الباحث القرآني

﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ اسْتِخْبارٌ فِيهِ إنْكارٌ، وتَعْجِيبٌ لِكُفْرِهِمْ بِإنْكارِ الحالِ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْها عَلى الطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ، فَإنَّ صُدُورَهُ لا يَنْفِكُّ عَنْ حالٍ وصِفَةٍ فَإذا أنْكَرَ أنْ يَكُونَ لِكُفْرِهِمْ حالٌ يُوجَدُ عَلَيْها اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ إنْكارُ وجُودِهِ، فَهو أبْلَغُ وأقْوى في إنْكارِ الكُفْرِ، مِن (أتَكْفُرُونَ) وأوْفَقُ لِما بَعْدَهُ مِنَ الحالِ، والخِطابُ مَعَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمّا وصَفَهم بِالكُفْرِ وسُوءِ المَقالِ وخُبْثِ الفِعالِ، خاطَبَهم عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ، ووَبَّخَهم عَلى كُفْرِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِحالِهِمُ المُقْتَضِيَةِ خِلافَ ذَلِكَ، والمَعْنى أخْبَرُونِي عَلى أيِّ حالٍ تَكْفُرُونَ. ﴿وَكُنْتُمْ أمْواتًا﴾ أيْ أجْسامًا لا حَياةَ لَها، عَناصِرَ وأغْذِيَةً، وأخْلاطًا ونُطَفًا، ومُضَغًا مُخَلَّقَةً وغَيْرَ مُخَلَّقَةٍ. ﴿فَأحْياكُمْ﴾ بِخَلْقِ الأرْواحِ ونَفْخِها فِيكُمْ، وإنَّما عَطَفَهُ بِالفاءِ لِأنَّهُ مُتَّصِلٌ بِما عُطِفَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَراخٍ عَنْهُ بِخِلافِ البَواقِي. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عِنْدَما تُقْضى آجالُكم. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بِالنُّشُورِ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ أوْ لِلسُّؤالِ في القُبُورِ ﴿ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بَعْدَ الحَشْرِ فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم. أوْ تُنْشَرُونَ إلَيْهِ مِن قُبُورِكم لِلْحِسابِ، فَما أعْجَبَ كُفْرَكم مَعَ عِلْمِكم بِحالِكم هَذِهِ. فَإنْ قِيلَ: إنْ عَلِمُوا أنَّهم كانُوا أمْواتًا فَأحْياهم ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، لَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ يُحْيِيهِمْ ثُمَّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ. قُلْتُ: تَمَكُّنُهم مِنَ العِلْمِ بِهِما لِما نَصَبَ لَهم مِنَ الدَّلائِلِ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ عِلْمِهِمْ في إزاحَةِ العُذْرِ، سِيَّما وفي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى ما يَدُلُّ عَلى صِحَّتِهِما وهُوَ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قَدَرَ عَلى إحْيائِهِمْ أوَّلًا قَدَرَ عَلى أنْ يُحْيِيَهم ثانِيًا، فَإنَّ بَدْءَ الخَلْقِ لَيْسَ بِأهْوَنَ عَلَيْهِ مِن إعادَتِهِ. أوِ الخِطابُ مَعَ القَبِيلَيْنِ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا بَيَّنَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، ووَعَدَهم عَلى الإيمانِ، وأوْعَدَهم عَلى الكُفْرِ، أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ العامَّةَ والخاصَّةَ، واسْتَقْبَحَ صُدُورَ الكُفْرِ مِنهم واسْتَبْعَدَهُ عَنْهم مَعَ تِلْكَ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، فَإنَّ عِظَمِ النِّعَمِ يُوجِبُ عِظَمِ مَعْصِيَةِ المُنْعِمِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ تُعَدُّ الإماتَةُ مِنَ النِّعَمِ المُقْتَضِيَةِ لِلشُّكْرِ؟ قُلْتُ: لَمّا كانَتْ وصْلَةً إلى الحَياةِ الثّانِيَةِ الَّتِي هي الحَياةُ الحَقِيقِيَّةُ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ﴾، كانَتْ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ (p-66)مَعَ أنَّ المَعْدُودَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ هو المَعْنى المُنْتَزَعُ مِنَ القِصَّةِ بِأسْرِها، كَما أنَّ الواقِعَ حالًا هو العِلْمُ بِها لا كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الجُمَلِ، فَإنَّ بَعْضَها ماضٍ وبَعْضَها مُسْتَقْبَلٌ وكِلاهُما لا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ حالًا. أوْ مَعَ المُؤْمِنِينَ خاصَّةً لِتَقْرِيرِ المِنَّةِ عَلَيْهِمْ، وتَبْعِيدِ الكُفْرِ عَنْهم عَلى مَعْنًى، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنكُمُ الكُفْرَ وكُنْتُمْ أمْواتًا جُهّالًا، فَأحْياكم بِما أفادَكم مِنَ العِلْمِ والإيمانِ، ثُمَّ يُمِيتُكُمُ المَوْتَ المَعْرُوفَ، ثُمَّ يُحْيِيكُمُ الحَياةَ الحَقِيقِيَّةَ، ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَيُثِيبُكم بِما لا عَيْنَ رَأتْ، ولا أُذُنَ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. والحَياةُ حَقِيقَةٌ في القُوَّةِ الحَسّاسَةِ، أوْ ما يَقْتَضِيها وبِها سُمِّي الحَيَوانُ حَيَوانًا مَجازًا في القُوَّةِ النّامِيَةِ، لِأنَّها مِن طَلائِعِها ومُقَدِّماتِها، وفِيما يَخُصُّ الإنْسانَ مِنَ الفَضائِلِ، كالعَقْلِ والعِلْمِ والإيمانِ مِن حَيْثُ إنَّها كَمالُها وغايَتُها، والمَوْتُ بِإزائِها يُقالُ عَلى ما يُقابِلُها في كُلِّ مَرْتَبَةٍ قالَ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ . وقالَ: ﴿اعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ وقالَ: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ﴾ وإذا وُصِفَ بِهِ البارِي تَعالى أُرِيدَ بِها صِحَّةَ اتِّصافِهِ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ اللّازِمَةِ لِهَذِهِ القُوَّةِ فِينا، أوْ مَعْنًى قائِمٌ بِذاتِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلى الِاسْتِعارَةِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ « تَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ التّاءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب