الباحث القرآني

(p-٤٣٦)﴿إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكم لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكم بَلْ هو خَيْرٌ لَكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنهم لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بِأنْفُسِهِمْ خَيْرًا وقالُوا هَذا إفْكٌ مُبِينٌ﴾ ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ لَمَسَّكم فِيما أفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِألْسِنَتِكم وتَقُولُونَ بِأفْواهِكم ما لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهو عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ ﴿ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ويُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهم عَذابٌ ألِيمٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ وأنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ . سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ مَشْهُورٌ مَذْكُورٌ في الصَّحِيحِ، والإفْكُ: الكَذِبُ والِافْتِراءُ. وقِيلَ: هُوالبُهْتانُ لا تَشْعُرُ بِهِ حَتّى يَفْجَأكَ. والعُصْبَةُ: الجَماعَةُ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها في سُورَةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . (مِنكم) أيْ مِن أهْلِ مِلَّتِكم ومِمَّنْ يَنْتَمِي إلى الإسْلامِ، ومِنهم مُنافِقٌ ومِنهم مُسْلِمٌ، والظّاهِرُ أنَّ خَبَرَ: (إنَّ) هو ﴿عُصْبَةٌ مِنكُمْ﴾، و(مِنكم) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وقالَهُ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ. و﴿لا تَحْسَبُوهُ﴾: مُسْتَأْنَفٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ (عُصْبَةٌ) رُفِعَ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في (جاءُوا)، وخَبَرُ (إنَّ) في قَوْلِهِ: و﴿لا تَحْسَبُوهُ﴾، التَّقْدِيرُ (إنَّ فِعْلَ الَّذِينَ) وهَذا أنْسَقُ في المَعْنى وأكْثَرُ فائِدَةً مِن أنْ يَكُونَ (عُصْبَةٌ) خَبَرَ (إنَّ)، انْتَهى. والعُصْبَةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ النِّفاقِ، وزَيْدُ بْنُ رِفاعَةَ، وحَسّانُ بْنُ ثابِتٍ، ومِسْطَحُ بْنُ أُثاثَةَ، وحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، ومَن ساعَدَهم مِمَّنْ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُ اسْمِهِ، و﴿لا تَحْسَبُوهُ﴾ خِطابٌ لِمَن ساءَهُ ذَلِكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وخُصُوصًا أصْحابُ القِصَّةِ، والضَّمِيرُ في ﴿لا تَحْسَبُوهُ﴾، الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الإفْكِ، وعَلى إعْرابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. يُعَوَّلُ عَلى ذَلِكَ المَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرَهُ اسْمَ (إنَّ) . قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى القَذْفِ وعَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن (جاءُوا)، وعَلى ما نالَ المُسْلِمِينَ مِنَ الغَمِّ، والمَعْنى ﴿لا تَحْسَبُوهُ﴾ يَنْزِلُ بِكم مِنهُ عارٌ ﴿بَلْ هو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لِبَراءَةِ السّاحَةِ وثَوابِ الصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ الأذى وانْكِشافِ كَذِبِ القاذِفِينَ. وقِيلَ: الخِطابُ بِـ ﴿”تَحْسَبُوهُ“﴾ لِلْقاذِفِينَ وكَيْنُونَةُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهم حَيْثُ كانَ هَذا الذِّكْرُ عُقُوبَةً مُعَجَّلَةً كالكَفّارَةِ، وحَيْثُ تابَ بَعْضُهم. وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنهم ما اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ﴾ أيْ جَزاءُ ما اكْتَسَبَ، وذَلِكَ بِقَدْرِ ما خاضَ فِيهِ؛ لِأنَّ بَعْضَهم ضَحِكَ وبَعْضَهم سَكَتَ وبَعْضَهم تَكَلَّمَ، و﴿اكْتَسَبَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في المَآثِمِ ونَحْوِها؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى اعْتِمالٍ وقَصْدٍ، فَهو أبْلَغُ في التَّرْتِيبِ، وكَسَبَ مُسْتَعْمَلٌ في الخَيْرِ؛ لِأنَّ حُصُولَهُ مُغْنٍ عَنِ الدَّلالَةِ عَلى اعْتِمالٍ فِيهِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ كَسَبَ في الوَجْهَيْنِ. ﴿والَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ﴾ (p-٤٣٧)المَشْهُورُ أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، والعَذابُ العَظِيمُ عَذابُ يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: هو ما أصابَ حَسّانَ مِن ذَهابِ بَصَرِهِ وشَلِّ يَدِهِ، وكانَ ذَلِكَ مِن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ؛ لِإمْعانِهِ في عَداوَةِ الرَّسُولِ ﷺ وانْتِهازِهِ الفُرَصَ، ورُوِيَ عَنْهُ كَلامٌ قَبِيحٌ في ذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتابِي عَنْ ذِكْرِهِ وقَلَمِي عَنْ كِتابَتِهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - . وقِيلَ: (الَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ) حَسّانُ، والعَذابُ الألِيمُ عَماهُ وحَدُّهُ وضَرْبُ صَفْوانَ لَهُ بِالسَّيْفِ عَلى رَأْسِهِ، وقالَ لَهُ: ؎تَوَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإنَّنِي غُلامٌ إذا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشاعِرِ ؎ولَكِنَّنِي أحْمِي حِمايَ وأتَّقِي ∗∗∗ مِنَ الباهِتِ الرّامِي البَرِيءِ الظَّواهِرِ وأنْشَدَ حَسّانُ أبْياتًا يُثْنِي فِيها عَلى أُمِّ المُؤْمِنِينَ، ويُظْهِرُ بَراءَتَهُ مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ، وهي: ؎حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ∗∗∗ وتُصْبِحُ غَرْثى مِن لُحُومِ الغَوافِلِ ؎حَلِيلَةُ خَيْرِ النّاسِ دِينًا ومَنصِبًا ∗∗∗ نَبِيِّ الهُدى والمَكْرُماتِ الفَواضِلِ ؎عَقِيلَةُ حَيٍّ مِن لُؤَيِّ بْنِ غالِبٍ ∗∗∗ كِرامِ المَساعِي مَجْدُها غَيْرُ زائِلِ ؎مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَها ∗∗∗ وطَهَّرَها مِن كُلِّ شَيْنٍ وباطِلِ ؎فَإنْ كانَ ما بُلِّغْتِ عَنِّيَ قُلْتُهُ ∗∗∗ فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ أنامِلِي ؎وكَيْفَ ووِدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي ∗∗∗ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ المَحافِلِ ؎لَهُ رُتَبٌ عالٍ عَلى النّاسِ فَضْلُها ∗∗∗ تَقاصَرُ عَنْها سَوْرَةُ المُتَطاوِلِ والمَشْهُورُ أنَّهُ حُدَّ حَسّانُ ومِسْطَحٌ وحَمْنَةُ. قِيلَ: وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ شُعَراءِ ذَلِكَ العَصْرِ في شِعْرٍ. وقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ مِسْطَحٌ. وقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ عَبْدُ اللَّهِ. وقِيلَ: لَمْ يُحَدَّ أحَدٌ في هَذِهِ القِصَّةِ، وهَذا مُخالِفٌ لِلنَّصِّ. ﴿فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤]، وقابِلْ ذَلِكَ بِقَوْلِ: إنَّما يُقالُ الحَدُّ بِإقْرارٍ أوْ بَيِّنَةٍ، ولَمْ يَتَقَيَّدْ بِإقامَتِهِ بِالإخْبارِ كَما لَمْ يَتَقَيَّدْ بِقَتْلِ المُنافِقِينَ، وقَدْ أخْبَرَ تَعالى بِكُفْرِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿كِبْرَهُ﴾ بِكَسْرِ الكافِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، والزُّهْرِيُّ، وأبُو رَجاءٍ، ومُجاهِدٌ، وأبُو البَرَهْسَمِ، والأعْمَشُ، وحُمَيْدٌ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، ويَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ، ويَعْقُوبُ، والزَّعْفَرانِيُّ، وابْنُ مِقْسَمٍ، وسَوْرَةُ، عَنِ الكِسائِيِّ. ومَحْبُوبٌ، عَنْ أبِي عَمْرٍو، بِضَمِّ الكافِ، والكِبْرُ والكُبْرُ: مَصْدَرانِ لِكَبُرَ الشَّيْءُ عَظُمَ، لَكِنَّ اسْتِعْمالَ العَرَبِ الضَّمَّ لَيْسَ في السِّنِّ. هَذا كُبْرُ القَوْمِ أيْ كَبِيرُهم سِنًّا أوْ مَكانَةً. وفي الحَدِيثِ في قِصَّةِ حُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ: ”الكُبْرَ الكُبْرَ“ . وقِيلَ ﴿كُبْرُهُ﴾ بِالضَّمِّ، مُعْظَمُهُ، وبِالكَسْرِ، البُداءَةُ بِالإفْكِ. وقِيلَ: بِالكَسْرِ، الإثْمُ. ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ هَذا تَحْرِيضٌ عَلى ظَنِّ الخَيْرِ وزَجْرٌ وأدَبٌ، والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِلْمُؤْمِنِينَ حاشا مَن تَوَلّى كِبْرَهُ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ دُخُولُهم في الخِطابِ، وفِيهِ عِتابٌ، أيْ: كانَ الإنْكارُ واجِبًا عَلَيْهِمْ، وعَدَلَ بَعْدَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ وعَنِ الضَّمِيرِ إلى الظّاهِرِ؛ فَلَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ ظَنَنْتُمْ بِأنْفُسِكم (خَيْرًا) وقُلْتُمْ لِيُبالِغَ في التَّوْبِيخِ بِطَرِيقَةِ الِالتِفاتِ ولِيُصَرِّحَ بِلَفْظِ الإيمانِ؛ دَلالَةً عَلى أنَّ الِاشْتِراكَ فِيهِ مُقْتَضٍ أنْ لا يُصَدِّقَ مُؤْمِنٌ عَلى أخِيهِ قَوْلَ عائِبٍ ولا طاعِنٍ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ حَقَّ المُؤْمِنِ إذا سَمِعَ قالَةً في أخِيهِ أنْ يَبْنِيَ الأمْرَ فِيهِ عَلى ظَنِّ الخَيْرِ، وأنْ يَقُولَ بِناءً عَلى ظَنِّهِ ﴿هَذا إفْكٌ مُبِينٌ﴾، هَكَذا بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ بِبَراءَةِ أخِيهِ، كَما يَقُولُ المُسْتَيْقِنُ المُطَّلِعُ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ، وهَذا مِنَ الأدَبِ الحَسَنِ، ومَعْنى (بِأنْفُسِهِمْ) أيْ: كَأنْ يَقِيسَ فُضَلاءُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ هَذا الأمْرَ عَلى أنْفُسِهِمْ، فَإذا كانَ ذَلِكَ يَبْعُدُ عَلَيْهِمْ قَضَوْا بِأنَّهُ في حَقِّ مَن هو خَيْرٌ مِنهم أبْعَدَ. وقِيلَ: مَعْنى (بِأنْفُسِهِمْ) بِأُمَّهاتِهِمْ. وقِيلَ: بِإخْوانِهِمْ. وقِيلَ: بِأهْلِ دِينِهِمْ، وقالَ: ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١]، ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، أيْ: لا يَلْمِزْ بَعْضُكم بَعْضًا، ولْيُسَلِّمْ (p-٤٣٨)بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ. ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ جَعَلَ اللَّهُ فَصْلًا بَيْنَ الرَّمْيِ الكاذِبِ والرَّمْيِ الصّادِقِ ثُبُوتَ أرْبَعَةِ شُهَداءَ وانْتِفاءَها. فَإذا لَمْ يَأْتُوا فَهم في حُكْمِ اللَّهِ وشَرِيعَتِهِ كاذِبُونَ، وهَذا تَوْبِيخٌ وتَعْنِيفٌ لِلَّذِينِ سَمِعُوا الإفْكَ ولَمْ يَجِدُّوا في دَفْعِهِ وإنْكارِهِ واحْتِجاجٌ عَلَيْهِمْ بِما هو ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ في الشَّرْعِ مِن وُجُوبِ تَكْذِيبِ القاذِفِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ والتَّنْكِيلِ. ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ﴾ أيْ في الدُّنْيا بِالنِّعَمِ الَّتِي مِنها الإمْهالُ لِلتَّوْبَةِ (ورَحْمَتُهُ) عَلَيْكم في الآخِرَةِ بِالعَفْوِ والمَغْفِرَةِ. (لَمَسَّكم) العَذابُ فِيما خُضْتُمْ فِيهِ مِن حَدِيثِ الإفْكِ يُقالُ: أفاضَ في الحَدِيثِ وانْدَفَعَ وهَضَبَ وخاضَ. ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ﴾ لِعامِلٍ في (إذًا) (لَمَسَّكم) وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾ بِفَتْحِ الثَّلاثِ وشَدِّ القافِ، وشَدَّ التّاءَ البَزِّيُّ وأدْغَمَ ذالَ (إذْ) في التّاءِ النَّحْوِيّانِ وحَمْزَةُ أيْ يَأْخُذُهُ بَعْضُكم مِن بَعْضٍ، يُقالُ: تَلَقّى القَوْلَ وتَلَقَّنَهُ وتَلَقَّفَهُ والأصْلُ تَتَلَقَّوْنَهُ وهي قِراءَةُ أُبَيٍّ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ ﴿تُلْقُونَهُ﴾ بِضَمِّ التّاءِ والقافِ وسُكُونِ اللّامِ مُضارِعُ ألْقى وعَنْهُ ﴿تَلْقَوْنَهُ﴾ بِفَتْحِ التّاءِ والقافِ وسُكُونِ اللّامِ مُضارِعُ لَقِيَ. وقَرَأتْ عائِشَةُ وابْنُ عَبّاسٍ وعِيسى وابْنُ يَعْمُرَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التّاءِ وكَسْرِ اللّامِ وضَمِّ القافِ مِن قَوْلِ العَرَبِ: ولَقَ الرَّجُلُ كَذَبَ، حَكاهُ أهْلُ اللُّغَةِ. وقالَ ابْنُ سِيدَهْ، جاءُوا بِالمُتَعَدِّي شاهِدًا عَلى غَيْرِ المُتَعَدِّي، وعِنْدِي أنَّهُ أرادَ يَلْقُونَ فِيهِ فَحُذِفَ الحَرْفُ ووُصِلَ الفِعْلُ لِلضَّمِيرِ. وحَكى الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ أنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الوَلَقِ الَّذِي هُوالإسْراعُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ كَعَدَدٍ في أثَرِ عَدَدٍ، وكَلامٍ في أثَرِ كَلامٍ، يُقالُ: ولَقَ في سَيْرِهِ إذا أسْرَعَ قالَ: جاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشّامِ يَلِقْ، وقَرَأ ابْنُ أسْلَمَ وأبُو جَعْفَرٍ (تَأْلِقُونَهُ) بِفَتْحِ التّاءِ وهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَعْدَها لامٌ مَكْسُورَةٌ مِنَ الألَقِ وهُوالكَذِبُ. وقَرَأ يَعْقُوبُ في رِوايَةِ المازِنِيِّ (تِيلَقُونَهُ) بِتاءٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها ياءٌ ولامٌ مَفْتُوحَةٌ كَأنَّهُ مُضارِعُ ولِقَ بِكَسْرِ اللّامِ كَما قالُوا: تِيجَلُ مُضارِعُ وجِلْتَ. وقالَ سُفْيانُ: سَمِعْتُ أُمِّي تَقْرَأُ إذْ تَثْقَفُونَهُ يَعْنِي مُضارِعَ ثَقِفَ قالَ: وكانَ أبُوها يَقْرَأُ بِحَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. ومَعْنى (بِأفْواهِكم) وتُدِيرُونَهُ فِيها مِن غَيْرِ عِلْمٍ لِأنَّ الشَّيْءَ المَعْلُومَ يَكُونُ في القَلْبِ ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسانُ، وهَذا الإفْكُ لَيْسَ مَحَلُّهُ إلّا الأفْواهَ كَما قالَ ﴿يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧] . ﴿وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا﴾ أيْ ذَنْبًا صَغِيرًا ﴿وهُوَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ مِنَ الكَبائِرِ وعَلَّقَ مَسَّ العَذابِ بِثَلاثَةِ آثامٍ تَلَقِّي الإفْكِ والتَّكَلُّمِ بِهِ واسْتِصْغارِهِ ثُمَّ أخَذَ يُوَبِّخُهم عَلى التَّكَلُّمِ بِهِ، وكانَ الواجِبُ عَلَيْهِمْ إذْ سَمِعُوهُ أنْ لا يَفُوهُوا بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ الفَصْلُ بَيْنَ (لَوْلا) و(قُلْتُمْ) ؟ قُلْتُ: لِلظُّرُوفِ شَأْنٌ وهو تَنَزُّلُها مِنَ الأشْياءِ مَنزِلَةَ نَفْسِها لِوُقُوعِها فِيها، وأنَّها لا تَنْفَكُّ عَنْها فَلِذَلِكَ يَتَّسِعُ فِيها ما يَتَّسِعُ في غَيْرِها انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن أدَواتِ التَّحْضِيضِ يُوهِمُ أنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالظَّرْفِ ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ المَفْعُولِ بِهِ عَلى الفِعْلِ فَتَقُولُ: لَوْلا زَيْدًا ضَرَبْتَ وهَلّا عَمْرًا قَتَلْتَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَأيُّ فائِدَةٍ في تَقْدِيمِ الظَّرْفِ حَتّى أوْقَعَ فاصِلًا ؟ قُلْتُ: الفائِدَةُ بَيانُ أنَّهُ كانَ الواجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يَنْقادُوا حالَ ما سَمِعُوهُ بِالإفْكِ عَنِ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَلَمّا كانَ ذِكْرُ الوَقْتِ أهَمَّ وجَبَ التَّقْدِيمُ. فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى (يَكُونُ) والكَلامُ بِدُونِهِ مُتْلَئِبٌّ لَوْ قِيلَ ما لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا ؟ قُلْتُ: مَعْناهُ ما يَنْبَغِي ويَصِحُّ أيْ ما يَنْبَغِي ﴿لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا﴾ ولا يَصِحُّ لَنا ونَحْوُهُ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ (وسُبْحانَكَ) تَعَجُّبٌ مِن عِظَمِ الأمْرِ. فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى التَّعَجُّبِ في كَلِمَةِ التَّسْبِيحِ ؟ قُلْتُ: الأصْلُ في ذَلِكَ أنَّ تَسْبِيحَ اللَّهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ المُتَعَجَّبِ مِن صَنائِعِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتّى اسْتُعْمِلَ في كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنهُ، أوْ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ أنْ تَكُونَ حُرْمَةُ نَبِيِّهِ ﷺ كَما قِيلَ فِيها انْتَهى. ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا﴾ أيْ في أنْ تَعُودُوا، تَقُولُ: وعَظْتُ فُلانًا في كَذا فَتَرَكَهُ. ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ حَثٌّ لَهم عَلى الِاتِّعاظِ وتَهْيِيجٌ لِأنَّ مِن شَأْنِ المُؤْمِنِ الِاحْتِزازَ مِمّا يَشِينُهُ مِنَ القَبائِحِ. وقِيلَ: أنْ (p-٤٣٩)تَعُودُوا مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ أيْ كَراهَةَ ﴿أنْ تَعُودُوا﴾ . ﴿ويُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ أيِ الدَّلالاتِ عَلى عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ بِما يُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ الشَّرائِعِ ويُعَلِّمُكم مِنَ الآدابِ، ويَعِظُكم مِنَ المَواعِظِ الشّافِيَةِ. ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ﴾ . قالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ الإشارَةُ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ومَن أشْبَهَهُ. ﴿فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لِعَداوَتِهِمْ لَهم، والعَذابُ الألِيمُ في الدُّنْيا الحَدُّ، وفي الآخِرَةِ النّارُ. والظّاهِرُ في ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ﴾ العُمُومُ في كُلِّ قاذِفٍ مُنافِقًا كانَ أوْ مُؤْمِنًا، وتَعْلِيقُ الوَعِيدِ عَلى مَحَبَّةِ الشِّياعِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ إرادَةَ الفِسْقِ فِسْقٌ واللَّهُ يَعْلَمُ أيٌّ البَرِيءُ مِنَ المُذْنِبِ وسَرائِرَ الأُمُورِ، ووَجْهَ الحِكْمَةِ في سَتْرِكم والتَّغْلِيظَ في الوَعِيدِ. وقالَ الحَسَنُ: عَنى بِهَذا الوَعِيدِ واللَّعْنِ المُنافِقِينَ، وأنَّهم قَصَدُوا وأحَبُّوا إذايَةَ الرَّسُولِ ﷺ وذَلِكَ كُفْرٌ ومَلْعُونٌ فاعِلُهُ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: هُمُ المُنافِقُونَ أوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِالعَذابِ في الدُّنْيا عَلى يَدِ الرَّسُولِ بِالمُجاهَدَةِ كَقَوْلِهِ ﴿جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣] . وقالَ الكَرْمانِيُّ: واللَّهُ يَعْلَمُ كَذِبَهم ﴿وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ لِأنَّهُ غَيْبٌ. وجَوابُ (لَوْلا) مَحْذُوفٌ أيْ لَعاقَبَكم. ﴿وأنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ﴾ بِالتَّبْرِئَةِ (رَحِيمٌ) بِقَبُولِ تَوْبَةِ مَن تابَ مِمَّنْ قَذَفَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الخِطابُ لِحَسّانَ ومِسْطَحٍ وحَمْنَةَ والظّاهِرُ العُمُومُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب