الباحث القرآني

﴿ويَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهم يُوزَعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا جاءُوا قالَ أكَذَّبْتُمْ بِآياتِي ولَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْمًا أمْ ماذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿ووَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهم لا يَنْطِقُونَ﴾ ﴿ألَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ إلّا مَن شاءَ اللَّهُ وكُلٌّ أتَوْهُ داخِرِينَ﴾ ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنها وهم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ ﴿ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهم في النّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿وأنْ أتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَقُلْ إنَّما أنا مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ ﴿وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكم آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ . (p-٩٨)أيِ: اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُ، والحَشْرُ: الجَمْعُ عَلى عُنْفٍ. ﴿مِن كُلِّ أُمَّةٍ﴾ أيْ مِنَ الأُمَمِ، ومِن هي لِلتَّبْعِيضِ. ﴿فَوْجًا﴾ أيْ جَماعَةً كَثِيرَةً. ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا﴾ مِن لِلْبَيانِ، أيِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ. والآياتُ: الأنْبِياءُ، أوِ القُرْآنُ، أوِ الدَّلائِلُ، أقْوالٌ. ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في أوَّلِ قِصَّةِ سُلَيْمانَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أبُو جَهْلٍ، والوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: بَيْنَ يَدَيْ أهْلِ مَكَّةَ، كَذَلِكَ يُحْشَرُ قادَةُ سائِرِ الأُمَمِ بَيْنَ أيْدِيهِمْ إلى النّارِ. ﴿حَتّى إذا جاءُوا﴾ أيْ إلى المَوْقِفِ؛ ﴿قالَ أكَذَّبْتُمْ بِآياتِي﴾ اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ وإهانَةٍ؛ ﴿ولَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْمًا﴾ الظّاهِرُ أنَّ الواوَ لِلْحالِ، أيْ أوَقَعَ تَكْذِيبُكم بِها غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لَها ولا مُحِيطِينَ عِلْمًا بِكُنْهِها ؟ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ، أيْ أجَحَدْتُمُوها: ومَعَ جُحُودِها لَمْ تُلْقُوا أذْهانَكم لِتَحَقُّقِها وتَبَصُّرِها، فَإنَّ المَكْتُوبَ إلَيْهِ قَدْ يَجْحَدُ أنْ يَكُونَ الكِتابَ مِن عِنْدِ مَن كَتَبَهُ إلَيْهِ، ولا يَدَعُ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَقْرَأهُ ويُحِيطَ بِمَعانِيهِ عِلْمًا. وقِيلَ: ﴿ولَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْمًا﴾ أيْ بِبُطْلانِها حَتّى تُعْرِضُوا عَنْها، بَلْ كَذَّبْتُمْ جاهِلِينَ غَيْرَ مُسْتَدِلِّينَ. و”أمْ“ هُنا مُنْقَطِعَةٌ، ويَنْبَغِي أنْ تُقَدَّرَ بِبَلْ وحْدَها. انْتَقَلَ مِن الِاسْتِفْهامِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّوْبِيخَ إلى الِاسْتِفْهامِ عَنْ عَمَلِهِمْ أيْضًا عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ، أيْ: أيَّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ؟ والمَعْنى: إنْ كانَ لَكم عَمَلٌ أوْ حُجَّةٌ فَهاتُوا، ولَيْسَ لَهم عَمَلٌ ولا حُجَّةٌ فِيما عَمِلُوهُ إلّا الكُفْرُ والتَّكْذِيبُ. وماذا بِجُمْلَتِهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِفْهامًا مَنصُوبًا بِخَبَرِ كانَ، وهو تَعْمَلُونَ، وأنْ يَكُونَ ”ما“ هو الِاسْتِفْهامُ، وذا مَوْصُولٌ بِمَعْنى (p-٩٩)الَّذِي، فَيَكُونانِ مُبْتَدَأً وخَبَرًا، وكانَ صِلَةٌ لِذا والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ تَعْمَلُونَهُ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: أماذا، بِتَخْفِيفِ المِيمِ، أدْخَلَ أداةَ الِاسْتِفْهامِ عَلى اسْمِ الِاسْتِفْهامِ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. ﴿ووَقَعَ القَوْلُ﴾ أيِ العَذابُ المَوْعُودُ بِهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ، وهو التَّكْذِيبُ بِآياتِ اللَّهِ. ﴿فَهم لا يَنْطِقُونَ﴾ أيْ بِحُجَّةٍ ولا عُذْرٍ لِما شَغَلَهم مِن عَذابِ اللَّهِ. وقِيلَ: يُخْتَمُ عَلى أفْواهِهِمْ فَلا يَنْطِقُونَ، وانْتِفاءُ نُطْقِهِمْ يَكُونُ في مَوْطِنٍ مِن مَواطِنِ القِيامَةِ، أوْ مِن فَرِيقٍ مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ يَقْتَضِي أنَّهم يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَجٍ في غَيْرِ هَذا المَوْطِنِ. ولَمّا ذَكَرَ أشْياءَ مِن أحْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ، لِيَرْتَدِعَ بِسَماعِها مَن أرادَ اللَّهُ - تَعالى - ارْتِداعَهُ، نَبَّهَهم عَلى ما هو دَلِيلٌ عَلى التَّوْحِيدِ والحَشْرِ والنُّبُوَّةِ بِما هم يُشاهِدُونَهُ في حالِ حَياتِهِمْ، وهو تَقْلِيبُ اللَّيْلِ والنَّهارِ مِن نُورٍ إلى ظُلْمَةٍ، ومِن ظُلْمَةٍ إلى نُورٍ، وفاعِلُ ذَلِكَ واحِدٌ، وهو اللَّهُ - تَعالى - فَيَجِبُ أنْ يُفْرَدَ بِالعِبادَةِ والأُلُوهِيَّةِ. وفي هَذا التَّقْلِيبِ دَلِيلٌ عَلى القَلْبِ مِن حَياةٍ إلى مَوْتٍ، ومِن مَوْتٍ إلى حَياةٍ أُخْرى، وفِيهِ دَلِيلٌ أيْضًا عَلى النُّبُوَّةِ؛ لِأنَّ هَذا التَّقْلِيبَ هو لِمَنافِعِ المُكَلَّفِينَ، ولِهَذا عَلَّلَ ذَلِكَ الجَعْلَ بِقَوْلِهِ: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) وبَعْثَةُ الأنْبِياءِ لِتَحْصِيلِ مَنافِعِ الخَلْقِ؛ وأضافَ الإبْصارَ إلى النَّهارِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لَمّا كانَ يَقَعُ فِيهِ أضافَهُ إلَيْهِ، كَما تَقُولُ: لَيْلُكَ نائِمٌ، وعَلَّلَ جَعْلَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أيْ لِأنْ يَقَعَ سُكُونُهم فِيهِ مِمّا يَلْحَقُهم مِنَ التَّعَبِ في النَّهارِ واسْتِراحَةُ نُفُوسِهِمْ. قالَ بَعْضُ الرُّجّازِ: ؎النَّوْمُ راحَةُ القُوى الحِسِّيَّةِ مِن حَرَكاتٍ والقُوى النَّفْسِيَّةِ ولَمْ يَقَعِ التَّقابُلُ في جَعْلِ النَّهارِ بِالنَّصِّ عَلى عِلَّتِهِ، فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ: والنَّهارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، بَلْ أتى بِقَوْلِهِ: ﴿مُبْصِرًا﴾ قَيْدًا في جَعْلِ النَّهارِ، لا عِلَّةً لِلْجَعْلِ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مُراعًى مِن حَيْثُ المَعْنى، وهَكَذا النَّظْمُ المَطْبُوعُ غَيْرُ المُتَكَلَّفِ؛ لِأنَّ مَعْنى مُبْصِرًا: لِتُبْصِرُوا فِيهِ طَرِيقَ التَّقَلُّبِ في المَكاسِبِ. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذا مِن بابِ ما حُذِفَ مِن أوَّلِهِ ما أُثْبِتَ في مُقابِلِهِ، وحُذِفَ مِن آخِرِهِ ما أُثْبِتَ في أوَّلِهِ، فالتَّقْدِيرُ: جَعَلْنا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِتَسْكُنُوا فِيهِ، والنَّهارَ مُبْصِرًا لِتَنْصَرِفُوا فِيهِ؛ فالإظْلامُ يَنْشَأُ عَنْهُ السُّكُونُ، والإبْصارُ يَنْشَأُ عَنْهُ التَّصَرُّفُ في المَصالِحِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [الإسراء: ١٢] ؟ فالسُّكُونُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ مُظْلِمًا، والتَّصَرُّفُ عِلَّةٌ لِجَعْلِ النَّهارِ مُبْصِرًا وتَقَدَّمَ لَنا: الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذَيْنِ الحَذْفَيْنِ مُشْبَعًا في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] . ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ في هَذا الجَعْلِ ﴿لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لَمّا كانَ لا يَنْتَفِعُ بِالفِكْرِ في هَذِهِ الآياتِ إلّا المُؤْمِنُونَ، خُصُّوا بِالذِّكْرِ، وإنْ كانَتْ آياتٍ لَهم ولِغَيْرِهِمْ. ﴿ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الصُّورِ في سُورَةِ الأنْعامِ، وهَذِهِ النَّفْخَةُ هي نَفْخَةُ الفَزَعِ. ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ: أنَّ المَلَكَ لَهُ في الصُّوَرِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: نَفْخَةُ الفَزَعِ، وهو فَزَعُ حَياةِ الدُّنْيا ولَيْسَ بِالفَزَعِ الأكْبَرِ، ونَفْخَةُ الصَّعْقِ، ونَفْخَةُ القِيامِ مِنَ القُبُورِ. وقِيلَ: نَفْخَتانِ، جَعَلُوا الفَزَعَ والصَّعْقَ نَفْخَةً واحِدَةً، واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى﴾ [الزمر: ٦٨] ويَأْتِي الكَلامُ في ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ. وقالَ صاحِبُ الغُنْيانِ: ﴿ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ﴾ لِلْبَعْثِ مِنَ القُبُورِ والحَشْرِ، وعُبِّرَ هُنا بِالماضِي في قَوْلِهِ: ﴿فَفَزِعَ﴾ وإنْ كانَ لَمْ يَقَعْ إشْعارًا بِصِحَّةِ وُقُوعِهِ، وأنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ، وهَذِهِ فائِدَةُ وضْعِ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأوْرَدَهُمُ النّارَ﴾ [هود: ٩٨] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [هود: ٩٨] . ﴿إلّا مَن شاءَ اللَّهُ﴾ أيْ فَلا يَنالُهم هَذا الفَزَعُ لِتَثْبِيتِ اللَّهِ قَلْبَهُ. فَقالَ مُقاتِلٌ: هم جِبْرِيلُ، ومِيكائِيلُ، وإسْرافِيلُ، ومَلَكُ المَوْتِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - . وإذا كانَ الفَزَعُ الأكْبَرُ لا يَنالُهم، فَهم حَرِيُّونَ أنْ لا يَنالَهم هَذا. وقالَ الضَّحّاكُ: الحُورُ العِينُ، وخَزَنَةُ النّارِ، وحَمَلَةُ العَرْشِ. وعَنْ جابِرٍ: مِنهم مُوسى؛ لِأنَّهُ صَعِقَ مَرَّةً. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الشُّهَداءُ، ورَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثًا، وهو: «أنَّهم هُمُ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، وهو قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: هُمُ (p-١٠٠)الشُّهَداءُ مُتَقَلِّدُو السُّيُوفِ حَوْلَ العَرْشِ. وقِيلَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: ﴿وهم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ . قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ولَمْ يَرِدْ في تَعْيِينِهِمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ، والكُلُّ مُحْتَمَلٌ. قالَ القُرْطُبِيُّ: خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ، وقَدْ صَحَّحَهُ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ، فَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ في التَّعْيِينِ، وغَيْرُهُ اجْتِهادٌ. وهَذا النَّفْخُ هو حَقِيقَةٌ، إمّا في القَرْنِ، وإمّا في الصُّوَرِ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِدُعاءِ المَوْتى، فَإنَّ خُرُوجَهم مِن قُبُورِهِمْ كَخُرُوجِ الجَيْشِ عِنْدَ سَماعِ الصَّوْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَجازًا. والأوَّلُ قَوْلُ الأكْثَرِينَ، وهو الصَّوابُ، لِكَثْرَةِ وُرُودِ النَّفْخِ في الصُّوَرِ في القُرْآنِ وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وقِيلَ: فَفَزِعَ، لَيْسَ مِنَ الفَزَعِ بِمَعْنى الخَوْفِ، وإنَّما مَعْناهُ: أجابَ وأسْرَعَ إلى البَقاءِ. ﴿وكُلٌّ أتَوْهُ﴾ المُضافُ إلَيْهِ كُلٌّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وكُلُّهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: آتُوهُ، اسْمُ فاعِلٍ؛ وعَبْدُ اللَّهِ؛ وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ: أتَوْهُ، فِعْلًا ماضِيًا، وفي القِراءَتَيْنِ رُوعِيَ مَعْنى كُلٍّ مِنَ الجَمْعِ، وقَتادَةُ: أتاهُ، فِعْلًا ماضِيًا مُسْنِدًا لِضَمِيرِ ”كُلٌّ“ عَلى لَفْظِها، وجَمَعَ داخِرِينَ عَلى مَعْناها. وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْمَشُ: ”دَخِرِينَ“، بِغَيْرِ ألِفٍ. قِيلَ: ومَعْنى آتُوهُ: حاضِرُونَ المَوْقِفَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ رُجُوعُهم إلى أمْرِهِ وانْقِيادُهم لَهُ. ﴿وتَرى الجِبالَ﴾ هو مِن رُؤْيَةِ العَيْنِ تَحْسَبُها حالٌ مِن فاعِلِ تَرى، أوْ مِنَ الجِبالِ. و”جامِدَةً“، مَن جَمَدَ مَكانَهُ إذا لَمْ يَبْرَحْ مِنهُ، وهَذِهِ الحالُ لِلْجِبالِ عَقِيبَ النَّفْخِ في الصُّورِ، وهي أوَّلُ أحْوالِ الجِبالِ، تَمُوجُ وتَسِيرُ، ثُمَّ يَنْسِفُها اللَّهُ فَتَصِيرُ كالعِهْنِ، ثُمَّ تَكُونُ هَباءً مُنْبَثًّا في آخِرِ الأمْرِ. ﴿وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، أيْ تَحْسَبُها في رَأْيِ العَيْنِ ثابِتَةً مُقِيمَةً في أماكِنِها وهي سائِرَةٌ، وتَشْبِيهُ مُرُورِها بِمَرِّ السَّحابِ. قِيلَ: في كَوْنِها تَمُرُّ مَرًّا حَثِيثًا، كَما مَرَّ السَّحابُ، وهَكَذا الأجْرامُ العِظامُ المُتَكاثِرَةُ العَدَدِ، إذا تَحَرَّكَتْ لا تَكادُ تَبِينُ حَرَكَتُها، كَما قالَ النّابِغَةُ الجَعْدِيُّ في صِفَةِ جَيْشٍ: ؎نارٌ عَنْ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم ∗∗∗ وُقُوفٌ لِحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ وقِيلَ: شَبَّهَ مُرُورَها بِمَرِّ السَّحابِ في كَوْنِها تَسِيرُ سَيْرًا وسَطًا، كَما قالَ الأعْشى: ؎كَأنَّ مِشْيَتَها مِن بَيْتِ جارَتِها ∗∗∗ مَرَّ السَّحابَةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ وحُسْبانُ الرّائِي الجِبالَ جامِدَةً مَعَ مُرُورِها، قِيلَ: لِهَوْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَلَيْسَ لَهُ ثُبُوتُ ذِهْنٍ في الفِكْرِ في ذَلِكَ حَتّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُها لَيْسَتْ بِجامِدَةٍ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الوَجْهُ في حُسْبانِهِمْ أنَّها جامِدَةٌ، أنَّ الأجْسامَ الكِبارَ إذا تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً سَرِيعَةً عَلى نَهْجٍ واحِدٍ في السَّمْتِ، ظَنَّ النّاظِرُ إلَيْها أنَّها واقِفَةٌ، وهي تَمُرُّ مَرًّا حَثِيثًا. انْتَهى. وقِيلَ: وصَفَ - تَعالى - الجِبالَ بِصِفاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، تَرْجِعُ إلى تَفْرِيغٍ الأرْضِ مِنها وإبْرازِ ما كانَتْ تُوارِيهِ. فَأوَّلُ الصِّفاتِ: ارْتِجاجُها، ثُمَّ صَيْرُورَتُها كالعِهْنِ المَنفُوشِ، ثُمَّ كالهَباءِ بِأنْ تَتَقَطَّعَ بَعْدَ أنْ كانَتْ كالعِهْنِ، ثُمَّ نَسْفُها، وهي مَعَ الأحْوالِ المُتَقَدِّمَةِ قارَّةٌ في مَواضِعِها، والأرْضُ غَيْرُ بارِزَةٍ، وبِالنَّسْفِ بَرَزَتْ، ونَسْفُها بِإرْسالِ الرِّياحِ عَلَيْها، ثُمَّ تَطْيِيرِها بِالرِّيحِ في الهَواءِ كَأنَّها غُبارٌ، ثُمَّ كَوْنُها سَرابًا، فَإذا نَظَرْتَ إلى مَواضِعِها لَمْ تَجِدْ فِيها مِنها شَيْئًا كالسَّرابِ. وقالَ مُقاتِلٌ: بَلْ تَقَعُ عَلى الأرْضِ فَتُسَوّى بِها. وانْتَصَبَ ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيها، فالعامِلُ فِيهِ مُضْمَرٌ مِن لَفْظِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ مِنَ المَصادِرِ المُؤَكِّدَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ [لقمان: ٩] و﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] إلّا أنَّ مُؤَكِّدَهُ (p-١٠١)مَحْذُوفٌ، وهو النّاصِبُ لِـ ”يَوْمَ يُنْفَخُ“، والمَعْنى: ﴿ويَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ﴾ فَكانَ كَيْتَ وكَيْتَ، أثابَ اللَّهُ المُحْسِنِينَ، وعاقَبَ المُجْرِمِينَ، ثُمَّ قالَ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ يُرِيدُ بِهِ الإثابَةَ والمُعاقَبَةَ، وجُعِلَ هَذا الصُّنْعُ مِن جُمْلَةِ الأشْياءِ الَّتِي أتْقَنَها وأتى بِها عَلى الحِكْمَةِ والصَّوابِ، حَيْثُ قالَ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يَعْنِي؛ أنَّ مُقابَلَتَهُ الحَسَنَةَ بِالثَّوابِ، والسَّيِّئَةَ بِالعِقابِ، مِن جُمْلَةِ إحْكامِهِ لِلْأشْياءِ وإتْقانِهِ لَها وإجْرائِهِ لَها عَلى قَضايا الحِكْمَةِ أنَّهُ عالِمٌ بِما يَفْعَلُ العِبادُ، وبِما يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهِ، فَيُكافِئُهم عَلى حَسَبِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَخَّصَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ﴾ إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ. فانْظُرْ إلى بَلاغَةِ هَذا الكَلامِ، وحُسْنِ نَظْمِهِ وتَرْتِيبِهِ، ومَكانَةِ إضْمادِهِ، ورَصانَةِ تَفْسِيرِهِ، وأخْذِ بَعْضِهِ بِحُجْزَةِ بَعْضٍ، كَأنَّما أُفْرِغَ إفْراغًا واحِدًا، ويا لِأمْرٍ أعْجَزَ القُوى وأخْرَسَ الشَّقاشِقَ، ونَحْوُ هَذا المَصْدَرِ، إذا جاءَ عَقِيبَ كَلامٍ، جاءَ كالشّاهِدِ لِصِحَّتِهِ، والمُنادِي عَلى سَدادِهِ، وأنَّهُ ما كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إلّا كَما كانَ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ )﴾ و( ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٨] و﴿وعْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ٤] و﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠] ؟ بَعْدَما رَسَمَها بِإضافَتِها إلَيْهِ تَسْمِيَةَ التَّعْظِيمِ، كَيْفَ تَلاها بِقَوْلِهِ: ”﴿الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾“، ”﴿ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: ١٣٨]“، ”﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [آل عمران: ٩]“، ”﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠]“ ؟ انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذُكِرَ مِن شَقاشِقِهِ وتَكْثِيرِهِ في الكَلامِ، واحْتِيالِهِ في إدارَةِ ألْفاظِ القُرْآنِ لِما عَلَيْهِ، مِن مَذاهِبِ المُعْتَزِلَةِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ صُنْعَ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، وهي جُمْلَةُ الحالِ، أيْ صَنَعَ اللَّهُ بِها ذَلِكَ، وهو قَلْعُها مِنَ الأرْضِ، ومَرُّها مَرًّا مِثْلَ مَرِّ السَّحابِ. وأمّا قَوْلُهُ: إلّا أنَّ مُؤَكِّدَهُ مَحْذُوفٌ، وهو النّاصِبُ لِـ ”يَوْمَ يُنْفَخُ“ إلى قَوْلِهِ ”﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾“، يُرِيدُ بِهِ الإثابَةَ والمُعاقَبَةَ، فَذَلِكَ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ المُؤَكِّدَ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ لا يَجُوزُ حَذْفُ جُمْلَتِهِ؛ لِأنَّهُ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مِن لَفْظِهِ، فَيَجْتَمِعُ حَذْفُ الفِعْلِ النّاصِبِ وحَذْفُ الجُمْلَةِ الَّتِي أُكِّدَ مَضْمُونُها بِالمَصْدَرِ، وذَلِكَ حَذْفٌ كَثِيرٌ مُخِلٌّ. ومَن تَتَبَّعَ مَساقَ هَذِهِ المَصادِرِ الَّتِي تُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ، وجَدَ الجُمَلَ مُصَرَّحًا بِها، لَمْ يَرِدِ الحَذْفُ في شَيْءٍ مِنها؛ إذِ الأصْلُ أنْ لا يُحْذَفَ المُؤَكِّدُ، إذِ الحَذْفُ يُنافِي التَّوْكِيدَ؛ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ أُكِّدَ مُعْتَنًى بِهِ، ومِن حَيْثُ حُذِفَ غَيْرُ مُعْتَنًى بِهِ. وقِيلَ: انْتَصَبَ ”صُنْعَ اللَّهِ“ عَلى ”الإغْراءِ بِمَعْنى، انْظُرُوا صُنْعَ اللَّهِ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ، وابْنُ كَثِيرٍ: يَفْعَلُونَ بِالياءِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ بِتاءِ الخِطابِ. ولَمّا ذَكَرَ عَلاماتِ القِيامَةِ، ذَكَرَ أحْوالَ المُكَلَّفِينَ بَعْدَ قِيامِ السّاعَةِ. والحَسَنَةُ: الإيمانُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والنَّخْعِيُّ، وقَتادَةُ: هي لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ورَتَّبَ عَلى مَجِيءِ المُكَلَّفِ بِالحَسَنَةِ شَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لَهُ خَيْرٌ مِنها، ويَظْهَرُ أنَّ خَيْرًا لَيْسَ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ، ومِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ لَهُ خَيْرٌ مِنَ الخُيُورِ مَبْدَؤُهُ ونَشْؤُهُ مِنها، أيْ مِن جِهَةِ هَذِهِ الحَسَنَةِ، والخَيْرُ هُنا: الثَّوابُ. وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وعِكْرِمَةَ. قالَ عِكْرِمَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِن لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، يُرِيدُ أنَّها لَيْسَتْ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ. وقِيلَ: أفْعَلُ التَّفْضِيلِ. فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَهُ خَيْرٌ مِنها، يُرِيدُ الإضْعافَ، وأنَّ العَمَلَ يَنْقَضِي والثَّوابَ يَدُومُ، وشَتّانَ ما بَيْنَ فِعْلِ العَبْدِ وفِعْلِ السَّيِّدِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: وشَتّانَ ما بَيْنَ فِعْلِ العَبْدِ وفِعْلِ السَّيِّدِ، تَرْكِيبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَبَعْضُ العُلَماءِ مَنَعَهُ، والصَّحِيحُ جَوازُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ، ويَكُونَ في قَوْلِهِ: مِنها، حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: خَيْرٌ مِن قَدْرِها واسْتِحْقاقِها، بِمَعْنى: أنَّ اللَّهَ - تَعالى - تَفَضَّلَ عَلَيْهِ فَوْقَ ما تَسْتَحِقُّ حَسَنَتُهُ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُعْطى بِالواحِدَةِ عَشْرًا، والدّاعِيَةُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ أنَّ الحَسَنَةَ لا يُتَصَوَّرُ بَيْنَها وبَيْنَ الثَّوابِ تَفْضِيلٌ. انْتَهى. وقِيلَ: ثَوابُ المَعْرِفَةِ الحاصِلَةِ في الدُّنْيا هي المَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّةُ الحاصِلَةُ في الآخِرَةِ، ولَذَّةُ النَّظَرِ إلى وجْهِهِ الكَرِيمِ. وقَدْ دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى أنَّ أشْرَفَ السِّعاداتِ هي هَذِهِ اللَّذَّةُ، ولَوْ لَمْ تُحْمَلِ الآيَةُ عَلى ذَلِكَ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ الأكْلُ والشُّرْبُ خَيْرًا مِن مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تَعالى - وذَلِكَ لا يَكُونُ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: مِن فَزَعٍ، بِالتَّنْوِينِ، و“ يَوْمَئِذٍ ”، مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: آمِنُونَ، أوْ لِـ“ فَزَعٍ ”. ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ قِراءَةُ مَن (p-١٠٢)أضافَهُ إلَيْهِ، أوْ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ“ فَزَعٍ ”، أيْ كائِنٌ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِإضافَةِ“ فَزَعٍ ”إلى يَوْمَئِذٍ؛ فَكَسَرَ المِيمَ العَرَبِيّانِ، وابْنُ كَثِيرٍ، وإسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ نافِعٍ، وفَتَحَها، بِناءً لِإضافَتِهِ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ؛ نافِعٌ، في غَيْرِ رِوايَةِ إسْماعِيلَ. والتَّنْوِينُ في“ يَوْمَئِذٍ ”تَنْوِينُ العِوَضِ، حُذِفَتِ الجُمْلَةُ وعُوِّضَ مِنها، والأوْلى أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ ما قَرُبَ مِنَ الظَّرْفِ، أيْ يَوْمَ إذْ جاءَ بِالحَسَنَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ إذْ تَرى الجِبالَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَوْمَ إذْ يُنْفَخُ في الصُّورِ، ولا سِيَّما إذا فُسِّرَ بِأنَّهُ نَفْخُ القِيامِ مِنَ القُبُورِ لِلْحِسابِ، ويَكُونُ الفَزَعُ إذْ ذاكَ واحِدًا. وقالَ أبُو عَلِيٍّ ما مَعْناهُ: مِن فَزَعٍ، بِالتَّنْوِينِ، أوْ بِالإضافَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ فَزَعٌ واحِدٌ، وأنْ يُرادَ بِهِ الكَثْرَةُ؛ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ. فَإنْ أُرِيدَ الكَثْرَةُ، شَمِلَ كُلَّ فَزَعٍ يَكُونُ في القِيامَةِ، وإنْ أُرِيدَ الواحِدُ، فَهو الَّذِي أُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): ما الفَرْقُ بَيْنَ الفَزَعَيْنِ ؟ (قُلْتُ): الفَزَعُ الأوَّلُ: ما لا يَخْلُو مِنهُ أحَدٌ عِنْدَ الإحْساسِ بِشِدَّةٍ تَقَعُ، وهو يَفْجَأُ مِن رُعْبٍ وهَيْبَةٍ، وإنْ كانَ المُحْسِنُ يَأْمَنُ لَحاقَ الضَّرَرِ بِهِ. والثّانِي: الخَوْفُ مِنَ العَذابِ. انْتَهى. والسَّيِّئَةُ: الكُفْرُ والمَعاصِي مِمَّنْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِن أهْلِ المَشِيئَةِ بِدُخُولِ النّارِ. وخُصَّتِ الوُجُوهُ، إذْ كانَتْ أشْرَفَ الأعْضاءِ، ويَلْزَمُ مِن كَبِّها في النّارِ كَبُّ الجَمِيعِ، أوْ عُبِّرَ بِالوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ الإنْسانِ، كَما يُعَبَّرُ عَنْها بِالرَّأْسِ والرَّقَبَةِ، كَما قالَ:“ ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها﴾ [الشعراء: ٩٤] ”، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَكُبُّوا في النّارِ. والظّاهِرُ مِن كُبَّتْ، أنَّهم يُلْقَوْنَ في النّارِ مَنكُوسِينَ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ، أعْلاهم قَبْلَ أسْفَلِهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ طَرْحِهِمْ في النّارِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. هَلْ تُجْزَوْنَ: خِطابٌ لَهم عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أيْ يُقالُ لَهم وقْتَ الكَبِّ: هَلْ تُجْزَوْنَ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يَقُولَ: ﴿إنَّما أُمِرْتُ﴾، والآمِرُ هو اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِ جِبْرِيلَ، أوْ دَلِيلُ العَقْلِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى.“ ﴿أنْ أعْبُدَ﴾ ”: أيْ أُفْرِدَهُ بِالعِبادَةِ، ولا أتَّخِذَ مَعَهُ شَرِيكًا، كَما فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، وهَذِهِ إشارَةُ تَعْظِيمٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ﴾ [الأنعام: ٩٢]، هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ مِن حَيْثُ هي مَوْطِنُ نَبِيِّهِ ومَهْبِطُ وحْيِهِ. والبَلْدَةُ: مَكَّةُ، وأُسْنِدَ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ تَشْرِيفًا لَها واخْتِصاصًا، ولا تَعارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي حَرَّمَها﴾، وقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنَّ إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وإنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ»؛ لِأنَّ إسْنادَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ مِن حَيْثُ كانَ بِقَضائِهِ وسابِقِ عِلْمِهِ، وإسْنادَهُ إلى إبْراهِيمَ مِن حَيْثُ كانَ ظُهُورُ ذَلِكَ بِدُعائِهِ ورَغْبَتِهِ وتَبْلِيغِهِ لِأُمَّتِهِ. وفي قَوْلِهِ: حَرَّمَها، تَنْبِيهٌ بِنِعْمَتِهِ عَلى قُرَيْشٍ؛ إذْ جَعَلَ بَلْدَتَهم آمِنَةً مِنَ الغاراتِ والفِتَنِ الَّتِي تَكُونُ في بِلادِ العَرَبِ، وأهْلَكَ مَن أرادَها بِسُوءٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: الَّذِي: صِفَةً لِلرَّبِّ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ: الَّتِي حَرَّمَها: صِفَةً لِلْبَلْدَةِ، ولَمّا أخْبَرَ أنَّهُ مالِكُ هَذِهِ البَلْدَةِ، أخْبَرَ أنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ فَقالَ:“ ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ ”، أيْ جَمِيعُ الأشْياءِ داخِلَةٌ في رُبُوبِيَّتِهِ، فَشَرُفَتِ البَلْدَةُ بِذِكْرِ انْدِراجِها تَحْتَ رُبُوبِيَّتِهِ عَلى جِهَةِ الخُصُوصِ، وعَلى جِهَةِ العُمُومِ. وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ: أيْ مِنَ المُسْتَسْلِمِينَ المُنْقادِينَ لِأمْرِ اللَّهِ، فَأعْبُدُهُ كَما أمَرَنِي، أوْ مِنَ الحُنَفاءِ الثّابِتِينَ عَلى مِلَّةِ الإسْلامِ المُشارِ إلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: هو سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ، ﴿وأنْ أتْلُوَ القُرْآنَ﴾، إمّا مِنَ التِّلاوَةِ، أيْ: وأنْ أتْلُوَ عَلَيْكُمُ القُرْآنَ، وهَذا الظّاهِرُ، إذْ بَعْدَهُ التَّقْسِيمُ المُناسِبُ لِلتِّلاوَةِ، وإمّا مِنَ المَتْلُوِّ، أيْ: وأنْ أتَّبِعَ القُرْآنَ، كَقَوْلِهِ: واتَّبِعْ ما يُوحى إلَيْكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وأنْ أتْلُوَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: وأنِ اتْلُ، بِغَيْرِ واوٍ، أمْرًا مِن تَلا، فَجازَ أنْ تَكُونَ أنْ مَصْدَرِيَّةً وُصِلَتْ بِالأمْرِ، وجازَ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً عَلى إضْمارِ: وأُمِرْتُ أنِ أتْلُ، أيِ اتْلُ. وقَرَأ أُبَيٌّ: واتْلُ هَذا القُرْآنَ، جَعَلَهُ أمْرًا دُونَ أنْ. فَمَنِ اهْتَدى، بِهِ ووَحَّدَ اللَّهَ ونَبِيَّهُ وآمَنَ بِما جاءَ بِهِ، فَثَمَرَةُ هِدايَتِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ. ومَن ضَلَّ، فَوَبالُ إضْلالِهِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وحُذِفَ جَوابُ مَن ضَلَّ لِدَلالَةِ جَوابِ مُقابِلِهِ عَلَيْهِ، أوْ يُقَدَّرُ في قَوْلِهِ:“ ﴿فَقُلْ إنَّما أنا مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ ”ضَمِيرٌ حَتّى يُرْبَطَ الجَزاءُ بِالشَّرْطِ، إذْ أداةُ الشَّرْطِ اسْمٌ ولَيْسَ ظَرْفًا، فَلا بُدَّ في جُمْلَةِ الجَوابِ (p-١٠٣)مِن ذِكْرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ مَلْفُوظٍ بِهِ أوْ مُقَدَّرٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ هي جَوابُ الشَّرْطِ، ويُقَدَّرُ الضَّمِيرُ: مِنَ المُنْذِرِينَ لَهُ، لَيْسَ عَلَيَّ إلّا إنْذارُهُ، وأمّا هِدايَتُهُ فَإلى اللَّهِ. وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ: أُمِرَ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَيَحْمَدَ رَبَّهُ عَلى ما خَصَّهُ بِهِ مِن شَرَفِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، واخْتَصَّهُ مِن رَفِيعِ المَنزِلَةِ. سَيُرِيكم آياتِهِ: تَهْدِيدٌ لِأعْدائِهِ بِما يُرِيهِمُ اللَّهُ مِن آياتِهِ الَّتِي تَضْطَرُّهم إلى مَعْرِفَتِها والإقْرارِ أنَّها آياتُ اللَّهِ. قالَ الحَسَنُ: وذَلِكَ في الآخِرَةِ حَتّى لا تَنْفَعَهُمُ المَعْرِفَةُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: في الدُّنْيا؛ وهي الدُّخانُ وانْشِقاقُ القَمَرِ وما حَلَّ بِهِمْ مِن نَقَماتِ اللَّهِ. وقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وقِيلَ: خُرُوجُ الدّابَّةِ، ولَوْ بَعْدَ حِينٍ. وقِيلَ: آياتُهُ في أنْفُسِكم وفي سائِرِ ما خَلَقَ، مِثْلُ قَوْلِهِ:“ ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] ”. وقِيلَ: مُعْجِزاتُ الرَّسُولِ، وأضافَها إلَيْهِ لِأنَّهُ هو مُجْرِيها عَلى يَدَيْ رَسُولِهِ، ومُظْهِرُها مِن جِهَتِهِ.“ فَتَعْرِفُونَها ”: أيْ حَقِيقَتَها، ولا يَسَعُكم جُحُودُها. وقَرَأ الجُمْهُورُ:“ عَمّا يَعْمَلُونَ "، بِياءِ الغَيْبَةِ، التِفاتًا مِن ضَمِيرِ الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ؛ ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: بِتاءِ الخِطابِ لِقَوْلِهِ: سَيُرِيكم. ولَمّا قَسَّمَهم إلى مُهْتَدٍ وضالٍّ، أخْبَرَ - تَعالى - أنَّهُ مُحِيطٌ بِأعْمالِهِمْ، غَيْرُ غافِلٍ عَنْها. * * * (مُفْرَداتُ سُورَةِ القَصَصِ) الوَكْزُ: الضَّرْبُ بِاليَدِ مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلاثٍ وسَبْعِينَ. وقِيلَ: بِجُمْعِ كَفِّهِ. وقِيلَ: الوَكْزُ والنَّكْزُ واللَّهْزُ واللَّكْزُ: الدَّفْعُ بِأطْرافِ الأصابِعِ. وقِيلَ: الوَكْزُ عَلى القَلْبِ، واللَّكْزُ عَلى اللِّحى. وقِيلَ: الوَكْزُ بِأطْرافِ الأصابِعِ. ذادَ طَرَدَ ودَفَعَ وقالَ الفَرّاءُ: حَبَسَ، جَذَوْتُ الشَّيْءَ جَذْوًا: قَطَعْتُهُ، والجَذْوَةُ: عُودٌ فِيهِ نارٌ بِلا لَهَبٍ. قالَ ابْنُ مُقْبِلٍ: ؎باتَتْ حَواطِبُ لَيْلى يَلْتَمِسْنَ لَها جَزْلَ الجَذا غَيْرَ خَوّارٍ ولا ذَعِرِ الخَوّارُ: الَّذِي يَتَقَصَّفُ، والذَّعِرُ الَّذِي فِيهِ تَعَبٌ. وقالَ آخَرُ: ؎وألْقى عَلى قَبَسٍ مِنَ النّارِ ∗∗∗ جَذْوَةً عَلَيْها حَمْئُها والتِهابُها وقِيلَ: الجَذْوَةُ مُثَلَّثُ الجِيمِ، العُودُ الغَلِيظُ، كانَتْ في رَأْسِهِ نارٌ أوْ لَمْ تَكُنْ. وقالَ السُّلَمِيُّ يَصِفُ الصَّلى: ؎حَمى حُبُّ هَذِي النّارِ حُبَّ خَلِيلَتِي ∗∗∗ وحُبَّ الغَوانِي فَهو دُونَ الحَبائِبِ ؎وبُدِّلْتُ بَعْدَ المِسْكِ والبانِ شِقْوَةً ∗∗∗ دُخانَ الجُذافِيِّ رَأْسَ أشْمَطَ شاحِبِ الشّاطِئُ والشَّطُّ: حَفَّةُ الوادِي. الفَصاحَةُ: بَسْطُ اللِّسانِ في إيضاحِ المَعْنى المَقْصُودِ، ومُقابِلُهُ: اللَّكْنُ. الرِّدْءُ: المُعِينُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ في الأمْرِ، فِعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، فَهو اسْمٌ لِما يُعانُ بِهِ، كَما أنَّ الدِّفْءَ اسْمٌ لِما يُدْفَأُ بِهِ. قالَ سَلامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ: ؎ورِدْءُ كُلِّ أبْيَضَ مُشْرِفِيٍّ ∗∗∗ شَحِيذِ الحَدِّ عَضْبٍ ذِي فُلُولِ ويُقالُ: رَدَأْتُ الحائِطَ أرْدَؤُهُ، إذا دَعَمْتَهُ بِخَشَبَةٍ لِئَلّا يَسْقُطَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العَوْنُ، ويُقالُ: رَدَأْتُهُ عَلى عَدُوِّهِ: أعَنْتُهُ. المَقْبُوحُ: المَطْرُودُ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎ألا قَبَّحَ اللَّهُ البَراجِمَ كُلَّها ∗∗∗ وجَدَّعَ يَرْبُوعًا وعَفَّرَ دارِما ثَوى يَثْوِي ثَواءٌ: أقامَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَقَدْ كانَ في حَوْلٍ ثَواءٌ ثَوَيْتُهُ ∗∗∗ تُقَضّى لَباناتٌ ويَسْأمُ سائِمُ وقالَ العَجّاجُ: ؎فَباتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ أيِ الضَّيْفُ المُقِيمُ. البَطَرُ: الطُّغْيانُ. السَّرْمَدُ: الدّائِمُ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب