الشرط، وهي ليست جواب الشرط، بل هي جواب القسم.
﴿سَأَلْتَهُمْ﴾ أي: الكفار الذين لا يقومون بتوحيد الألوهية، هم يُقِرُّون بتوحيد الربوبية، لكن لا يقِرُّون بتوحيد الألوهية والعبادَة، والخطاب في قوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ إمَّا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل مَن يتَأَتَّى خطابُه، أي: ولئن سألتهم أيها الإنسان، سألت هؤلاء الكفار: مَن خلق؟ هذا السؤال: مَن خلق السماوات والأرض؟ خَلق بمعنى أوجَد، لكن الخلق ليس بمعنى الإيجاد المجَرَّد، بل هو إيجَادٌ على تقْدِير معين، أي أنَّه يكون مسبوقًا بتقدير، ولذلك لا يكون إلا فيما فيه إتقَان وجوْدَة.
وقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ تقدمت هذه كثيرًا، وقلنا: إنَّ السماوات تُجمَع دائمًا في القرآن، والأرض ما جاءت إلا مفردة، ولكن الثابت أنَّ الأرضين سبع كما أنَّ السماوات سبع.
وقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، ﴿سَخَّرَ﴾ بمعنى ذَلَّل، ذَلَّلَ الشمس وجعلَها مذَلَّلَةً لِمصالح العباد، تسِيرُ بهذا النظام الذي لا يختَلف ولا يتغَيَّر، لا تقَدُّمًا ولا تأَخُّرًا، ولا عُلُوًّا ولا نزُولًا.
لو أنَّك تدبرْت هذه الشمس منذ مَيَّزْتَ إلى اليوم لرأيتَها على نظامٍ بدِيع لا يتغَيَّر على عظمِها وكِبَرِها، ثم إنَّ فيها من آيات الله هذه الحرارة العظيمة، كم مسافةً بيننا وبينها؟ مسافة بعيدة جدًّا، ومع ذلك انظروا إلى حرارتها في أيام الصيف، الحرارة العظيمة، وهذه الحرارة العظيمة ما هي إلا نفَسٌ بسِيطٌ مِن نار جهنم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ النَّارَ اشْتَكَتْ إِلَى رَبِّها فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، وَنَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٦٠)، ومسلم (٦١٧ / ١٨٥) من حديث أبي هريرة.]].
هذه الحرارة العظيمة يقول الناس: إن حرارَتها لو قرُبَ منها أقْوَى حديد وأمنَع حديد لطارَ هباءً قبل أن يصِلَ إليها مِن شدة الحرارة، وهذا أمرٌ معلوم؛ لأنه لو تُوقِد نارًا عظيمة مِن أبلَغ نيران الدنيا هل تجِدُ هذه الحرارة فيها من هذه المسافة؟ أبدًا، ثم إنَّ هذه الشمس كلَّ يومٍ لها مطْلِع، وكل يومٍ لها مغرِب؛ لأن الله سخَّرَها هكذا، ولولا ذلك ما اختلَفَت مشارِق الشتاء ومشارِق الصيف.
* طالب: يقولون: لو نزلت الشمس قدر ميل لاحترقت الأرض.
* الشيخ: لا، يقولون: لو نزلت الشمس قدْرَ شعرة لاحترَقَت.
* طالب: يمكن مِلِّلي.
* الشيخ: يمكن.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي؛ لأن هناك الغلاف الأرْضي يمنَع هذا الشيء.
* طالب: لو ارتفعت الأرض (...) لو صعدت الأرض (...).
* الشيخ: والله ما ندري عن هذا، هو على كل حال إنه لا شَك أنها لو قربت أو بعُدَت تغيَّر الجو بلا شك، لو قَرُبَت إلى الأرض أو بعُدت لَتغَيَّر، مع أنها تأتي يوم القيامة يكون بينها وبين الناس قدْر ميل، ولا تحْتَرِق الأرض، والله على كل شيءٍ قدير، أحْوال الآخرة ما نقِيسها بأحوال الدنيا، أهم شيءٍ عندنا أنها مذَلَّلَة لنا لِمصالحنا، فبها تنضَجُ الثمار، وبها تُعْلَم السنين.
وقوله: ﴿وَالْقَمَرَ﴾ معروف القمر، وإنَّما ذكَر الله تعالى هنا الشمس والقمر؛ لِمَا فيهما مِن المصالح الظاهِرة؛ لأنَّ النجوم والكواكب ليس فيهما مصالح ظاهرة لنَا، وإلَّا فقد سَخَّرَ اللهُ الشمس والقمر والنجوم كلها سخرَّها لنا، لكن هذه أظهَر وأبْيَن.
وفي قوله تعالى: ﴿سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ دليلٌ على أنهما هما اللذان يجريان حول الأرض، يسِيرَان حول الأرض، خلافًا لِمَن قال: إنَّهما لا يسيرَان على الأرض، وأنَّ هذا اختلاف الليل والنهار بسبب دَوَران الأرض نفسِها.
وهذا لا شكَ أنَّ الذي لا يعتقد أنهما يدوران على الأرض أنَّه على خطر عظِيم، ربما يصل به ذلك إلى الكفر؛ لأنّ الذي نؤمن به ونعتقِدُه ما أخبرَنا الله عنه مِن أنَّ الشمس هي التي تدور على الأرض، وكذلك القمر، ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف ١٧]، فأضَاف الله تعالى هذه الأفعَال الأربعة كلها إلى الشمس: ﴿طَلَعَتْ﴾، ﴿تَزَاوَرُ﴾، ﴿غَرَبَتْ﴾، ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾.
ولو كان الأمر كما يقول هؤلاء الخَرَّاصون لكان الأرض هي اللي تزَاور، وهي التي تطْلُع على الشمس، وهي التي تغرُب عنها، فهم ما عندهم إلا أمور ظَنِّيَّة فقط، والقرآن دلالتُه ظاهرة على أنَّها هي التي تدور على الأرض، وكذلك القمر، «والنبي عليه الصلاة والسلام لَمَّا غربت الشمس قال لأبي ذر: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٢٤)، ومسلم (١٥٩) واللفظ له من حديث أبي ذر الغفاري.]]، ولم يقل: أتدري أين نذْهَب عن الشمس؟ بل الشمس هي التي تذهب، وهي التي تأتِي، وهي التي تستأذِن، وهي التي يُؤْذَن لها أو تُمْنَع.
ومِن العجيب أنَّ هذا القول المخالف لِظاهِر القرآن أنَّه قد سرَى إلى أناسٍ لا تثِقُ في ديانَتِهم، قصدي لا تشُكّ في ديانتهم، لكن غرَّهم السراب فانخدعوا، والواجِبُ علينا في هذه الأمور أن نمشِيَ على ظاهِر القرآن، هذا الواجب حتى يتبَيَّن لنا ما يكون مخالِفًا لهذا الظاهر.
أمَّا ما دلَّ عليه القرآن دلالة يقينية فإنَّه لا يمكن لِشيء أن يخالفه، فدلالةُ القرآن إمَّا ظاهرة وإما صرِيحة؛ الصريحة قطْعِيَّةُ الدلالة، ولا يمكن لشيء أن يخالفَها، والظاهرة ظنِّيَّة الدلالة، فنبقى على هذا الأصل، نبقى على الظاهر حتى يتبيَّن لنا بأمرٍ قطعي خلافُه، وحينئذٍ ما دام ظاهرًا فإنه يمكن أن يُؤَوَّل.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا تقول هكذا، إن قلت هكذا أخذُوا عليك المعاول والفؤوس، قالوا: إحنا مجانين يا شيخ؟
* طالب: والله مجانين.
* الشيخ: هو الآن مُقَرَّر عندك في المدارِس يدرسُه الصبيّ الصغير ويتغذَّى عليه.
* طالب: الحمد لله، أنا ما درست.
* الشيخ: إي الحمد لله أن الله فكّك.
* طالب: مسألة دوران وثبوت الشمس أو القمر (...) هي قطعية، ومسألة ثبوت دوَرَان الأرض هي الظنية.
* الشيخ: إي نعم، لا لا، كونُ هذه الأشياء تدُور على الأرض عندنا الآن ثلاث مسائل الحقيقة: ثبوت الشمس والقمر، يعني وقوفها، فهذا مكَذِّب للقرآن.
والثاني: كون الليل والنهار بسبب دوران الأرض، أو بسبب دوران الشمس والقَمَر، هذا خلَاف الظَّاهر، والشيء الثالث: دوران الأرض نفسها، هذا ما في القرآن لا ظاهر ولا صرِيح يدُلّ على أنها تدور أو ما تدور، ما فيه دليل.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا لا، ما هو بصحيح؛ لأنها هي ما هي بتدور أجزاء، تدور جميعًا، لا، هذه ما هي بصحيح، لكن الكلام على أنَّ مسألة دوران الأرض أنا ما أقول فيها شيء، أقول: هذه الله أعلم، ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل ١٥].
قد يقول قائل: إنَّ قوله: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ يدل على أن هناك حركة، ووُضِعَت هذه الجبال لاتِّزَان هذه الحركة؛ لأنَّ نفي الأخص لا يدُل على نفي الأعَمّ، ولكن مع ذلك إحنا نقول: ما لنا ولِهذا البحث، لو أنَّ هذا مِن الأمور التي يجِب علينا اعتقادُه أو اعتقاد نفيِه لكان قد بُيِّنَ في القرآن غايةَ البيان؛ لأنَّ الله يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩].
لكن الخطِر أن تأتِي زُبَالَةُ أفكار وتستولِي على أفكارنا، ثم نأخُذها بالقبول والتسليم بدون أن نرجِع إلى القرآن، هذه المشكلة، يعني لو فُرِض الآن -ولله المثل الأعلى- لو كان هذا القرآن مؤَلَّف مِن بشر ويقول: الشمس تجري، ويقول: يكَوِّر الليل على النهار، معروف أنَّ التكوير التَّدْوِير، وأنَّ الليل والنهار يأتِي بسبب أيش؟ بسبب الشمس، وييجي كتاب ثاني يقول: لا، يُدير الأرض حتى يختلف الليل والنهار، لقلنا: إنَّ هذين الكتابين متعارِضَان، ويُطْلَب الترجيح، فإذا كان هذا كلام الله فإنه لا عبرَةَ بأيِّ شيء يخالفُه، فهذه نُكْتَة المسألة.
* طالب: ما دام السلف والرسول ﷺ ما بيَّن (...)، والسلف ما ذكروا ما لنا نشتغل بها ونقول هكذا.
* الشيخ: لا، أحسن، ما نشتغل فيها، لكن مثل ما قلت لكم بالأول، قلت: إذا ابتلي الإنسان لا بُدَّ أن ينزِل لِلمَيْدَان، طُرُق أهل الكلام في إثبات العقيدة، هل هذه مِن طريقة السلف؟
* طالب: لا.
* الشيخ: طيب، هل أئِمَّة الإسلام تركُوهم وشأنهم؟ خاضوا معهم المعركة، إحنا إذا ابْتُلينا بقوم يُدْخِلُوننا في الميدان لا بد ندخل، يعني قبل يمكن أربعين سنة ما كان الناس يفهمون هذا الشيء، ولا يطْرَأ على بالهم إطلاقًا، إلَّا أنَّ الناس على عقائدهم الفطرية أنَّ الشمس تطلَع وتغَاب والقمر يطلع ويغَاب.
* طالب: نكذِّبهم حتى يجيبوا دليل.
* الشيخ: نعم، إحنا نكذِّب ما هو بكل شيء.
* طالب: لا، في نفس الدوران وفي نفس..
* الشيخ: نكذِّبهم في قولهم: إنَّ تعاقب الليل والنهار بسبب دوَرَان الأرض، حتى يأتُوا بدليل قطعِي واضح مثل الشمس يكونُ حجَّةً لنا في تأويل ظاهر الآيات، وإلَّا ما نقبلها أبدًا، لو يجتمعون كلهم ما قَبِلْنا؛ لأننا نعرف أن كلهم تخرُّصَات، حتى إنَّ الآخر منهم ينقُل عبارة الأول بِنَصِّها وفَصِّها، مما يدُلّ على أنَّ المتَأَخِّرِين ببَّغَاوات، كلما نُطِقَ لهم نطَقُوا بما سمعوا.
* طالب: (...).
* الشيخ: هذا مِن البَلَاء.
* طالب: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾، هذا دليل.
* الشيخ: إي نعم، هم يأتون بأشياء ما لها أصل.
قال: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، تسخير القمر أيضًا لِمنافعِ العباد ومصالِحهم، ﴿والقمرَ قدَّرْنَاه منَازِلَ حتى عاد كالعُرْجُونِ القَدِيم﴾، لأجل أيش؟ بيَّنها الله الحكمة في ذلك، ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾، فباختلاف منازل القمر يكون العِلم بعدد السنين والحساب؛ لأنَّ الأهلّة هي المواقِيت العالَمِيَّة الفِطْرِيَّة، قال الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة ١٨٩] عامَّة، وقال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [التوبة ٣٦]، وهذه الأشهر هي التي بيَّنها الرسول عليه الصلاة والسلام الأشْهُر الهِلَالِيَّة.
* طالب: ذكر بعض الكُتَّاب أن الناس كانوا يعتقدون أن القمر (...)، فلو كان الناس يعتقدون أن حيوانًا سماويًّا يترصد للقمر فيحجبه عن الأرض.
* الشيخ: والله هنا في نجد ما نعتقد هذا، يمكن هذا عنده هو، مثل ما يعتقِدُون في بعض البلاد أن الكسوف أنَّه سببُه يعني أحد المخلوقات يحُول بينه وبين الأرض ويخرُجون بالطبول يهْتِفُون: يا فلانة! يا فلانة! أنقذِي القمر، أو ما أشبه ذلك، نسيت اللي قص علي القصة ويش قال فيها؟ الحُوت.
وقوله: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ اللام هذه جَواب القسم، اللام الأولى في ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ موطِّئَة للقسم، وهذه واقِعَةٌ في جوابِ القسم.
وقوله: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ سيقول أهل النحو منكم: لماذا بُنِيَت على الضم مع أنها متَّصِلَةٌ بنون التوكيد؟ والمعروف أنّ المضارع إذا اتَّصَل بنون التوكيد يُبنَى على الفتح، وهنا قال: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾، فكيف نُجِيب؟
* طالب: (...).
الشيخ اللي أمامنا الآن اللام جنب النون.
* طالب: إي، لكن محذوفة نون الفعل (...) وحذفت الواو لتوالي الأمثال.
* الشيخ: لا، بس أنتم أجيبوني عن أنَّه النون مباشِرَة للفعل، نقول: يشترط أن تكونَ المباشرة لفظًا وتقديرًا، وهنا المباشَرة لفظًا لا تقدِيرًا، ولذلك ابن مالك يقول في الألفية:
؎............................. ∗∗∗ وَأَعْرَبُــــــــــــــوامُضَــــــــــــــــــــارِعًا إِنْ عَـــــرِيَا؎مِـــــــنْ نُــــــونِ تَوْكِيـــــــدٍمُبَاشِـــــــــرٍ .... ∗∗∗ ............................
يعني مباشر لفظًا وتقديرًا، ومن نُونِ إِنَاثٍ، واضِح؟ فعلى هذا نقول: النون ما هي مباشرة للفعل بالتقدير؛ لأنه حالَ بينها وبين الفعل اسْمٌ وحرْف؛ اسم وهو الواو، وحرف، الحرْف النون، نون المضارع حُذِفت لتوالي الأمثال، وهي حُجَّة نحوي كما تعرفون، والواو واو الفاعل حُذِفَت لالتقَاء الساكنين؛ لأنَّه لَمَّا حُذِفَت النون الأولى لتوالي الأمثال فالنون الثانية مشددة، والحرف المشدد أوله ساكن، فيلتقي ساكنًا مع الواو الساكنة، فحينئِذٍ نحْذِف الواو.
؎............................. ∗∗∗ وَإِنْ يَكُــنْ لَيْنًا فَحَذْفَــــــــهُاسْتَحَـــــــقْ
فنقول: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾، فلم تكن نون التوكيد مباشرة للفعل لفظًا ولَّا تقديرًا؟ لم تكن نون التوكيد مباشِرةً للفعل تقديرًا.
* طالب: يا شيخ، أصلها (ليقولون).
* الشيخ: أصلها (ليقولُونَنَّ) هذا أصلها، فحُذِفت النون الأولى لِتوالي الأمثال، وصارَت النون الثَّانية مشَدَّدة، فأوَّلُها ساكن التقَتْ مع الواو الساكنة فحُذِفت الواو، فصَارَت ﴿لَيَقُولُنَّ﴾، قال: ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ أي: المسؤُولون مِن الكفار.
﴿اللَّهُ﴾ أحسن شيء أن نقول: ﴿اللَّهُ﴾ خبر مبتدأ محذُوف تقديرُه (هو الله)، فيُقِرُّون بأنَّ الذي خلقَها الله سبحانه وتعالى.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ هو الله، يعتَرِفون أن هذه الأشياء ما تصنَعُها الآلهة لا خلقًا ولا تدبيرًا، شوف -سبحان الله- الآية جمَعَتْ بين الإيجَاد والتدبير، فهو تصرُّفٌ في الإيجَاد، وتصرُّف في التدبير؛ الإيجَاد في قوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، والتَّدبير في قوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾، ولم يقُل: خَلَق.
قال تعالى: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ فيقِرُّون بأنَّ خالق السماوات والأرض ومُسَخِّر الشمس والقمر هو الله دون أصنامِهم، لَمَّا أَقَرُّوا هذا الإقرار أقامُوا الحجة عليهم، أليس كذلك؟ لأنَّ مَن أقَر بالربُوبية لَزِمَه أن يُقِرّ بالألوهية، ومَن أقَرّ بالألوهيَّة فقد أقَرَّ بالربوبية، فهمتم؟ فهما متَلَازِمَان، أمّا الإقرار بالربوبية فهو مُلْزِمٌ للإقرار بالألوهية، ملزم وإن لم يحصُل الإقرار بالألوهية، وأمَّا الإقرار بالألوهية فهو مُسْتَلْزِم للإِقْرَار بالرُّبُوبِيَّة، وأيُّهما أسبَق؟ الإِقْرار بالربوبية أسبَق؛ لأنَّ الإنسان ما يعبُد إلا ربًّا يعلَم أسماءَه وصفَاتِه وأفعالَه.
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي سخر الشمس والقمر.
قال الله تعالى: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: يُصْرَفون، (أنى) اسم استفهام، والغرَض منه التوبيخ، يعني بعد أن أقَرُّوا بهذا كيف أنَّهم يُصْرَفُون، وسُمِّي الصرفُ إفكًا؛ لأنَّه صَرْفٌ للشيء عن حقيقَتِه، فالإِفْك صَرْف مثل ما نصْرِف الكلام عن الواقع ويسمى.. إذا صرفنا الكلام عن الواقع ويش يسمى؟ يُسَمَّى إفكًا، قلت لك: قَدِم زيد، وهو ما قَدِم، هذا إفك، فهؤلاء أُفِكوا، أي صُرِفوا عن الواقع، وقوله: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، يعني أنَّى يُصْرَفون عن توحيدهِ بعد إقرارِهم بذلك.
* طالب: فأنى يصرفون، معناه؟
* الشيخ: كيف.
قال الله تعالى: (﴿﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ﴾: يُوَسِّعُه، ﴿لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ امتحانًا، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي: يُضَيِّق، ﴿لَهُ﴾ [العنكبوت 62] بعد البَسْط، أي: لِمَن يشَاءُ ابتلاءه)، ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ﴾ معنى يبْسُط يعني يُوسِع، والرِّزْق بمعنى العطاء.
وقوله: ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ المراد بالعباد هنا المتعَبِّدُون له بالمعنى العَامّ، أو بالمعنى الخاص؟
* الطلبة: بالمعنى العام.
* الشيخ: بالمعنى العام الشَّامِل للمُؤْمِن والكافِر، والبَرّ والفَاجِر، فالله تعالى يُوَسِّع الرزق.
وقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (مَن) هذه اسم موصول بمعنَى (الذي)، وهو مِن الأسماء الموصولة العامَّة ولَّا الخاصة؟
* طالب: العامة.
* الشيخ: العامة، وقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي يشاء بَسْطَ الرزق له، فإذن مفعول ﴿يَشَاءُ﴾ محذُوف، دَلَّ عليه السياق، وقد مَرَّ علينا قاعِدَة مُهِمَّة جدًّا، وهو أنَّ كل شيءٍ علَّقَه الله تعالى بالمشيئة فإنّما المراد المشِيئَة المبنِيَّة على الحكمة؛ لأنَّ جمِيع أفعال الله عز وجل وأحكامه كلها مبْنِيَّة على الحكْمَة، علِمْنَاها أم جهِلْنَاها.
وقوله: ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ قال المؤلف: (امتحانًا)، والتَّضْيِيق قال: (ابتلاءً)؛ امتحانًا الامْتِحَان هو الابتلاء في الحقيقة، قال الله تعالى عن سليمان: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾، وقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ﴿وَيَقْدِرُ﴾، يقْدِر بمعنى يُضَيِّق، مِن أين عرَفْنَا أنَّ (يقدر) هنا بمعنى يُضَيِّق؟ ولماذا لم نجعل القُدْرة هنا بمعنى استطاعة العَمَل؟
* طالب: من قوله: ﴿يَبْسُطُ﴾.
* الشيخ: مِن قولِه: ﴿يَبْسُطُ﴾، هذا مقابلَتُه بالبسْط يدُل على أنَّ المراد التضْيِيق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ﴾، ﴿قُدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي: ضُيِّق عليه.
وقوله: ﴿يَقْدِرُ لَهُ﴾، (له) الضمير يعود على (من يشاء) يعني: ويقدِرُ لمن يشاءُ، وهل المبسوط له والمقَدَّر له واحِد؟ ظاهر كلام المؤلف أنَّه واحد، ولهذا قال: ويقْدِرُ له بعد البَسْط، والسبب أنَّ الضمير في (له) يعود بلا شكّ على (مَن) في قولِه: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، فكأن المؤلف رحمه الله أرَاد أن يعُود عليه باعتبَار عيْنِه، ولكنَّنا نقول: لا مانِع مِن أن يعودَ إليه باعتبار جنسه لا باعتِبَار عينِه، فيكون الضمير عائدًا على (من يشاء) باعتبار الجنس، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾.
قوله: ﴿مِنْ عُمُرِهِ﴾ أي المعَمَّر؟ ما يصلح مِن عمرِه -أي المعمَّر-؛ لأنَّه إذا نقص ما صار معَمَّرًا، لكن المراد من عُمُرِه باعتبار الجنس، فيكون عُمر معَمِّرٍ آخر، ومثله أن تقول: أعطيتُ هذا الرجل درهمًا ونِصْفَه، نصف أيش؟ نصْف دِرْهَمٍ آخر، ما هو بنصف الدرهم هذا، ما كسَّرت الدرهم، ولو كسَّرته أيضًا وأعطيته إياه كاملًا أعطيته كله نصفين.
فالذي يظهَر أنَّ الضمير في قوله: (له) يعود على (من يشاء)، باعتبار أيش؟ الجنس لا العَيْن، فالله تعالى يبسط الرزق لهذا ويضيِّقُه على هذا، كما أنَّه سبحانه وتعالى يبسُطُه لهذا أحيانًا، ويضيقه عليه أحيانًا، ألسنا نرى الآن مِن الأغنياء مَن رَجَع فقيرًا، ومِن الفقراء من رجَع غنِيًّا، فالله سبحانه وتعالى يبسُط الرزق باعتبار العين وباعتبار الجنس، هذا البسْط تابِعٌ لعلمِه وحكمَتِه، ولهذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، ومنه البَسْط والتَّضْيِيق، فهو سبحانه وتعالى لا يبسُط أو يضَيِّق إلَّا عَن عِلْم.
ثم هذا العلم أيضًا تتْبَعُه الحِكْمة، فهو سبحانه وتعالى يُغْنِي مَن يُصلِحُه الغنى، ويُفْقِر مَن يصلِحُه الفقر، ولِهذا جاء في الحديث: «إنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْغِنَى، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْفَقْرُ»[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٢٣١) بنحوه من حديث أنس.]]، وإذا مَنَّ الله على العبد وتفَضَّلَ عليه، وجعل رزقَه تابعًا لِمَصْلَحَتِه، حصَل بذلك خيرٌ كثير، ومِن العباد مَن إذا أُغْنِي فسَد، إذن الضمير في قوله: (ويقدر له) يعود على مَن؟
* طالب: على قول المؤلف (...).
* الشيخ: نعم، يعني معنَاه أنَّه يَبْسُط لِهذا ويُضَيِّق لِهذا.
* طالب: على قول المؤلف (...).
* الشيخ: وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ كُل شيء مما يفعَلُه هو، أو مِما يفعَلُه العباد، فإنه لا يخفَى عَليه شَيْء مِن ذلك أبدًا.
قال بعض الناس: وما مِن عَامٍّ إلا خُصّ، إلَّا قولُه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هل هذا صحيح؟ يعني بعض العلماء قال -بعض الأصوليين- لَمَّا تكلم على العام والخاصّ قال: وما مِن عامٍّ إلا خُصّ، إلا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ لأن ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ما يستَثْنَي منها شيء، لا الوَاجِب، ولا الجائز، ولا المستَحِيل، حتى المستحيل يعلَمُه سبحانه وتعالى أو لا؟ يعلَمُه، ولا فيها شيء مُخَصَّص أبدًا، أمَّا غيرُه مِن العموم فإنّه مخصَّص، بمعنى أنه يَخرُج منه شيءٌ، إمَّا بدلالة العقل أو بدلالة الشَّرع، ولكن هذا القول غير صحيح، الصواب: إنَّ الأصل في العمُومات بقاؤها على العموم، هذا الأصل في العمومات، نعم إن أرادُوا إلَّا يُتَصَوَّر فيه التخصِيص، إن أرادُوا التَّصَوُّر والتقدِير فهذا ممكن، أمَّا إن أرادُوا الواقع فلا.
قال المؤلف: (ومنه محَلُّ البَسْط والتَّضْيِيق)، فهو سبحانه وتعالى عالِمٌ بأن هذا أهلٌ لأن يُبسط له الرزق، وأنَّ هذا أهل لأن يُضَيَّق عليه الرزق.
* * *
* الطالب: سُئِلَ الشيخ سُلَيمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مسائل:
المسألة الأولى: هل يجُوز للمسلم أن يُسافرَ إلى بلاد الكفار الحرْبِيَّة لأجل التجارة أم لا؟
الجواب: الحمد لله، إن كان يقْدِرُ على إظهار دينِه ولا يُوالِي المشركين جازَ له ذلك.
* الشيخ: أيش، ولا..؟
* الطالب: ولا يوالي المشركين جاز له ذلك، «فقد سافَر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره مِن الصحابة إلى بُلدان المشركين لأجْل التجارة، ولم يُنكِر ذلك النبيُّ ﷺ»[[أخرجه ابن ماجه (٣٧١٩)، وأحمد (٢٦٦٨٧) من حديث أم سلمة.]]، كما رواه أحمد في مسنده وغيرُه، وإن كان لا يقدِرُ على إظهار دينه ولا عدم موالاتِهم لم يجُز له السفر إلى ديارهم، كما نَصَّ على ذلك العلماء، وعليه تُحْمَلُ الأحاديث التي تدُل على ذلك، أو على خلاف ذلك، وعليه تحمل الأحاديث التي تدُل على خلاف ذلك.
* الشيخ: في الأصل ما هو، الأصل؟
* الطالب: الأصل ما نقلْتُه،كما نَصَّ على ذلك العلماء وعليه تُحْمَلُ الأحاديث التي تدل على خلاف ذلك، وعليه تُحْمَلُ الأحاديث التي تدل على ذلك، كحديث: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ»[[أخرجه أبو داود (٢٧٨٧) من حديث سمرة بن جندب.]]، يجمع بين حديث سفر أبي بكر إلى بلاد الكفار وإقْرَار الرسول ﷺ له، وبين الأحاديث الناهِية عن ..
* الشيخ: يمكن، لعل الصواب على خلاف.
* الطالب: نعم، وأراجع إن شاء الله؛ ولأنَّ الله تعالى أوجب على الإنسان العملَ بالتوحيد، وفَرَض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعَةً وسببًا إلى إسقاط ذلك لم يجُز، وأيضًا فقد يجُرُّه ذلك إلى موافَقَتِهم وإرضَائِهم، كما هو الواقع كثيرًا ممن يسافر إلى بلدان المشركين مِن فُسَّاق المسلمين، نعوذ بالله مِن ذلك.
المسألة الثانية: هل يجُوز للإنسان أن يجلِس..
* الشيخ: الكلام الآن السؤال عن دَار الحرب ترى، وهناك فرق بين دار الحرب ودار العهْد، وتعليلُه يدُلّ على العموم، وسؤاله.
* الطالب: سؤاله عن دار الحرْب، بس ده جائز في الحربية، جائز من باب..
* الشيخ: لا، خَلِّي ده جائز، لكن إذا مُنِع في الحربِيَّة هل يُمنَع في غيرِها؟ هو مثلًا إذا جاز ..
* الطالب: هو أجازَه في الحرْبِيَّة.
* الشيخ: أجازه بالشُّرُوط اللي عندك، هذَا لَا بَأْس.
* الطالب: إذا أجازه في الحرْبِيَّة أجازه من باب أولى في العادية.
* طالب آخر: لكن أدلة هذا ما تدُل على الحربية..
* الشيخ: وأنها عام، هو جوابه يدُل على العموم، لكن السؤال في الحرْبِيَّة.
* الطالب: المسألة الثانية: هل يجوز للإنسان أن يَجْلِس في بلاد الكُفَّار وشعَائر الكُفْر ظاهِرةٌ مِن أجْل التجارة؟
الجواب عن هذه المسألة هو جواب التي قبلها سواءً، ولا فَرْقَ في ذلك بين دار الحرب أو دار الصلح، فكلُّ بلدَةٍ لا يَقْدِر المسلم على إظهار دينِه فيها لا يجُوز له السفر إليها.
المسألة الثالثة: هل يُفَرَّق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرَين، والمدَّة البعيدة؟
الجواب: لا فرقَ بين المدة القريبة والبعِيدَة، فكُلُّ بلدة لا يقدر فيها على إظهار دينه ولا عدَمِ موالاة المشركين لا يجوزُ له المـُقَامُ فيها ولا يومًا واحدًا إذا كان يقدِرُ على الخُرُوجِ منْها.
المسألة الرابعة: في معنى قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾، وقول النبي ﷺ في الحديث: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»[[أخرجه أبو داود (٢٧٨٧) من حديث سمرة بن جندب.]].
الجواب: أنَّ معنى الآية على ظاهرِها، وهو أنَّ الرجل إذا سَمِع آيات الله يُكْفَرُ بها ويُسْتَهْزَأُ بها فجَلَس عند الكافرين المستهزِئِين مِن غير إكراهٍ ولا إنكَار ولا قيامٍ عنهم حتى يخُوضُوا في حديث غيرِه فهو كافِرٌ مثلهم، وإن لم يفعل فعلَهم؛ لأنَّ ذلك يتضَمَّن الرِّضَا بالكفر، والرِّضَا بالكُفْرِ كُفْر، وبهذه الآية استدَلَّ العلماء على أنَّ الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادَّعى أنَّه يكره ذلك بقلبه لم يُقبَل منه؛ لأنَّ الحكم على الظاهر، وهو قد أظهَرَ الكفر فيكونَ كافرًا.
* الشيخ: يكونُ.
* الطالب: فيكونُ كافِرًا، ولهذا لَمَّا وقعَتِ الرِّدَّةُ بعد موت النبي ﷺ وادَّعى أناس أنهم كرهوا ذلك لم يقبَل منهم الصحابة ذلك، بل جعَلُوهم كلَّهم مرتَدِّين إلا مَن أنكَر بلسانِه وقلبِه، وكذلك قوله في الحديث: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» على ظاهرِه، وهو أنَّ الذي يدَّعي الإسلام، ويكُونُ مع المشركين في الاجتمَاع والنصرة والمنْزِل معهم، بحيث يعُدُّه المشركون منهم، فهو كافرٌ مثلهم، وإنِ ادَّعَى الإسلام، إلا أن يُظهِرَ دينَه ولا يوالِيَ المشركين، «ولهذا لَمَّا ادعى بعضُ الناس الذين أقامُوا بمكَّةَ بعدما هاجر النبي ﷺ، فادَّعَوُا الإسلام، إلا أنهم أقاموا في مكة يعُدُّهم المشركون منهم، وخرَجُوا معهم يوم بدر كارِهين للخروج معهم، فقُتِلوا، فظَنَّ بعض الصحابة أنهم مسلمون، وقالوا: قتَلْنَا إخوانَنا، فأنزلَ الله تعالى فيهم:» ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [النساء: ٩٧][[أخرجه البخاري (٤٥٩٦) من حديث ابن عباس.]]، قال السُّدِّي وغيرُه مِن المفسرين: إنَّهم كانُوا كُفَّارًا، ولم يعذُرِ الله تعالى إلَّا المستضْعَفِين، انتهى.
قلت: وقد ظهرَ الجواب عن حديث: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»، وأنَّه لا فرقَ بين الإقامة والسفر المؤَقَّت، لكن نقل الشوكاني حول قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت ٥٦].
* الشيخ: هذا من أين نقل الشوكاني؟
* طالب: نقل الشوكاني في التفسير -أنا أذاكره، أنا أذاكِر المرَاجع لكن أختَصِر الصفحات، لكن نقل الشوكاني حول قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت ٥٦]، قال الزجاج: أُمِرُوا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنُهم فيه عبادَةُ الله، وكذلك يجِبُ على مَن كان في بلد يُعْمل فيها بالمعاصي ولا يمكنُه تغيِير ذلك أن يهاجِرَ حيث يتهَيَّأُ له أن يعبُدَ الله حق عبادتِه. قلت -وأنا القائل-: في هذا نظر.
* الشيخ: الله المستعان!
* الطالب: والله المستعان.
* الشيخ: لو عمِلْنَا بهذا (...) إلا الصَّحَابة.
* الطالب: قلت: في هذا نظر.
* الشيخ: من ذكر (قلت)؟
* الطالب: أنا ذكرت، حيث إنَّ النبيَّ ﷺ ذكَرَ آخِرَ درجات إنكار المنكر ولم يُوجب الهجرة، بل يجِب أن يبتعِدَ عن الجلوس مع أهْلِ المنكر، وتأخِيرُ البيان عن وقتِ الحاجة ممتَنِع، والكلام الأخير يحتمل أن يكون بقية كلام الزَّجَّاج، أو مسْتَأْنَفًا مِن الشوكاني -رحمهم الله- فالعبارة مشكِلَة هل هي مِن الزجَّاج أو من الشوكاني قوله: وكذلك يجب على من كان في بلد يُعْمَلُ فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغْيِير ذلك أن يُهَاجِر.
وقال القرطبي حول قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النساء ٩٧] في نقلِه كلامًا لابن العربي: الأوَّل: الهجرة وهي الخروج مِن دار الحرب إلى دارِ الإسلام، وكانت فرض..
* الشيخ: هل صحيح أن مسألة العمَل بالمعاصي الظاهِرة إذا كان أنت مضطَر إلى البقاء معهم، أما إذا صار لك أنت في بيتك ما فيه معصية، صحيح في الأسواق معاصي، لكن في بيتك ما فيه معصية، وإنما تمُرُّ بها مرًّا، فلا أظن أحدًا من أهل العلم يقول بـوجوب الهجرة، نعم إذا صار لك أن هذا المكان يُؤْمَر بالمعاصي وأنت مضطر إلى البقَاء فيه نقول: لازم تروح، لا بد أن تذهب وتخرُج.
* طالب: وإذ إنك تعمل فيه يا شيخ، وإذ إنك تعمل في (...) هذا اللي المعاصي ظاهرة.
* الشيخ: ما يجوز، ولهذا قلنا: ما يجوز التَّوَظُّف في البُنُوك، يعني حتى اللي ما يكتب الربا بعضهم يقول: أنا ما باكتُب، أنا بس أقَهْوِيهُم وأكنس لهم وأزين لهم، أقول: لكن وجودك في هذا المكان معناه الرضا والإقرَار، فلهذا ما يجوز.
* طالب: إذا صِرْت كاتبًا سأكتب، والكُتَّاب اللي معي كلهم محاليق ويشربون دخانًا وتتن[[التتن: التبغ. ]].
* الشيخ: لا، في مسألة شرب التتن نعم؛ لأنَّه يعمل معصية أمامك.
* طالب: واللحية بعد.
* الشيخ: واللحية ما هو بحلقها أمامي الآن، هذا أثَر الحلق، أثر الحلق ما عَلَيّ منه، لكن الكَلام على شرب الدخان إذا ما أمكن (...)، بلاوي.
* الطالب: الأول -في نقْله كلامًا لابن العربي- الأول: الهجرة، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا للنبي ﷺ، وهذه الهجرة باقيَةٌ إلى يوم القيامة، ولكن انقَطَعت -بالفتح- هي القَصْد إليه حيث كان، فإنَّ المسلم إذا بقي في دار الحرْب عصَى.
الثانية: الخروج مِن أرض البدعة، قال ابن القاسم.
* الشيخ: فإن المسلم إذا بقِي في دار الحرب عصى.
* الطالب: نعم عصَى، إذا كان في دار حرب يجب عليه أن ينتقل إلى دار الإسلام.
* الشيخ: ظاهره العموم.
* الطالب: إي، ظاهره العموم .
الثاني: الخروج من أرض البدعة قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا يحِلُّ لأحدٍ أن يُقِيمَ في أرض يُسَبُّ فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح؛ فإنَّ المنكر إذا لم تُغَيِّرْه فزُلْ عنه، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ إلى قولِه: ﴿الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام ٦٨].
صحيح كلام ابن العربي هذا؟
* الشيخ: صحيح، مثل ما قلنا، إذا صار أنك مضطر تبقى معهم في نفس المكان لازم تروح، أمَّا إذا صَار كل في بيته ولا هو (...).
* الطالب: قال: الثالث الخروج مِن أرضٍ غلَب عليها الحرَام، فإنَّ طلب الحلال فرْضٌ على كل مسلم.
* الشيخ: مثل أيش؟
* الطالب: إذا كان ما يتعامَلون إلا بالربا يعني كل الناس.
* الشيخ: كل الناس؟
* الطالب: هذا واقع، أنا سمعت فتوى مِن بعض المشايخ بلدي كلها تتعَامل بالرِّبَا ويقول له: أيش تسوي؟ يعني العمل يكون أيش، يكون على قدر الحاجة، أم ليس على قدر الحاجة، كل البنوك الآن معظمها تتعامل في الخارج.
* الشيخ: كل البنوك لا بأس، لكن هل كل الناس بُنُوك؟ فيه مثلًا مطاعم، فيه بقالات، فيه تجار ثياب.
* الطالب: الأموال الأصلية أموال الدولة أصلًا في البنوك.
* الشيخ: على كل حال (...) مثل ما يقول الفقهاء (...).
* الطالب: مسألة: هل يجب عليه إنكار المنكر وأنَّه باطِل؟ قال ابن جرير الطبري في تفسيره لقولِه تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة ٤] قد كان لكم أيها المؤمنون قدوةٌ حسنةٌ في إبرَاهِيمَ خَلِيل الرحمن، تقتَدُون به والذين معَه مِن أنبياءِ الله، ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الممتحنة ٤] حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبَدُوا الطاغوت: أيُّها القوم، إنا برآء منكم ومِن الذين تعبدونه مِن دون الله مِن الآلهة والأنداد، ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ فأنكَرْنا ما كنتم عليه من الكفر، وجحَدْنَا عبادتكم ما تعبُدُون مِن دون الله، ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا﴾، وظهر بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا على كفرِكم بالله، ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، لا صلحَ ببيننا ولا هوادَة حتى تصَدِّقُوا بالله وحده فتوحِّدُوه وتفْرِدُوه بالعبادة.
قلت: وقد عقَّبَها الله بقوله سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة٦] وظاهر هذا أنَّه واجب.
* الشيخ: القول بالتبرؤ مِن الكفار واجب.
* الطالب: وقوله: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا﴾.
* الشيخ: نعم نعم، نقول له: لا.
* الطالب: الآية ظاهرُها وصريحُها أنه يجب هذا.
* الشيخ: يجب أن نقول هذا، ولكن هل مثلًا إذا قمنا في مقام في بلد ما نستطيع أن نقول الكلام هذا.
* الطالب: يجب تهاجر؛ لأنه يجب إظهار الدين، وقال الشوكاني على قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ الآية، قال: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ إن كنتم في ضِيقٍ في مكة مِن إظهار الإيمان، وفي مُكايَدة الكفار فاخْرُجُوا لِيتَيَسَّر عليكم عبادَتِي، وتسْهلَ عليكم، وفي مُكايَدة الكفار.
* الشيخ: إي، هم يكيدون لكم.
* الطالب: نعم، وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في سِيَاقِ شرحه لِتَضَمُّن أصْل الدين وقاعدتِه أمرين، قال: ثم قال رحمه الله تعالى: الظاهر أنَّ الكلام النَّص (...) ولم يُكَفِّرْهم، فهذا النَّوع أيضًا لم يأتِ بما دلَّتْ عليه (لا إلَهَ إلا الله) مِن نفْيِ الشِّرك، وما تقْتَضِيه مِن تكفِير مَن فعلَه بعد البَيانِ إجماعًا، وهو مضمونُ سورة الإخلاص، و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون ١]، وقوله في آية الممتحِنَة: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ [الممتحنة ٤]، ومَن لم يُكَفِّر مَن كفَّره القرآن فقد خالَف ما جاءت به الرسل مِن التوحيد وما يُوجِبُه.
ثم قال رحمه الله: (ومنهم -وهو أشدّ الأنواع خطرًا- مَن عمِل بالتوحيد ولم يعرِف قدرَه، ولم يبغِض مَن تركه ولم يُكَفِّره).
وقوله رحمه الله: (وهو أشد الأنواع خطرًا)؛ لأنه مَن لم يعرِف قدْرَ ما عمل به ولم يأتِ بما يُصَحِّحُ توحِيده مِن القُيُود الثِّقَال التي لا بُدَّ منها فما عَلِم أنَّ التوحيد يقتضي نفي الشرك والبراءَةَ منه، ومعادَاة أهله وتكفيرَهم، مع قيام الحجة عليهم، فهذا قد يغْتَرُّ بحاله وهو لم يأتِ بما عليه مِن الأمور التي دلَّت عليها كلمة الإخلاص نفيًا وإثباتًا، انتهى.
وسُئِل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل مُوالاة الكفار حَمِيَّةً -لأن ظاهر عبارة الشيخ أنه يجِب معاداتهم والتَّغليظ في ذلك، ومصارحَتُهم بسبِّ دينِهم وعيْبِ آلهتهم، هذا ظاهِر الكلام-، ثم قال: وسُئِل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل مُوالاة الكفار حَمِيَّةً دنيوية موالاة نفاق أو يصِيروا كُفارًا؟ وإذا كان لا يقْدِروا أن يتلفَّظَ بكفرهم وسبهم فما حكمُه؟ وإذا عرفْت هذا مِن إنسان ماذا يجِب عليك؟
فأجاب: إن كانت الموالاةُ مع مساكنتهم في ديارهم والخروج معهم في قتالِهم ونحو ذلك فإنه يُحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة ٥١]، وقال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء ١٤٠]، وقال النبي ﷺ: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكِينَ وَسَكَنَ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ مِثْلُهُمْ»[[أخرجه أبو داود (٢٧٨٧) من حديث سمرة بن جندب.]]، وقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»[[أخرجه أبو داود (٢٦٤٥)، والترمذي (١٦٠٤) من حديث جرير بن عبد الله.]]، رواهما أبو داود.
وإن كانت الموالاة في ديار الإسلام، -وبحثت لابن القيم لعلي أجد كلامًا في هذا، بحثت لابن القيم في مختصر تهذيب السنن، وإن قال: وإن كانت الموالَاةُ في ديار الإسلام إذا قدِمُوا إليهم ونحو ذلك فهذا عاصٍ آثمٌ متعَرِّض للوعيد، وإن كانت موالاتهم لأجل دينِهم -هكذا بالأصل- يجِبُ علينا التعزير بالهجر والأدَب ونحوه ما يزْجُر أمثاله -أظنه يعني مِن أجل تَرْغِيبِهم في الدين-.
* الشيخ: لا من أجل دينهم.
* الطالب: الحين سيأتي بعد الكلام الذي فيهم؛ لأنه كُفْر، موالاتهم من أجل دينِهم كُفْر.
* الشيخ: لا، من أجل دينهم، أو دنياهم؟
* الطالب: أو يمكن دنياهم، نعم صحيح، يمكن دنياهم، لكن هذا وهذا (...)، وإن كانت الموالاة لأجْل دينِهم فهو مثلُهم، ومَن أحَبَّ قومًا حُشِرَ معهم، ولكن يتفكر السائل في قوله: حمية دنيوية، لا يمكن هذا إلَّا لإبلاغ المحبة في قلوبِهم، وإلَّا فلو كان يُبغضُهم في الله ويعاديهم لكان أقَرَّ شيء لعينِه ما يسوؤُهم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
؎أَتُحِـــــــبُّ أَعْـــــدَاءَ الْحَبِيـــــبِوَتَدَّعِـــــــي ∗∗∗ حُبًّــا لَــــــــــهُ مَـــــــــا ذَاكَ فِيإِمْكَـــــــــــانِ
وأما قول السائل: فإذا ما كان يقْدِر من نفسِه أن يتلفظ بكفرِهم وسبِّهم؟ فالجواب: لا يخلو عن ذلك أن يكون شاكًّا في كفرهم أو جاهِلًا به، أو يقال: يُقِرُّ بأنَّهم كفرَة هم وأشباهُهم، ولكن لا يقدِر على مواجهَتِهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول: إنَّهم كفار، فإن كان شاكًّا في كفرِهِم أو جاهِلًا بكفرهم بُيِّنَت له الأدلة مِن الكتاب والسنة على كفرِهم.
فإن شَكَّ في ذلك وتردَّدَ فإنَّه كافر بإجماع العلماء، على أنَّ مَن شكَّ في كُفْرِ الكُفَّار فهو كافر، وإن كان يُقِرُّ بكفْرِهم ولا يقدِرُ على مواجهتهم بتكفيرهم فهو مُدَاهِن، ويدْخُل في قوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم ٩]، وله حُكْمُ أمثالِه مِن أهل الذنوب.
* الشيخ: إذا بقي عندهم؟
* طالب: إذا بقِيَ عندهم وداهَنَهم بالسكوت قال: أخاف يطرُدُوننا، وإن كان يقول: أقول: غيرهم كفار، ولا أقول: هم كفار، فهذا حُكْمٌ منه بإسلامِهم؛ إذْ لا واسِطَةَ بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونُوا كفارًا فهم مسْلِمُون، وحينئذ فمَن سمَّى الكفر إسلامًا، أو سمَّى الكفَّار مسلمين فهو كافِرٌ، فيكون هذا كافرًا.
وأما قوله: إذا عرَفْت هذا مِن إنسان ماذا يجبُ علَيك؟ فالجواب: يجب عليك أن تنصحَه وتدعُوَه إلى الله سبحانه، وتُعَرِّفَه قبيحَ ما ارتكبه، فإن تاب فهذا هو المطلوب، وإن أصَرَّ وعانَد فله حكم ما ارتَكَبَه؛ إن كان كفرًا فكافر، وإن كان معصيةً أو إثمًا فعَاصٍ آثِم، يجب الإنكار عليه وتأدِيبُه وهجره وإبعاده حتى يتُوب، وقد هجر النبي ﷺ مَن تخَلَّف عن غزوةٍ واحدة، ونهى عن كلامِهم والسلام عليهم، فكيف بمِن يوالِي الكُفَّارَ ويظهر لهم المودة؟ انتهى.
قلت: ظهَر مِن هذا وجوبُ الإنكار وبيان ضلالِهم على مَن ذهبَ إلى بلادهم، إمَّا كفرًا إن كان يحبهم ويواليهم، أو لا يعتَقد كفرَهم وإن كان يخَاف أن يطردوه فهو آثمٌ مُتَعَرِّض للوعيد، وقد ذكرَ الشيخ سليمان.
* الشيخ: هذا الجواب الأخير من قوله؟
* الطالب: هذا من قولي أنا.
* الشيخ: لا، الجواب الأخير؟
* الطالب: إي، الجواب الأخير مِن قوله، لكن قلت..
* الشيخ: لا، خَلِّي قلت من قولك.
* الطالب: لكن الأول كله من جوابه.
* الشيخ: جواب مَن؟
* الطالب: جواب سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد، أنا ناقل فقط، يعني الأول ناقل.
* الشيخ: (...).
* الطالب: ثم قال: وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أمورًا قال فيها: ويُفهم مما ذكرْنا مِن الكتاب والسنة والآثار عن السلف أُمُور، فمن فعلَها دخل في تلك الآيات، وتعرَّض للوعيد بمسيس النار، نعوذ بالله من مُوجِبَات غضبه وأليمِ عقابه، نذكر منها ما يلي: الموَدَّة والمحبةُ الخاصَّة، مداهنَتُهم ومداراتهم، طاعتهم فيما يقولون ويُشْهِرُون، تقديمهم في الجلُوس أو الدُّخول على أمراءِ الإسلام، مشاورتهم في الأمور، مُجَالَسَتُهم ومزَاوَرَتُهم والدخول عليهم.
«أم أسماء أتت إليها وهي كافرة، قال الرسول: «صِلِي أُمَّكِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٢٠)، ومسلم (١٠٠٣ / ٥٠) من حديث أسماء بنت أبي بكر.]]، فالإنسان يعتقد تكرارها.
* الشيخ: الظاهر إن الجلوس أنه بِرّ بهم؛ لأن هذه قرابة، مسألة القرابة لها حَق حتى لو كانت كافرة.
* طالب: والبِر، ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ﴾ [الممتحنة ٨].
* الشيخ: إي، المجالسة تدعو إلى المؤانسة والألفة.
* طالب: ومزاوَرَتُهم يعني تكرُّر الزيارة، والدُّخُول عليهم، البَشاشَة لهم والطَّلاقة، معاونتهم في أمورهم ولو بشيءٍ قليل، كبَرْيِ القلم وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم.
* الشيخ: ليكتبوا ظلمهم.
* طالب: مصاحَبَتُهم ومعاشرتُهم، الرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتَّزَيِّي بزِيِّهم، ذكر ما فيه تعظيمٌ لهم كتسميتهم سادات، السُّكْنَى معهم في ديارهم.
وقد سُئِل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن حكم السفر لبلاد الكفار للتعلم هذا من (...).
فأجاب: لا يجوز إلا بثلاثة شروط: أن يكون المسلمون بحاجَةٍ ماسَّة إلى هذا العلم، ألَّا يُوجد هذا العلم في بلاد المسلمين، القدرة على إظهارِ دينه، قلت: يضاف إليهما ما ذكَر الشيخ سليمان بن عبد الله مِن اشتراط الأمْن مِن موالَاتهم وموَدَّتِهم، أظنه داخل في الأمر الثالث القدرة على إظهار الدين يدخل فيه الأمن، ويضاف إليه أيضًا ما اشترطَه أحد العلماء، وهو أن يكُون على معرِفَةٍ بعقيدته والرَّدِّ على شُبَهِ أعداء الله ورسوله، هذا والله أعلم.
* الشيخ: وهل أمِنَ على نفسِه يعني عنده قوة مِن الدين يأمَن مِن الشهوات؟ إحنا ذكرْنا أمس ثلاث صور: الحَاجَة، والثاني: أن يكون عنده علْمٌ يدفع به الشبهات وعنده دين يدْفَع عنه الشهوات.
* طالب: عنده معرِفَةٌ بعقيدتِه.
* * *
* الشيخ: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت 59].
* يُستفاد من هذه الآية: فضِيلَة الصبر، حيث أثْنَى الله على الصابرين: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾.
* ومِن فوائدها أيضًا: وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالتوَكُّل والاعتِمَاد؛ لقوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
* ومنها: أنه ينبغِي للصابر أن يعتَمدَ على ربِّه في صبرِه؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، وفائدة اعتماده في صبرِه على ربِّه، أوَّلًا: الثباتُ على ذلك، إن الله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣]، الفائدة الثانية: أنَّ صبرَه يكُون عبادة؛ لأنَّ بعض الناس يصْبِر ويتجلَّد على حدِّ قول الشاعر:
؎وتَجَلُّــــــــــدِي للشَّامِتِـــــــــــــينَأُرِيهِـــــــــــــــمُ ∗∗∗ أنِّي لِرَيْــــــبِ الدَّهْـــــر لاأَتضَعْضَـــــعُ
هذا الصبر يعني لا شك أنّه خُلُق جميل، لكن ما يُثَاب عليه، إذن نقُول: إن أيش؟ إنَّ الصَّبر المقرُون بالتَّوَكُّل على الله سبحانه وتعالى هو الذي يكون فيه الثواب والأجر.
* ومِن فوائد الآية: كِفَاية الله عز وجل؛ لأنَّه لا يُتَوَكَّل إلا على مَن هو كافٍ، فمَن ليس بكافٍ فليس أهلًا لِأَن يُتَوَكَّل عليه.
* ومِن فوائدها: إثباتُ الربوبية؛ لِقولِه: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت ٦٠].
* مِن فوائد الآية: الإرشَاد إلى النَّظَر في مَخْلُوقَات الله، فإنَّ الله يقول: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ لأجل أن نتَفَكَّر في هذه الدواب التي لا تحمِلُ رزقَها.
* ومِن فوائدها: أنَّها تشتَمِل على عِدَّةِ صفات مِن صفات الله، منها كمالُ القدرة حيث يخْلُق هذه الدَّوَابّ الصغيرة اللي ما تحمِل رزقَها، ويخلُق الدواب العظيمة التي تكتَسِبُ الرزق.
* ومنها أيضًا -مِن فوائدها-: من الصفات التي تُستفاد منها قدْرَةُ الله عز وجل، ومنها علمُه، ومنها رَحمتُه، ومنها إحَاطَتُه بكل شيء، فإن هذه الدواب الصغيرة اللي ما تحمِل رزقَها يعلمُها ويرزقُها.
وقوله ﴿يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
* طالب: ومنها (...).
* الشيخ: إي، قلناها، ما ذكرناها أول شيء؟
* ومِن فوائدها: إثبات اسمَيِ (السميع) (العليم) وما يتضَمَّنَاه مِن الصفة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، إلى آخره [العنكبوت: ٦١].
* في هذه الآية مِن الفوائد: إقامَة الحجة على الخصم حتى يُذْعِن ويقِرّ.
* ومنها: سفَه المشركين بالله في عبادتهم، حيث يقِرُّون بربوبيته ثم يُنْكِرُون ألوهيته، وكان مِن العقل أنَّ مَن أقَرَّ بالربوبية أقَرَّ بالألوهية.
* ومنها: إثباتُ خلْقِ السماوات والأرض، وأنَّ الذي خلقَهما الله.
* ومنها أيضًا: أنَّ تدْبِيرَ الكون إلى الله عز وجل، ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾.
* ومنها: رحمةُ الله تعالى بخلقِه؛ حيث سخَّرَ لهم الشَّمْس والقَمر.
* ومنها: أنَّ المشركين يقِرُّون بالربوبية.
* ومنها: أنَّ الإقرارَ بالربوبية لا يكفِي في التوحيد، وبهذا نعرف -الذي يترتَّب على هذه الفائدة- نعرِف بُطْلَان تفسِير مَن فَسَّر الإله بالقادر على الاخْتِراَع، فإنَّ المتكلمين يفَسِّرُون الإله بالقادر على الاخْتراع، وإذا فَسَّرُوا الإله بالقادر على الاختراع لم يكن في توحيدِهم فرْق بينه وبين توحيد المشركين؛ لأنَّنا نقول: الإله هو المعبود حقًّا، هذا الإله المعبود حقًّا، وكذلك المعبودُ بالباطل يسَمَّى إلهًا؛ لأنه يُعبد، لكن ألوهيَّتَه باطلة.
* ومن فوائد الآية: ثُبُوت عِلْم الله بالمستقبل؛ لقوله: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، فإنَّ هذا خبرٌ عن أمْرٍ مسْتَقْبَل، ولا شكَّ أنه واقِع كما أخبَرَ الله، وأظُن ذكرْنا سفَه هؤلاء المشركين؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: طيب ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت ٦٢].
* من فوائد الآية: أنَّ الرِّزْقَ بيَدِ الله، وإذا كان كذلك فهو الذي يُطْلَبُ منه الرزق.
* ومن فوائدها: أنَّ إثبَاتَ القَدَر لا يعني الكَفَّ عن الأسْبَاب، فهنا بيَّن الله أنَّ بَسْط الرزق وتقْدِيرَه بيدِه، ومع ذلك يقول: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك ١٥]، ما قال: ناموا على الفُرُش ويجِيكم الرزق، قال: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾، فالقدرُ لا ينافي فعْلَ الأسباب؛ لأنَّه قد يكون مقدَّرٌ عليك بهذا السبب، كما أنَّ دخول الجنة والنَّجَاة من النار أليس له سبب؟ نعم، إذا لم تعْمَل ما حصَل، كذلك الرزق إذا لم تعْمَل له ما حصل لك.
* ومن فوائدها: إثبات كمالِ التصرف لله عز وجل؛ ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [العنكبوت 62]، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويُعِزُّ من يشاء ويذل من يشاء، فهو سبحانه وتعالى له التصَرُّف المطلق في مخلوقاتِه.
* ومن فوائدها: إثبات المشِيئَة؛ لقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ونحن نسْأَل الآن: هل المشِيئة تتعلَّق فيما يحبُّه ويكرهه، أو فيما يحبُّه فقط؟ فيما يحبه وما يكرَهُه، فإنَّ المسلمين مجمِعُون على قولِهم: ما شاء الله كان وما لم يشَأْ لم يكن، طيب هل الإرادة متعلِّقَة فيما يحبه وما يكرهُه، أم فيما يحبُّه فقط؟
* طالب: (...) الشرعية.
* الشيخ: إي، فيه تفصِيل: الشرعية فيما يحبُّه فقط، والكونِيَّة فيما يحبُّه وما لا يحِبُّه؛ لأنَّها مُرَادِفَة للمَشِيئَة.
* ومِن فوائد الآية: إثباتُ عِلْم الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [العنكبوت ٦٢]، وأنه عام في كل شيء، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، فهل يشمَل الصغير والكبير وما يتعلَّقُ بفعلِه وما يتعلق بفعلِ عبادِه؟ وإذا كان عَلِمَ فعلَ عباده لزِمَ أن يكُون مقدِّرًا له؛ لأنَّه إذا كان عالِمًا به فإنَّه لا يمكنُ أن يقَع على خِلَاف مَعْلُومِهِ، وحينئِذٍ يكون مقَدِّرًا له، ولهذا قال الشافعي في مناظَرَتِه أولئك المعتزلة القدرية قال: جادِلوهم بالعلم، فإن أنكرُوه كفرُوا، وإن أقَرُّوا به خُصِموا، وهو صحيح، هذه حُجَّة قائِمَة وقَيِّمَة.
* ومنها -من فوائد الآية-: فضْلُ الله عز وجل بالرِّزْق، سواءٌ كان مقدَّرًا أم مبسُوطًا، أو أصح: سواءٌ كان مَقْدُورًا أم مبسوطًا؛ لأنَّها من الثلاثي ما هي من الرباعي.
{"ayahs_start":59,"ayahs":["ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ","وَكَأَیِّن مِّن دَاۤبَّةࣲ لَّا تَحۡمِلُ رِزۡقَهَا ٱللَّهُ یَرۡزُقُهَا وَإِیَّاكُمۡۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ","ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"],"ayah":"ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ"}