الباحث القرآني

ولَمّا دَعا سُبْحانَهُ إلى التَّوْحِيدِ ودَلَّ عَلَيْهِ وأنْذَرَ مَن أعْرَضَ وبَشَّرَ مَن أقْبَلَ وذَكَرَ حالَ الفَرِيقَيْنِ في قَبُولِ الأدِلَّةِ الَّتِي زُبْدَتُها الأمْثالُ وإبائِها التَفَتَ إلى تَبْكِيتِ المُدَبِّرِ لَعَلَّهُ يَسْتَبْصِرُ، واسْتَمَرَّ سُبْحانَهُ في دَلائِلِ التَّوْحِيدِ حَتّى قامَتْ قِيامَ الأعْلامِ ونَفَذَتْ نُفُوذَ السِّهامِ حَتّى تَخَلَّلَتْ صَمِيمَ العِظامِ لَقَدْ ظَهَرَتْ فَلا تَخْفى عَلى أحَدٍ إلّا عَلى أكْمَهَ لا يُبْصِرُ القَمَرَ في أُسْلُوبٍ مُشِيرًا إلى البَعْثِ مُنَبِّهٍ عَلى التَّخَلُّصِ مِنَ الخَسارَةِ، وما أبْدَعَ افْتِتاحَ ذَلِكَ عَقِبَ ”الخاسِرِينَ“ بِقَوْلِهِ عَلى طَرِيقِ التِفاتِ المُغْضَبِ المُسْتَعْطِفِ المُعْجَبِ ! ﴿كَيْفَ﴾ (p-٢١٣)وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا تَقَدَّمَتِ الدَّعْوَةُ لِلنّاسِ فَأجابَ مُبادِرٌ وتَوَقَّفَ مُتَوَقِّفٌ فَضُرِبَتِ الأمْثالُ فاسْتَدْرَكَ وآمَنَ وتَمادى مُتَمادٍ عَلى كُفْرِهِ صَرَفَ وجْهَ الخِطابِ عَنِ المُواجَهَةِ مِنَ الحَقِّ تَعالى وأجْرى عَلى لِسانِ لُؤْمٍ وإنْكارٍ، فَجاءَ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِإيضاحِ انْقِطاعِ العُذْرِ في التَّمادِي عَلى الكُفْرِ، وجاءَ بِلَفْظِ كَيْفَ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ عَلى الكَيْفِيّاتِ المَحْسُوسَةِ فَإنَّ كَيْفَ كَلِمَةٌ مَدْلُولُها اسْتِفْهامٌ عَنْ عُمُومِ الأحْوالِ الَّتِي شَأْنُها أنْ تُدْرَكَ بِالحَواسِّ، فَكَأنَّهُ يُقالُ لَهم بِمُدْرِكٍ: أيُّ حاسَّةٍ تَمادَيْتُمْ عَلى الكُفْرِ بِاللَّهِ ؟ عَلى ما تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الفِعْلِ الدّائِمِ في ﴿تَكْفُرُونَ﴾ انْتَهى. وقالَ: ”بِاللَّهِ“ أيْ مَعَ ظُهُورِ عَظَمَتِهِ وعُلُوِّهِ، والإنْكارُ المُوجِبُ لِنَفْيِ المُنْكَرِ، كَما في قَوْلِكَ: أتَطِيرُ بِغَيْرِ جَناحٍ، يُفِيدُ أنَّهُ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الكُفْرُ في حَيِّزِ المُمْتَنِعِ لِما عَلى بُطْلانِهِ وصِحَّةِ التَّوْحِيدِ مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي تَفُوتُ الحَصْرَ، وإنْكارُ حالِهِ إنْكارٌ لِوُجُودِهِ عَلى طَرِيقِ البُرْهانِ، لِأنَّهُ إذا امْتَنَعَ أنْ يُوجَدَ في حالٍ (p-٢١٤)مِنَ الأحْوالِ امْتَنَعَ وُجُودُهُ مُطْلَقًا. قالَ الحَرالِّيُّ: وأعْلى هَذا الخِطابَ فَأبْعَدُوا عَنْ تَيْسِيرِهِ بِذِكْرِ اسْمِ ”اللَّهِ“ لَمّا لَمْ يَكُونُوا مِن أهْلِ قَبُولِ التَّنَزُّلِ بِدَعْوى اسْمِ الرُّبُوبِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ أجابَ مُبادِرًا ولا تالِيًا حَسْبَما تُشْعِرُ بِهِ آيَةُ تَحْقِيقِ ضَرْبِ الأمْثالِ. ولَمّا جَرى هَذا الخِطابُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أعْقَبَ بِذِكْرِ الأفْعالِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي هي غاياتٌ مِنَ المَوْتِ والإحْياءِ المَعْرُوفِ اللَّذَيْنِ لا يُنْكِرُ الكُفّارُ أمْرَهُما. انْتَهى. ﴿وكُنْتُمْ﴾ أيْ والحالُ أنَّكم تَعْلَمُونَ أنَّكم كُنْتُمْ ﴿أمْواتًا﴾ بَلْ مَواتًا تُرابًا ثُمَّ نُطَفًا. قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ المَوْتِ وهو حالُ خَفاءٍ وغَيْبٍ يُضافُ إلى ظاهِرِ عالَمٍ يَتَأخَّرُ عَنْهُ أوْ يَتَقَدَّمُهُ تَفَقُّدٌ فِيهِ خَواصُّ ذَلِكَ الظُّهُورِ الظّاهِرَةِ. انْتَهى. وإطْلاقُ المَوْتِ عَلى ما لَمْ تَحُلَّهُ حَياةٌ مَجازٌ، وسِرُّ التَّعْبِيرِ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ أكْثَرُ ما تَكُونُ الإعادَةُ الَّتِي يُنْكِرُونَها مِثْلَ الِابْتِداءِ، فَلا وجْهَ أصْلًا لِإنْكارِها مَعَ الِاعْتِرافِ بِالِابْتِداءِ. فَكَيْفَ والإعادَةُ دُونَهُ ﴿فَأحْياكُمْ﴾ فَصِرْتُمْ ذَوِي حِسٍّ وبَطْشٍ وعَقْلٍ. قالَ (p-٢١٥)الحَرالِّيُّ: وجاءَ بِالفاءِ المُشْعِرَةِ بِالتَّعْقِيبِ لَمّا لَمْ يَكُنْ لَهم مَعْرِفَةٌ بِمَهْلِ المَوْتِ الَّذِي قَبْلَ حَياةِ الوِلادَةِ، والحَياةُ تَكامُلٌ في ذاتٍ ما أدْناهُ حَياةُ النَّباتِ بِالنُّمُوِّ والِاهْتِزازِ مَعَ انْغِراسِهِ إلى حَياةِ ما يَدِبُّ بِحَرَكَتِهِ وحِسِّهِ إلى غايَةِ حَياةِ الإنْسانِ في تَصَرُّفِهِ وتَصْرِيفِهِ إلى ما وراءَ ذَلِكَ مِنَ التَّكامُلِ. انْتَهى. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بَعْدَ مَدِّ الأعْمارِ والتَّقْلِيبِ في الأطْوارِ فَإذا أنْتُمْ أجْسادٌ كالفَخّارِ كَأنَّهُ لَمْ تَحِلَّ بِها حَياةٌ ساعَةً قَطُّ، وبُدِّلْتُمْ بَعْدَ الأُنْسِ بِكُمُ الوَحْشَةَ، وإثْرَ مَحَبَّةِ القُرْبِ مِنكُمُ النَّفْرَةَ؛ وتَمْثِيلُ المَوْتِ بِما نَعْهَدُهُ أنَّ طَلَبَ المَلِكِ كَما أنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الرَّوْعِ ما يَكادُ يُتْلِفُ ورُبَّما أتْلَفَ كانَ طَلَبُ مَلِكِ المُلُوكِ مُوجِبًا لِلْمَوْتِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهَذِهِ الأحْوالُ الثَّلاثَةُ أيِ المَوْتُ المُعَبَّرُ بِهِ عَنِ العَدَمِ ثُمَّ الحَياةُ ثُمَّ المَوْتُ مَعْرُوفَةٌ لَهم لا يُمْكِنُهم إنْكارُها، وإذا صَحَّ مِنهُمُ الإقْرارُ بِحَياةِ مَوْتٍ لَزِمَهُمُ الإقْرارُ بِحَياةِ مَوْتٍ آخَرَ لِوُجُوبِ الحُكْمِ بِصِحَّةِ وُجُودِ ما قَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ (p-٢١٦)بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [يس: ٨١] ولَدُنْ ذَلِكَ مِنَ العِلْمِ أنَّ المَوْتَ والحَياةَ مُزْدَوِجانِ مُتَضايِفانِ، وإذا اسْتَوْفى المَوْتَ الأوَّلَ إحْياؤُهُ فَلا بُدَّ مِنِ اسْتِيفاءِ المَوْتِ الثّانِي إحْياؤُهُ أيْضًا، لِأنَّهُ لَوْلا اسْتِقْبالُ الحَياةِ لَما كانَ مَوْتًا بَلْ بَطْلًا وفَقْدًا واضْمِحْلالًا، لِأنَّ حَقِيقَةَ المَوْتِ حالُ غَيْبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ظُهُورٌ، والحَياةُ نِهايَةٌ ثابِتَةٌ، والمَوْتُ مَبْدَأُ غَيْبٍ زائِلٍ، فَجِنْسُ المَوْتِ كُلِّهِ مُتَقَضٍّ ونِهايَةٌ، والحَياةُ ثابِتَةٌ دائِمَةٌ؛ ولِذَلِكَ ورَدَ ما صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في أنَّ المَوْتَ يُذْبَحُ، إعْلامٌ بِانْقِضاءِ جِنْسِهِ وثَباتِ الحَياةِ، ولِذَلِكَ قُدِّمَ في الذِّكْرِ وأُعْقِبَ بِالحَياةِ حَيْثُ اسْتَغْرَقَتْهُما كَلِمَةُ ”ألْ“ في (p-٢١٧)قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ٢] وثَبَتَ الخِطابُ عَلى إقْرارِ الحَياةِ والكَمالِ، كَما ورَدَ عَنْهُ ﷺ في قَوْلِهِ: «نَعِيمُ الجَنَّةِ لا آخِرَ لَهُ»، فَوَجَبَ بِظاهِرِ ما أحَسَّهُ الكُفّارُ وباطِنِ ما اقْتَضاهُ هَذا النَّحْوُ مِنَ العِلْمِ دُونَهُ انْتِشارُ حَياةٍ ثانِيَةٍ بَعْدَ مِيتَةِ الدُّنْيا. انْتَهى. ولَمّا كانَ عَلى البَعْثِ والحَشْرِ مِنَ الأدِلَّةِ ما جَعَلَهُما كالمَحْسُوسَيْنِ عَدَّهُما في حَيِّزِ المَعْلُومِ لَهم كالإحْياءِ الأوَّلِ والمَوْتِ فَقالَ: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ فَيَنْشُرُكم بَعْدَ طَيِّكم ويَبْعَثُكم بَعْدَ حَبْسِكم في البَرْزَخِ، فَتَكُونُونَ كَما كُنْتُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ ذَوِي قُدْرَةٍ عَلى الِانْتِشارِ بِتِلْكَ القُدْرَةِ الَّتِي ابْتَدَأكم بِها وأماتَكم، (p-٢١٨)وهَذا لا يَنْفِي أنْ يَكُونَ لَهم في البَرْزَخِ إحْساسٌ بِدُونِ هَذِهِ الهَيْئَةِ الكامِلَةِ، ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فَيَحْشُرُكم بَعْدَ طُولِ الوُقُوفِ لِلْجَزاءِ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ؛ وفي هَذا كَما قالَ الحَرالِّيُّ: إعْلامٌ بِأنَّهم إنْ لَمْ يَرْجِعُوا إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ بِداعِي العِلْمِ في الدُّنْيا فَبَعْدَ مَهْلٍ مِنَ الإحْياءِ الثّانِي يَرْجِعُونَ إلَيْهِ قَهْرًا حَيْثُ يُشاهِدُونَ انْقِطاعَ أسْبابِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّقُوا بِهِ ويَتَبَرَّأُ مِنهم ما عَبَدُوهُ مِن دُونِ اللَّهِ، وإنَّما جاءَ هَذا المَهْلُ بَعْدَ البَعْثِ لِما يَبْقى لَهم مِنَ الطَّمَعِ في شُرَكائِهِمْ حَيْثُ يَدْعُونَهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم، فَحِينَئِذٍ يَضْطَرُّهُمُ انْقِطاعُ أسْبابِهِمْ إلى الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ فَيَرْجِعُونَ قَسْرًا وسَوْقًا فَحِينَئِذٍ يَجْزِيهِمْ بِما كَسَبُوا في دُنْياهم، كَما قالَ تَعالى في خِطابٍ يَعُمُّ كافَّةَ أهْلِ الجَزاءِ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] وهَذا آخِرُ خِطابِ الإقْبالِ عَلَيْهِمْ مِن دَعْوَةِ اللَّهِ لَهم ولِسانِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ، ولِذَلِكَ كانَتْ آيَةُ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] آخِرَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ في القُرْآنِ، لِأنَّها نِهايَةٌ لَيْسَ وراءَهُ قَوْلٌ يَعُمُّ أهْلَ الجَزاءِ؛ والرَّجْعُ عَوْدُ (p-٢١٩)الشَّيْءِ عِنْدَ انْتِهاءِ غايَتِهِ إلى مَبْدَئِها. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب