الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾: بَيانٌ لِكَمالِ شِدَّةِ شَكِيمَةِ هاتَيْنِ الطّائِفَتَيْنِ خاصَّةً؛ إثْرَ بَيانِ ما يَعُمُّهُما؛ والمُشْرِكِينَ؛ مِنَ الإصْرارِ عَلى ما هم عَلَيْهِ إلى المَوْتِ. وإيرادُ "لا" (p-153)النّافِيَةِ بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ؛ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ؛ لِما مَرَّ مِن أنَّ تَصَلُّبَ اليَهُودِ في أمْثالِ هَذِهِ العَظائِمِ أشَدُّ مِنَ النَّصارى؛ والإشْعارِ بِأنَّ رِضا كُلٍّ مِنهُما مُبايِنٌ لِرِضا الأُخْرى؛ أيْ: لَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ؛ ولَوْ خَلَّيْتَهم وشَأْنَهُمْ؛ حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ؛ ولا النَّصارى؛ ولَوْ تَرَكْتَهم ودِينَهُمْ؛ حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ؛ فَأُوجِزَ النَّظْمُ ثِقَةً بِظُهُورِ المُرادِ؛ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ في إقْناطِهِ ﷺ مِن إسْلامِهِمْ ما لا غايَةَ وراءَهُ؛ فَإنَّهم حَيْثُ لَمْ يَرْضَوْا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ ولَوْ خَلّاهم يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُونَ؛ بَلْ أمَلُّوا مِنهُ ﷺ ما لا يَكادُ يَدْخُلُ تَحْتَ الإمْكانِ؛ مِنَ اتِّباعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِمِلَّتِهِمْ؛ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ اتِّباعُهم لِمِلَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وهَذِهِ حالَتُهم في أنْفُسِهِمْ؛ ومَقالَتُهم فِيما بَيْنَهُمْ؟ وأمّا أنَّهم أظْهَرُوها لِلنَّبِيِّ ﷺ وشافَهُوهُ بِذَلِكَ؛ وقالُوا: لَنْ نَرْضى عَنْكَ؛ وإنْ بالَغْتَ في طَلَبِ رِضانا؛ حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَنا؛ كَما قِيلَ؛ فَلا يُساعِدُهُ النَّظْمُ الكَرِيمُ؛ بَلْ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ؛ فَإنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ هو الهُدى﴾؛ صَرِيحٌ في أنَّ ما وقَعَ هَذا جَوابًا عَنْهُ لَيْسَ عَيْنَ تِلْكَ العِبارَةِ؛ بَلْ ما يَسْتَلْزِمُ مَضْمُونَها؛ أوْ يَلْزَمُهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إلى اليَهُودِيَّةِ؛ والنَّصْرانِيَّةِ؛ وادِّعاءِ أنَّ الِاهْتِداءَ فِيهِما كَقَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ - حِكايَةً عَنْهم -: ﴿كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾؛ أيْ: قُلْ - رَدًّا عَلَيْهِمْ -: إنَّ هُدى اللَّهِ؛ الَّذِي هو الإسْلامُ؛ هو الهُدى بِالحَقِّ؛ والَّذِي يَحِقُّ ويَصِحُّ أنْ يُسَمّى هُدًى؛ وهو الهُدى كُلُّهُ؛ لَيْسَ وراءَهُ هُدًى؛ وما تَدْعُونَ إلَيْهِ لَيْسَ بِهُدًى؛ بَلْ هو هَوًى؛ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهُمْ﴾؛ أيْ: آراءَهُمُ الزّائِغَةَ؛ الصّادِرَةَ عَنْهم بِقَضِيَّةِ شَهَواتِ أنْفُسِهِمْ؛ وهي الَّتِي عُبِّرَ عَنْها فِيما قَبْلُ بِـ "مِلَّتَهُمْ"؛ إذْ هي الَّتِي يَنْتَمُونَ إلَيْها؛ وأمّا ما شَرَعَهُ اللَّهُ (تَعالى) لَهم مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وهو المَعْنى الحَقِيقِيُّ لِلْمِلَّةِ؛ فَقَدْ غَيَّرُوها تَغْيِيرًا؛ ﴿بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْمِ﴾؛ أيْ: الوَحْيِ؛ أوْ: الدِّينِ المَعْلُومِ صِحَّتُهُ؛ ﴿ما لَكَ مِنَ اللَّهِ﴾: مِن جِهَتِهِ العَزِيزَةِ؛ ﴿مِن ولِيٍّ﴾؛ يَلِي أمْرَكَ عُمُومًا؛ ﴿وَلا نَصِيرٍ﴾؛ يَدْفَعُ عَنْكَ عِقابَهُ؛ وحَيْثُ لَمْ يَسْتَلْزِمْ نَفْيُ الوَلِيِّ نَفْيَ النَّصِيرِ؛ وُسِّطَ "لا" بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ؛ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ؛ وهَذا بابُ التَّهْيِيجِ والإلْهابِ؛ وإلّا فَأنّى يُتَوَهَّمُ إمْكانُ اتِّباعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِمِلَّتِهِمْ؟ وهو جَوابٌ لِلْقَسَمِ الَّذِي وطَّأهُ اللّامُ؛ واكْتُفِيَ بِهِ عَنْ جَوابِ الشَّرْطِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب