الباحث القرآني

﴿كَيْفَ﴾: قَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ اسْمُ اسْتِفْهامٍ عَنْ حالٍ، وصَحِبَهُ مَعْنى التَّقْرِيرِ والتَّوْبِيخِ، فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهامِ. وقِيلَ: صَحِبَهُ الإنْكارُ والتَّعَجُّبُ، أيْ إنَّ مَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ مِنَ القُدْرَةِ الباهِرَةِ والتَّصَرُّفِ التّامِّ، والمَرْجِعُ إلَيْهِ آخِرًا فَيُثِيبُ ويُعاقِبُ - لا يَلِيقُ أنْ يُكْفَرَ بِهِ. والإنْكارُ بِالهَمْزَةِ إنْكارٌ لِذاتِ الفِعْلِ، وبِكَيْفَ إنْكارٌ لِحالِهِ، وإنْكارُ حالِهِ إنْكارٌ لِذاتِهِ؛ لِأنَّ ذاتَهُ لا تَخْلُو مِن حالٍ يَقَعُ فِيها، فاسْتَلْزَمَ إنْكارُ الحالِ إنْكارَ الذّاتِ ضَرُورَةً، وهو أبْلَغُ، إذْ يَصِيرُ ذَلِكَ مِن بابِ الكِنايَةِ حَيْثُ قُصِدَ إنْكارُ الحالِ، والمَقْصُودُ إنْكارُ وُقُوعِ ذاتِ الكُفْرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَحْرِيرُهُ أنَّهُ إذا أُنْكِرَ أنْ يَكُونَ لِكُفْرِهِمْ حالٌ يُوجَدُ عَلَيْها، وقَدْ عَلِمَ أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لا يَنْفَكُّ مِن حالٍ وصِفَةٍ عِنْدَ وُجُودِهِ، ومُحالٌ أنْ يُوجَدَ تَغَيُّرُ صِفَةٍ مِنَ الصِّفاتِ - كانَ إنْكارًا لِوُجُودِهِ عَلى الطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ. انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الخِطابُ فِيهِ التِفاتٌ؛ لِأنَّ الكَلامَ قَبْلُ كانَ بِصُورَةِ الغَيْبَةِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٢٦] إلى آخِرِهِ ؟ وفائِدَةُ هَذا الِالتِفاتِ أنَّ الإنْكارَ إذا تَوَجَّهَ إلى المُخاطَبِ كانَ أبْلَغَ مَن تُوَجُّهِهِ إلى الغائِبِ؛ لِجَوازِ أنْ لا يَصِلَهُ الإنْكارُ، بِخِلافِ مَن كانَ مُخاطَبًا، فَإنَّ الإنْكارَ عَلَيْهِ أرْدَعُ لَهُ عَنْ أنْ يَقَعَ فِيما أُنْكِرَ عَلَيْهِ. والنّاصِبُ لِكَيْفَ ﴿تَكْفُرُونَ﴾ وأتى بِصِيغَةِ (تَكْفُرُونَ) مُضارِعًا ولَمْ يَأْتِ بِهِ ماضِيًا، وإنْ كانَ الكُفْرُ قَدْ وقَعَ مِنهم؛ لِأنَّ الَّذِي أُنْكِرَ أوْ تُعُجِّبَ مِنهُ الدَّوامُ عَلى ذَلِكَ، والمُضارِعُ هو المُشْعِرُ بِهِ، ولِئَلّا يَكُونَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَن وقَعَ مِنهُ الكُفْرُ ثُمَّ آمَنَ؛ إذْ لَوْ جاءَ كَيْفَ كَفَرْتُمْ ﴿بِاللَّهِ﴾ لانْدَرَجَ في ذَلِكَ مَن (p-١٣٠)كَفَرَ ثُمَّ آمَنَ كَأكْثَرِ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والواوُ في قَوْلِهِ: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾: واوُ الحالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِي نَجا مِنهُما وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، ﴿ونادى نُوحٌ ابْنَهُ وكانَ في مَعْزِلٍ﴾ [هود: ٤٢] . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ صَحَّ أنْ يَكُونَ حالًا، وهو ماضٍ ؟ ولا يُقالُ: جِئْتُ وقامَ الأمِيرُ، ولَكِنْ: وقَدْ قامَ، إلّا أنْ يُضْمَرَ قَدْ. قُلْتُ: لَمْ تَدْخُلِ الواوُ عَلى (كُنْتُمْ أمْواتًا) وحْدَهُ، ولَكِنْ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ أمْواتًا إلى تَرْجِعُونَ، كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وقِصَّتُكم هَذِهِ وحالُكم أنَّكم كُنْتُمْ أمْواتًا نُطَفًا في أصْلابِ آبائِكم فَجَعَلَكم أحْياءً ؟ ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ ؟ ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بَعْدَ المَوْتِ ثُمَّ يُحاسِبُكم ؟ انْتَهى كَلامُهُ. ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ عَلى إضْمارِ قَدْ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ أكْثَرُ النّاسِ، أيْ وقَدْ كُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم. والجُمْلَةُ الحالِيَّةُ عِنْدَنا فِعْلِيَّةٌ. وأمّا أنْ نَتَكَلَّفَ ونَجْعَلَ تِلْكَ الجُمْلَةَ اسْمِيَّةً حَتّى نَفِرَّ مِن إضْمارِ قَدْ، فَلا نَذْهَبُ إلى ذَلِكَ، وإنَّما حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلى ذَلِكَ اعْتِقادُهُ أنَّ جَمِيعَ الجُمَلِ مُنْدَرِجَةٌ في الحالِ، ولِذَلِكَ قالَ: فَإنْ قُلْتَ: بَعْضُ القِصَّةِ ماضٍ وبَعْضُها مُسْتَقْبَلٌ، والماضِي والمُسْتَقْبَلُ كِلاهُما لا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ حالًا حَتّى يَكُونَ فِعْلًا حاضِرًا وقْتَ وُجُودِ ما هو حالٌ عَنْهُ، فَما الحاضِرُ الَّذِي وقَعَ حالًا ؟ قُلْتُ: هو العِلْمُ بِالقِصَّةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ عالِمُونَ بِهَذِهِ القِصَّةِ، وبِأوَّلِها وبِآخِرِها ؟ انْتَهى كَلامُهُ. ولا يَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ جَمِيعُ الجُمَلِ مُنْدَرِجَةً في الحالِ؛ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الحالُ قَوْلَهُ: وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم، ويَكُونَ المَعْنى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وقَدْ خَلَقَكم. فَعَبَّرَ عَنِ الخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ، ﷺ: «أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ» أيْ أنَّ مَن أوْجَدَكَ بَعْدَ العَدَمِ الصِّرْفِ حَرِيٌّ أنْ لا تَكْفُرَ بِهِ؛ لِأنَّهُ لا نِعْمَةَ أعْظَمُ مِن نِعْمَةِ الِاخْتِراعَ، ثُمَّ نِعْمَةِ الِاصْطِناعِ، وقَدْ شَمِلَ النِّعْمَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ لِأنَّ بِالإحْياءِ، حَصَلَتا ألا تَرى أنَّها تَضَمَّنَتِ الجُمْلَةُ الإيجادَ والإحْسانَ إلَيْكَ بِالتَّرْبِيَةِ والنِّعَمِ إلى زَمانِ أنْ تَوَجَّهَ عَلَيْكَ إنْكارُ الكُفْرِ ؟ ولَمّا كانَ مَرْكُوزًا في الطِّباعِ ومَخْلُوقًا في العُقُولِ أنْ لا خالِقَ إلّا اللَّهَ، ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، كانَتْ حالًا تَقْتَضِي أنْ لا تُجامِعَ الكُفْرَ، فَلا يَحْتاجُ إلى تَكَلُّفِ أنَّ الحالَ هو العِلْمُ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ. وعَلى هَذا الَّذِي شَرَحْناهُ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكم ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ جُمَلًا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِها مُسْتَأْنَفَةً، لا داخِلَةً تَحْتَ الحالِ، ولِذَلِكَ غايَرَ فِيها بِحَرْفِ العَطْفِ، وبِصِيغَةِ الفِعْلِ عَمّا قَبْلَها مِنَ الحَرْفِ والصِّيغَةِ. ومَن جَعَلَ العِلْمَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الجُمَلِ هو الحالَ، جَعَلَ تَمَكُّنَهم مِنَ العِلْمِ بِالإحْياءِ الثّانِي والرُّجُوعِ لِما نُصِبَ عَلى ذَلِكَ مِنَ الدَّلائِلِ الَّتِي تُوَصِّلُ إلَيْهِ بِمَنزِلَةِ حُصُولِ العِلْمِ. فَحُصُولُهُ بِالإماتَتَيْنِ والإحْياءِ الأوَّلِ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ عَلِمُوا ثُمَّ عانَدُوا، وفي تَرْتِيبِ هاتَيْنِ المَوْتَتَيْنِ والحَياتَيْنِ اللّاتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى وامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِها أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: العَدَمُ السّابِقُ قَبْلَ الخَلْقِ، والإحْياءَ الأوَّلَ: الخَلْقُ، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ في دارِ الدُّنْيا، والحَياةَ الثّانِيَةَ: البَعْثُ لِلْقِيامَةِ. قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ. الثّانِي: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: المَعْهُودُ في الدُّنْيا، والإحْياءَ الأوَّلَ: هو في القَبْرِ لِلْمَسْألَةِ، والمَوْتَ الثّانِيَ: في القَبْرِ بَعْدَ المَسْألَةِ، والإحْياءَ الثّانِيَ: البَعْثُ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو صالِحٍ. الثّالِثُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: كَوْنُهم في أصْلابِ آبائِهِمْ، والإحْياءَ الأوَّلَ: الإخْراجُ مِن بُطُونِ الأُمَّهاتِ، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ، والإحْياءَ الثّانِيَ: البَعْثُ، قالَهُ قَتادَةُ. الرّابِعُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: هو الَّذِي اعْتَقَبَ إخْراجَهم مِن صُلْبِ آدَمَ نَسَمًا كالذَّرِّ، والإحْياءَ الأوَّلَ: إخْراجُهم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ، والإحْياءَ: البَعْثُ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الخامِسُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: مُفارَقَةُ نُطْفَةِ الرَّجُلِ إلى الرَّحِمِ فَهي مَيِّتَةٌ إلى نَفْخِ الرُّوحِ فَيُحْيِيها بِالنَّفْخِ، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ، والإحْياءَ الثّانِيَ: البَعْثُ. السّادِسُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ هو الخُمُولُ، والإحْياءَ الأوَّلَ: الذِّكْرُ والشَّرَفُ بِهَذا الدِّينِ والنَّبِيِّ الَّذِي جاءَكم، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ، والإحْياءَ الثّانِيَ: البَعْثُ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. (p-١٣١)السّابِعُ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: كَوْنُ آدَمَ مِن طِينٍ، والإحْياءَ الأوَّلَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ فَحَيِيتُمْ بِحَياتِهِ، والمَوْتَ الثّانِيَ: المَعْهُودُ، والإحْياءَ الثّانِيَ: البَعْثُ. واخْتارَ ابْنُ عَطِيَّةَ القَوْلَ الأوَّلَ وقالَ: هو أوْلى الأقْوالِ؛ لِأنَّهُ لا مَحِيدَ لِلْكُفّارِ عَنِ الإقْرارِ بِهِ في أوَّلِ تَرْتِيبِهِ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا﴾ وإسْنادَهُ آخِرًا الإماتَةَ إلَيْهِ، مِمّا يُقَوِّي ذَلِكَ القَوْلَ، وإذا أذْعَنَتْ نُفُوسُ الكُفّارِ لِكَوْنِهِمْ أمْواتًا مَعْدُومِينَ؛ ثُمَّ لِلْإحْياءِ في الدُّنْيا ثُمَّ لِلْإماتَةِ فِيها، قَوِيَ عَلَيْهِمْ لُزُومُ الإحْياءِ الآخَرِ، وجاءَ جَحْدُهم لَهُ دَعْوى لا حُجَّةَ عَلَيْها. انْتَهى كَلامُهُ، وهو كَلامٌ حَسَنٌ. ولِلْمَنسُوبِينَ إلى عِلْمِ الحَقائِقِ أقْوالٌ تُخالِفُ ما تَقَدَّمَ، أحَدُها: أمْواتًا بِالشِّرْكِ فَأحْياكم بِالتَّوْحِيدِ. الثّانِي: أمْواتًا بِالجَهْلِ فَأحْياكم بِالعِلْمِ. الثّالِثُ: أمْواتًا بِالِاخْتِلافِ فَأحْياكم بِالِائْتِلافِ. الرّابِعُ: أمْواتًا بِحَياةِ نُفُوسِكم وإماتَتُكم بِإماتَةِ نُفُوسِكم وإحْياءِ قُلُوبِكم. الخامِسُ: أمْواتًا عَنْهُ فَأحْياكم بِهِ، قالَهُ الشِّبْلِيُّ. السّادِسُ: أمْواتًا بِالظَّواهِرِ فَأحْياكم بِمُكاشَفَةِ السَّرائِرِ، قالَهُ ابْنُ عَطاءٍ. السّابِعُ: أمْواتًا بِشُهُودِكم فَأحْياكم بِمُشاهَدَتِهِ، ثُمَّ يُمِيتُكم عَنْ شَواهِدِكم، ثُمَّ يُحْيِيكم بِقِيامِ الحَقِّ عَنْهُ، ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ مِن جَمِيعِ ما لَكم، قالَهُ فارِسٌ. واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ كَوْنُهم نُطَفًا في أصْلابِ آبائِهِمْ فَجَعَلَهم أحْياءً، ثُمَّ يُمِيتُهم بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ المَوْتِ، ثُمَّ يُحاسِبُهم. وجَوَّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالإحْياءِ الثّانِي الإحْياءَ في القَبْرِ، وبِالرُّجُوعِ: النُّشُورَ، وأنْ يُرادَ بِالإحْياءِ الثّانِي أيْضًا النُّشُورُ، وبِالرُّجُوعِ: المَصِيرُ إلى الجَزاءِ. وهَذا الَّذِي جَوَّزَ أنْ يُرادَ بِهِ الإحْياءُ في القَبْرِ لا يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ يَحْيا لِلْمَسْألَةِ في القَبْرِ، ولا لِأنْ يُنَعَّمَ فِيهِ، أوْ يُعَذَّبَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَهُ؛ لِأنَّ المُعْتَزِلَةَ وأتْباعَهم أنْكَرُوا عَذابَ القَبْرِ، وأهْلُ السُّنَّةِ والكَرّامِيَّةُ أثْبَتُوهُ بِلا خِلافٍ بَيْنَهم، إلّا أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: يَحْيا المَيِّتُ الكافِرُ فَيُعَذَّبُ في قَبْرِهِ، والفاسِقُ يَجُوزُ أنْ يُعَذَّبَ في قَبْرِهِ، والكَرّامِيَّةُ تَقُولُ: يُعَذَّبُ وهو مَيِّتٌ. والأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَدِ اسْتَفاضَتْ بِعَذابِ القَبْرِ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِهِ واعْتِقادُهُ. واخْتارَ صاحِبُ المُنْتَخَبِ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: (أمْواتًا) أيْ تُرابًا ونُطَفًا؛ لِأنَّ ابْتِداءَ خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرابِ، وخُلِقَ سائِرُ المُكَلَّفِينَ مِن أوْلادِهِ، إلّا عِيسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، مِنَ النُّطَفِ. قالَ: واخْتَلَفُوا، فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّ إطْلاقَ اسْمِ المَيِّتِ عَلى الجَمادِ مَجازٌ؛ لِأنَّ المَيِّتَ مَن يَحُلُّهُ المَوْتُ، ولا بُدَّ أنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَن يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَيًّا في العادَةِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ حَقِيقَةٌ في الجَمادِ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتادَةَ. انْتَهى كَلامُهُ. وتَفْسِيرُهُ الأمْواتَ بِالتُّرابِ والنُّطَفِ لا يَظْهَرُ ذَلِكَ في التُّرابِ؛ لِأنَّ المَخْلُوقَ مِنَ التُّرابِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَةِ الَّتِي أُنْكِرَتْ، أوْ تُعُجِّبَ مِنها وقْتًا قَطُّ، فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ في قَوْلِهِ: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا﴾ ؟ والَّذِي نَخْتارُهُ أنَّ كَوْنَهم أمْواتًا هو مِن وقْتِ اسْتِقْرارِهِمْ نُطَفًا في الأرْحامِ إلى تَمامِ الأطْوارِ بَعْدَها، وأنَّ الحَياةَ الأُولى نَفْخُ الرُّوحِ بَعْدَ تِلْكَ الأطْوارِ مِنَ النُّطْفَةِ والعَلَقَةِ والمُضْغَةِ واكْتِساءِ العِظامِ لَحْمًا، والإماتَةُ الثّانِيَةُ هي المَعْهُودَةُ، والإحْياءُ هو البَعْثُ بَعْدَ المَوْتِ. ويَكُونُ الإحْياءُ الأوَّلُ والمَوْتُ الأوَّلُ، والإحْياءُ الثّانِي حَقِيقَةً، وأمّا كَوْنُهم أمْواتًا، فَمَن ذَهَبَ إلى أنَّ الجَمادَ يُوصَفُ بِالمَوْتِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إذْ ذاكَ حَقِيقَةً، ومَن ذَهَبَ إلى المَجازِ فَهو مَجازٌ سائِغٌ قَرِيبٌ؛ لِأنَّهُ عَلى كُلِّ حالٍ مَوْجُودٌ، فَقَرُبَ اتِّصافُهُ بِالمَوْتِ، بِخِلافِ مَن زَعَمَ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ مَعْدُومًا وكَوْنُهُ في الصُّلْبِ. أوْ حِينَ كانَ آدَمُ طِينًا، فَإنَّ المَجازَ في ذَلِكَ بَعِيدٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ عَدَمٌ صِرْفٌ، والعَدَمُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ يَبْعُدُ فِيهِ أنْ يُسَمّى مَوْتًا، ألا تَرى ما أطْلَقَ عَلَيْهِ في اللَّفْظِ لَفْظُ المَوْتِ مِمّا لا تَحُلُّهُ الحَياةُ كَيْفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لا عَدَمًا صِرْفًا ؟ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ﴾ [يس: ٣٣]، ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ [الحج: ٥]، ﴿إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى﴾ [فصلت: ٣٩]، ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وتَقُولُ العَرَبُ: أرْضٌ مَواتٌ. وأمّا قَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: هو الخُمُولُ، والإحْياءَ الأوَّلَ: هو التَّنْوِيهُ والذِّكْرُ، فَمَجازٌ بَعِيدٌ هُنا؛ لِأنَّهُ مَتى أمْكَنَ الحَمْلُ عَلى الحَقِيقَةِ أوِ المَجازِ القَرِيبِ كانَ أوْلى. (p-١٣٢)وقَدْ أمْكَنَ ذَلِكَ بِما ذَكَرْناهُ، ثُمَّ أكْثَرُ تِلْكَ الأقاوِيلِ يَبْعُدُ فِيها التَّعْقِيبُ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: (فَأحْياكم) لِأنَّ بَيْنَ ذاكَ المَوْتِ والإحْياءِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وعَلى ما اخْتَرْناهُ تَكُونُ الفاءُ دالَّةً عَلى مَعْناها مِنَ التَّعْقِيبِ، ومَن قالَ: إنَّ المَوْتَ الأوَّلَ: هو المَعْهُودُ، والإحْياءَ الأوَّلَ هو لِلْمَسْألَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الماضِي قَدْ وُضِعَ مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ مَجازًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أيْ وتَكُونُونَ أمْواتًا فَيُحْيِيكم، كَقَوْلِهِ: ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ﴾ [النحل: ١] . وقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ قَوْمٌ عَلى نَفْيِ عَذابِ القَبْرِ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ تَعالى مَوْتَتَيْنِ وحَياتَيْنِ، ولَمْ يَذْكُرْ حَياةً بَيْنَ إحْيائِهِمْ في الدُّنْيا وإحْيائِهِمْ في الآخِرَةِ. قالُوا: ولا يَجُوزُ أنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] لِأنَّهُ مِن كَلامِ الكُفّارِ، ولِأنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ أثْبَتُوا حَياةَ الذَّرِّ في صُلْبِ آدَمَ. والجَوابُ: أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ ذِكْرِ هَذِهِ الحَياةِ لِلْمَسْألَةِ عَدَمُها قَبْلُ وأيْضًا، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُحْيِيكم) هو لِلْمَسْألَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ: ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَعَطَفَ بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّراخِيَ في الزَّمانِ. والرُّجُوعُ إلى اللَّهِ تَعالى حاصِلٌ عَقِبَ الحَياةِ الَّتِي لِلْبَعْثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تِلْكَ الحَياةَ المَذْكُورَةَ هي لِلْمَسْألَةِ. قالَ الحَسَنُ: ذِكْرُ المَوْتِ مَرَّتَيْنِ هُنا لِأكْثَرِ النّاسِ، وأمّا بَعْضُهم فَقَدْ أماتَهم ثَلاثَ مَرّاتٍ، ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] ﴿فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ [البقرة: ٢٦٠]، الآياتِ. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى اخْتِصاصِهِ تَعالى بِذَلِكَ، ودَلِيلٌ عَلى النَّشْرِ والحَشْرِ. والظّاهِرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أنَّ الهاءَ عائِدَةٌ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى؛ لِأنَّ الضَّمائِرَ السّابِقَةَ عائِدَةٌ عَلَيْهِ تَعالى، ويَكُونُ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ إلى جَزائِهِ مِن ثَوابٍ أوْ عِقابٍ. وقِيلَ: عائِدَةٌ عَلى الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ. وقِيلَ: عائِدَةٌ عَلى المَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَلّى اللَّهُ الحُكْمَ بَيْنَكم فِيهِ. وقِيلَ: عائِدَةٌ عَلى الإحْياءِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَأحْياكم) وشَرْحُ هَذا أنَّكم تَرْجِعُونَ بَعْدَ الحَياةِ الثّانِيَةِ إلى الحالِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْها في ابْتِداءِ الحَياةِ الأُولى، مِن كَوْنِكم لا تَمْلِكُونَ لِأنْفُسِكم شَيْئًا. واسْتَدَلَّتِ المُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، عَلى أنَّهُ تَعالى في مَكانٍ، ولا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُرْجَعُونَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِن رَجَعَ المُتَعَدِّي. وقَرَأ مُجاهِدٌ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، والفَيّاضُ بْنُ غَزْوانَ، وسَلّامٌ، ويَعْقُوبُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، حَيْثُ وقَعَ في القُرْآنِ مِن (رَجَعَ) اللّازِمِ؛ لِأنَّ (رَجَعَ) يَكُونُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا. وقِراءَةُ الجُمْهُورِ أفْصَحُ؛ لِأنَّ الإسْنادَ في الأفْعالِ السّابِقَةِ هو إلى اللَّهِ تَعالى، ﴿فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾، فَكانَ سِياقُ هَذا الإسْنادِ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ في الرُّجُوعِ مُسْنَدًا إلَيْهِ، لَكِنَّهُ كانَ يُفَوِّتُ تَناسُبَ الفَواصِلِ والمَقاطِعِ، إذْ كانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ: ﴿ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٠]، فَحُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتّى لا يَفُوتَ التَّناسُبُ اللَّفْظِيُّ. وقَدْ حَصَلَ التَّناسُبُ المَعْنَوِيُّ بِحَذْفِ الفاعِلِ، إذْ هو قَبْلَ البِناءِ لِلْمَفْعُولِ مَبْنِيٌّ لِلْفاعِلِ. وأمّا قِراءَةُ مُجاهِدٍ، ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، فَإنَّهُ يَفُوتُ التَّناسُبُ المَعْنَوِيُّ؛ إذْ لا يَلْزَمُ مِن رُجُوعِ الشَّخْصِ إلى شَيْءٍ أنَّ غَيْرَهُ رَجَعَهُ إلَيْهِ، إذْ قَدْ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ رادٍّ. والمَقْصُودُ هُنا إظْهارُ القُدْرَةِ والتَّصَرُّفِ التّامِّ بِنِسْبَةِ الإحْياءِ والإماتَةِ والإحْياءِ والرُّجُوعِ إلَيْهِ تَعالى، وإنْ كُنّا نَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى هو فاعِلُ الأشْياءِ جَمِيعِها. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ مِنَ التَّرْهِيبِ والتَّرْغِيبِ ما يَزِيدُ المُسِيءَ خَشْيَةً، ويَرُدُّهُ عَنْ بَعْضِ ما يَرْتَكِبُهُ، ويَزِيدُ المُحْسِنَ رَغْبَةً في الخَيْرِ، ويَدْعُوهُ رَجاؤُهُ إلى الِازْدِيادِ مِنَ الإحْسانِ، وفِيها رَدٌّ عَلى الدَّهْرِيَّةِ والمُعَطِّلَةِ ومُنْكِرِي البَعْثِ، إذْ هو بِيَدِهِ الإحْياءُ والإماتَةُ والبَعْثُ، وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب