الباحث القرآني

﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾: رُوِيَ أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى طَلَبُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الهُدْنَةَ، ووَعَدُوهُ أنْ يَتَّبِعُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ خِداعًا مِنهم، فَأطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى سِرِّ خِداعِهِمْ، فَنَزَلَتْ، نَفى اللَّهُ رِضاهم عَنْهُ إلّا بِمُتابَعَةِ دِينِهِمْ، وذَلِكَ بَيانُ أنَّهم أصْحابُ الجَحِيمِ الَّذِينَ هم أصْحابُها، لا يُطْمَعُ في إسْلامِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَنْ تَرْضى﴾ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلَّقَ رِضاهم عَنْهُ بِأمْرٍ مُسْتَحِيلِ الوُقُوعِ مِنهُ ﷺ وهو اتِّباعُ مِلَّتِهِمْ. والمُعَلَّقُ بِالمُسْتَحِيلِ مُسْتَحِيلٌ، سَواءٌ فَسَّرْنا المِلَّةَ بِالشَّرِيعَةِ، أوْ فَسَّرْناها بِالقِبْلَةِ، أوْ فَسَّرْناها بِالقُرْآنِ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لَهُ، وهو تَأْدِيبٌ لِأُمَّتِهِ، فَإنَّهم يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وإنَّما ذَلِكَ لِيَتَأدَّبَ بِهِ المُؤْمِنُونَ، فَلا يُوالُونَ الكافِرِينَ، فَإنَّهم لا يُرْضِيهِمْ مِنهم إلّا اتِّباعُ دِينِهِمْ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لَهُ، والمُرادُ أُمَّتُهُ؛ لِأنَّ المُخاطَبَ لا يُمْكِنُ ما خُوطِبَ بِهِ أنْ يَقَعَ مِنهُ، فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلى مَن يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، ويَكُونُ تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ عَلى أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى يُخادِعُونَكم بِما يُظْهِرُونَ مِنَ المَيْلِ وطَلَبِ المُهادَنَةِ والوَعْدِ بِالمُوافَقَةِ، ولا يَقَعُ رِضاهم إلّا بِاتِّباعِ مِلَّتِهِمْ. ووُحِّدَتِ المِلَّةُ، وإنْ كانَ لَهم مِلَّتانِ، لِأنَّهُما يَجْمَعُهُما الكُفْرُ، فَهي واحِدَةٌ بِهَذا الِاعْتِبارِ، أوْ لِلْإيجازِ فَيَكُونُ مِن بابِ الجَمْعِ في الضَّمِيرِ، نَظِيرُ: ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١٣٥]؛ لِأنَّ المَعْلُومَ أنَّ النَّصارى لَنْ تَرْضى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم، واليَهُودَ لَنْ تَرْضى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهم. وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الكُفْرِ، أهُوَ مِلَّةٌ واحِدَةٌ أوْ مِلَلٌ ؟ وثَمَرَةُ الخِلافِ تَظْهَرُ في الِارْتِدادِ مِن مِلَّةٍ إلى مِلَّةٍ، وفي المِيراثِ، وذَلِكَ مَذْكُورٌ في الفِقْهِ. ﴿قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ هو الهُدى﴾: أمَرَهُ أنْ يُخاطِبَهم بِأنَّ هُدى اللَّهِ، أيِ الَّذِي هو مُضافٌ إلى اللَّهِ، وهو الإسْلامُ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ هو الهُدى أيِ النّافِعُ التّامُّ الَّذِي لا هُدى وراءَهُ، وما أُمِرْتُمْ بِاتِّباعِهِ هو هَوًى لا هُدًى، ﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠] . وأكَّدَ الجُمْلَةَ بِأنْ وبِالفَصْلِ الَّذِي قَبْلُ، فَدَلَّ عَلى الِاخْتِصاصِ والحَصْرِ، وجاءَ الهُدى مُعَرَّفًا بِالألِفِ واللّامِ، وهو مِمّا قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الحَصْرِ، فَإذا قُلْتَ: زَيْدٌ العالِمُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: هو المَخْصُوصُ بِالعِلْمِ والمَحْصُورُ فِيهِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ ما هم عَلَيْهِ إنَّما هي أهْواءٌ وضَلالاتٌ ناشِئَةٌ عَنْ شَهَواتِهِمْ ومُيُولِهِمْ (p-٣٦٩)فَقالَ: ﴿ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾: وهو خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلى الأقْوالِ الَّتِي في قَوْلِهِ: ﴿ولَنْ تَرْضى﴾ . واللّامُ في لَئِنْ تُسَمّى المُوطِئَةَ والمُؤْذِنَةَ، وهي تُشْعِرُ بِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَها، ولِذَلِكَ يُبْنى ما بَعْدَ الشَّرْطِ عَلى القَسَمِ لا عَلى الشَّرْطِ، إذْ لَوْ بُنِيَ عَلى الشَّرْطِ لَدَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿ما لَكَ﴾ . والأهْواءُ: جَمْعُ هَوًى، وكانَ الجَمْعُ دَلِيلًا عَلى كَثْرَةِ اخْتِلافِهِمْ، إذْ لَوْ كانُوا عَلى حَقٍّ لَكانَ طَرِيقًا واحِدًا، ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] . وأضافَ الأهْواءَ إلَيْهِمْ لِأنَّها بِدَعُهم وضَلالاتُهم، ولِذَلِكَ سُمِّيَ أصْحابُ البِدَعِ أرْبابَ الأهْواءِ. ﴿بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ﴾: أيْ مِنَ الدِّينِ، وجَعَلَهُ عِلْمًا؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ بِالبَراهِينِ الصَّحِيحَةِ، وتَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أُمُورٍ مِنها: أنَّ مَن عَلِمَ اللَّهُ مِنهُ أنَّهُ لا يَفْعَلُ الشَّيْءَ، يَجُوزُ أنْ يُخاطَبَ بِالوَعِيدِ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ الصّارِفُ لَهُ ذَلِكَ الوَعِيدَ، أوْ يَكُونَ ذَلِكَ الوَعِيدُ أحَدَ الصَّوارِفِ، ونَظِيرُهُ: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] . ومِنها أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الوَعِيدُ إلّا بَعْدَ المَعْذِرَةِ أوَّلًا، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ. ومِنها: أنَّ اتِّباعَ الهَوى باطِلٌ، فَيَدُلُّ عَلى بُطْلانِ التَّقْلِيدِ. وقَدْ فُسِّرَ العِلْمُ هُنا بِالقُرْآنِ، وبِالعِلْمِ بِضَلالِ القَوْمِ، وبِالبَيانِ بِأنَّ دِينَ اللَّهِ هو الإسْلامُ، وبِالتَّحَوُّلِ إلى الكَعْبَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وفي قَوْلِهِ: ﴿ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ قَطْعٌ لِأطْماعِهِمْ أنْ تَتِّبَعَ أهْواءَهم؛ لِأنَّ مَن عَلِمَ أنَّهُ لا ولِيَّ لَهُ ولا نَصِيرَ يَنْفَعُهُ إذا ارْتَكَبَ شَيْئًا كانَ أبْعَدَ في أنْ لا يَرْتَكِبَهُ، وذَلِكَ إياسٌ لَهم في أنْ يَتَّبِعَ أهْواءَهم أحَدٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في الوَلِيِّ والنَّصِيرِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب