الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ قال المفسرون: كانت اليهود والنصارى يسألون النبي ﷺ الهُدنة، وُيطمعونه، ويُرونه أنه [[ساقطة من (م).]] إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية [[ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 202، والسمرقندي في "بحر العلوم" 1/ 154، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1146، والواحدي في "أسباب النزول" ص 43، وفي "الوسيط" 1/ 200، البغوي 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 138، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 368.]]، وأخبر أنه لا يرضيهم إلا ما يستحيل وجوده، وما لا سبيل إليه؛ لأن اليهود لا ترضى عنه إلا بالتهود، والنصارى إلا بالتنصر، ويستحيل الجمع بينهما، فإذا استحال إرضاؤهم فهم لا يرضَوْنَ عنه أبدًا [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 517، "البحر المحيط" 1/ 368.]]. وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (حتى) تقع [[في (أ)، (م): يقع.]] على الأسماء وعلى الأفعال، وهي لوضعِ غاية أسمية أو فعلية. أما الأسمية: فمثل قولك: لقيتُ القوم حتى عبدَ الله، ومررت بالقومِ حتى عبدِ الله. وأمَّا الفعليةُ: فمثلُ قولك: اصبِرْ حتى أخرُجَ إليك. و (حتى) قد تقوم مقام (إلى) وتؤدي مثلَ معناها في بعض المواضع، ويفترقان في كثير منها، أما الموضع الذي يتفقان فيه، فمثلُ قولك: أقمْنا عندَه إلى الليلِ، وحتى الليل. وأما موضعُ افتراقهما، فمثل قولك: لقيتُ القوم حتى زيدًا، فإنه لا يجوز في هذا الموضع: لقيت القوم إلى زيد. وأما قولهُم: أكلت السمكةَ حتى رأسَها، ورأسُها، ورأسِها. فإذا كسرت لم يدخل الرأس في الكل، لأنَّ الأكلَ انتهى إليه، وهو بمعنى إلى. وفي النصب والرفع الرأسُ مأكولٌ؛ لأن (حتى) أتبع الرأسَ السمكة في النصب. وفي الرفع كان (حتى) بمعنى الواو، ورأسُها ابتداء، والخبر مضمرٌ فيه. وأما نصبها للفعل فقال الخليل [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 201.]] وسيبويه [["الكتاب" 3/ 7.]]: الناصبُ للفعل بعد حتى (أن)، إلا أنها لا تظهر مع حتى، والدليل على أن (حتى) غير ناصِبَة بنفسها: أنَّها خافضةٌ بالإجماع، كقوله ﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 5]، ولا يُعرَف [[في (ش): (تعرف).]] في العربية ما يعمل في اسم يعمل في فعلٍ، ولا ما يكون خافضًا لاسم يكون ناصبًا [[ينظر تفصيل حتى وأوجهها في: "مغني اللبيب" 1/ 122 - 131، ومعظم النص منقول من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 201 - 202.]]. وهكذا اللام في قولك: جاء زيد ليضربك، معناه: لأن يضربك؛ لأن اللام خافضة للاسم، فلا تكون ناصبَةً لفعل، ولا يجوز إظهار (أن) مع هذه اللام. ويجوز رفع الفعل بعد (حتى) إذا حَسُن فيه الماضي، نحو قولك: تعلمت حتى أجيب في كل شيء، وسنذكر هذا عند قوله: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: 214]، إن شاء الله. وقوله تعالى: ﴿مِلَّتَهُم﴾ قال ابن عباس: دينهم [[أخرجه الثعلبي في "تفسيره" كما في "الدر المنثور" 1/ 209.]]. وكذلك قال أهل اللغة، قالوا: وإنما سُمَيَ الدينُ ملّةً؛ لأنه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المدعوِّ إليه، وأملّ وأملَى بمعنى واحد [[زيادة من (م).]]، لكن الملة بنيت [[في (ش) كأنها: (ثنيت).]] على الأصل، وهو الثلاثي. وقيل: الملّة فِعْلةٌ من مَلَّه يمُلّه، إذا ألقاه في الرماد الحار، جُعِلَتْ اسمًا للدين؛ لما فيه من مشاق تخرج عن قضية [[في (ش): (قصة).]] الهوى ورسم النفس، ويُقْلِق ويُحرقُ [[في (ش): (تعلق وتحرق).]] [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3451، "تفسير الثعلبي" 1/ 1147، "اللسان" 7/ 4271.]]. والزجاج ذكر فيها وجهًا آخر، وهو أنه قال: الملّة بمعنى السنّة والطريقة قال: ومن هذا سُمّيت المَلَّة؛ لأنها تؤثر (في مكانها كما يؤثر) [[ساقط من (ش).]] في الطريق بالسلوك فيه [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 202 وعبارته: ومن هذه المَلَّة، أي: الموضع الذي == يختبز فيه، لأنها تؤَثر في مكانها كما يُؤثر في الطريق. ثم قال: وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض. وقد نقله في "تهذيب اللغة" 4/ 3451.]]، فجعل المَلَّة مشتقة من المِلَّة، وعنده أصلها من التأثير. وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ قال ابن عباس: يريد أن الذي أنت عليه هو دين الله الذي رضيه [[ذكره في "الوسيط" 1/ 200، وهذا لعله من رواية عطاء.]]. وقال الزجاج: أي: الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو طريق الحق [["معاني القرآن" 1/ 202.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ إنما جمعَ الهوى؛ لأنَّ جميع الفرق ممن يخالفُ النبي ﷺ لم يكن لِيُرضيَهم منه إلا اتباعُ هواهم [["معاني القرآن" 1/ 202.]]. وأراد بهذا: ما يدعونه إليه من المهادنة والإمهال. وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ دين الله هو الإسلام [["تفسير الثعلبي" 1/ 1147.]]، وقيل: من العلم أنهم على الضلالة. وروي عن ابن عباس في هذه الآية قولان: أحدهما: أنه قال: الآية نزلت في تحويل القبلة، وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يرجُون أن يرجع محمد إلى دينهم، فلمَّا صرفَ اللهُ القبلة إلى الكعبة شَقَّ ذلك عليهم، وأَيِسُوا منه أن يوافقَهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [[ذكره الثعلبي 1/ 1146 والواحدي في "أسباب النزول" ص 43، والبغوي 1/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 138، وابن حجر في "العجاب" 1/ 373، والسيوطي في "لباب النقول" ص 25، وعزاه في "الدر" 1/ 209 للثعلبي.]]. يعني: صليت نحو قبلتهم بعد الذي جاءك من العلم في التحويل إلى الكعبة. والقول الثاني: إن المراد بقوله ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أمةُ محمد ﷺ، وأما محمد فقد عصمته. وإياكم أخاطب وأنهى وأؤدب، فقد علمتم أن محمدًا قد جاءكم بالحق والصدق، فلا تتبعوا أهواء الكافرين، فلا يكونَ لكم من دوني ولي ولا نصير، فالخطاب لرسول الله ﷺ والمراد منه أمته [[ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 94.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب