﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ طُوبى لَهم وحُسْنُ مَآبٍ﴾
نَزَلَتْ: ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الرعد: ٤٣] في مُشْرِكِي مَكَّةَ، طَلَبُوا مِثْلَ آياتِ الأنْبِياءِ، والمُلْتَمِسُ ذَلِكَ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ وأصْحابُهُ، رَدَّ تَعالى عَلى مُقْتَرَحِي الآياتِ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ كَسُقُوطِ السَّماءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا. وقَوْلُهم: سَيِّرْ عَلَيْنا الأخْشَبَيْنِ، واجْعَلْ لَنا البِطاحَ مَحارِثَ ومُغْتَرَسًا (p-٣٨٩)كالأُرْدُنِّ، وأحْيِ لَنا مُضُيَّنا وأسْلافَنا، ولَمْ تَجْرِ عادَةُ اللَّهِ في الإتْيانِ بِالآياتِ المُقْتَرَحَةِ إلّا إذا أرادَ هَلاكَ مُقْتَرِحِها، فَرَدَّ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّ نُزُولَ الآيَةِ لا يَقْتَضِي ضَرُورَةَ إيمانِكم وهُداكم؛ لِأنَّ الأمْرَ بِيَدِ اللَّهِ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطابِقُ قَوْلُهم: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ ؟ قُلْتُ: هو كَلامٌ يَجْرِي مَجْرى التَّعَجُّبِ مِن قَوْلِهِمْ، وذَلِكَ أنَّ الآياتِ الباهِرَةِ المُتَكاثِرَةِ الَّتِي أُوتِيَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُؤْتَها نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وكَفى بِالقُرْآنِ وحْدَهُ آيَةً وراءَ كُلِّ آيَةٍ، فَإذا جَحَدُوها ولَمْ يَعْتَدُّوا بِها وجَعَلُوهُ كَأنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قَطُّ كانَ مَوْضِعُ التَّعَجُّبِ والِاسْتِنْكارِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهم: ما أعْظَمَ عِنادَكم ! وما أشَدَّ تَصْمِيمَكم عَلى كُفْرِكم ! ﴿إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ فَمَن كانَ عَلى صِفَتِكم مِنَ التَّصْمِيمِ وشِدَّةِ التَّسْلِيمِ في الكُفْرِ فَلا سَبِيلَ إلى اهْتِدائِكم وإنْ أُنْزِلَتْ كُلُّ آيَةٍ، ويَهْدِي إلَيْهِ مَن كانَ عَلى خِلافِ صِفَتِكم. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: يُضِلُّ مَن يَشاءُ عَنْ رَحْمَتِهِ وثَوابِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلى كُفْرِهِ، ﴿ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ أيْ: إلى جَنَّتِهِ، ﴿مَن أنابَ﴾ أيْ: مَن تابَ. والهُدى تَعَلُّقُهُ بِالمُؤْمِنِ هو الثَّوابُ؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلى إيمانِهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُضِلُّ عَنِ الثَّوابِ بِالعِقابِ، لا عَنِ الدِّينِ بِالكُفْرِ، عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن خالَفَنا، انْتَهى. وهي عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ.
والضَّمِيرُ في إلَيْهِ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أوْ عَلى الرَّسُولِ ﷺ . والظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ تَعالى عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: إلى دِينِهِ وشَرْعِهِ. و(أنابَ) أقْبَلَ إلى الحَقِّ، وحَقِيقَتُهُ دَخَلَ في تَوْبَةِ الخَيْرِ. و﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بَدَلٌ مِن (أنابَ) . واطْمِئْنانُ القُلُوبِ سُكُونُها بَعْدَ الِاضْطِرابِ مِن خَشْيَتِهِ. و﴿ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٩١] ذِكْرُ رَحْمَتِهِ ومَغْفِرَتِهِ، أوْ ذِكْرُ دَلائِلِهِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ المُزِيلَةِ لِعَلَقِ الشُّبَهِ. أوْ تَطْمَئِنُّ بِالقُرْآنِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ المُعْجِزاتِ تَسْكُنُ بِهِ القُلُوبُ وتَنْتَبِهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الحَضَّ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ، وأنَّهُ بِهِ تَحْصُلُ الطُّمَأْنِينَةُ تَرْغِيبًا في الإيمانِ، والمَعْنى: أنَّهُ بِذِكْرِهِ تَعالى تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ لا بِالآياتِ المُقْتَرَحَةِ، بَلْ رُبَّما كَفَرَ بَعْدَها، فَنَزَلَ العَذابُ كَما سَلَفَ في بَعْضِ الأُمَمِ. وجَوَّزُوا في (الَّذِينَ) أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ (الَّذِينَ) وبَدَلًا مِنَ (القُلُوبُ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: قُلُوبُ الَّذِينَ، وأنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هُمُ الَّذِينَ، وأنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ ما بَعْدَهُ.
و(طُوبى) فِعْلٌ مِنَ الطِّيبِ، قُلِبَتْ ياؤُهُ واوًا لِضَمَّةِ ما قَبْلَها كَما قَلُبِتْ في مُوسِرٍ، واخْتَلَفُوا في مَدْلُولِها: فَقالَ أبُو الحَسَنِ الهَنائِيُّ: هي جَمْعُ طَيِّبَةٍ قالُوا في جَمْعِ كَيِّسَةٍ كُوسى، وضَيِّقَةٍ ضُوقى. وفُعْلى لَيْسَتْ مِن ألْفاظِ الجُمُوعِ، فَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِها اسْمَ جَمْعٍ. وقالَ الجُمْهُورُ: هي مُفْرَدٌ كَبُشْرى وسُقْيا ورُجْعى وعُقْبى، واخْتَلَفَ القائِلُونَ بِهَذا في مَعْناها. فَقالَ الضَّحّاكُ: المَعْنى غِبْطَةٌ لَهم، وعَنْهُ أيْضًا: أصَبْتَ خَيْرًا. وقالَ عِكْرِمَةُ: نُعْمى لَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَرَحٌ وقُرَّةُ عَيْنٍ. وقالَ قَتادَةُ: حُسْنى لَهم. وقالَ النَّخَعِيُّ: خَيْرٌ لَهم، وعَنْهُ أيْضًا: كَرامَةٌ لَهم. وعَنْ سُمَيْطِ بْنِ عَجْلانَ: دَوامُ الخَيْرِ. وهَذِهِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ، والمَعْنى العَيْشُ الطَّيِّبُ لَهم. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ جُبَيْرٍ: طُوبى: اسْمٌ لِلْجَنَّةِ بِالحَبَشِيَّةِ. وقِيلَ: بِلُغَةِ الهِنْدِ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا ومُعَتِّبُ بْنُ سُمَيٍّ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ووَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هي شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ. ورُوِيَ مَرْفُوعًا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن حَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ السُّلَمِيِّ أنَّهُ قالَ. وقَدْ سَألَهُ أعْرابِيٌّ: يا رَسُولَ اللَّهِ أفِي الجَنَّةِ فاكِهَةٌ ؟ قالَ: ”نَعَمْ فِيها شَجَرَةٌ تُدْعى طُوبى“ وذَكَرَ الحَدِيثَ. قالَ القُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ أنَّها شَجَرَةٌ لِلْحَدِيثِ المَرْفُوعِ حَدِيثِ عُتْبَةَ، وهو صَحِيحٌ عَلى ما ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وذَكَرَهُ أبُو عُمَرَ في التَّمْهِيدِ والثَّعْلَبِيُّ.
و﴿طُوبى﴾ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ (لَهم) فَإنْ كانَتْ عَلَمًا لِشَجَرَةٍ في الجَنَّةِ فَلا كَلامَ في جَوازِ الِابْتِداءِ، وإنْ كانَتْ نَكِرَةً فَمُسَوِّغُ الِابْتِداءِ بِها ما ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّهُ ذَهَبَ بِها مَذْهَبَ الدُّعاءِ كَقَوْلِهِمْ: سَلامٌ عَلَيْكَ، إلّا أنَّهُ التَزَمَ فِيهِ (p-٣٩٠)الرَّفْعَ عَلى الِابْتِداءِ، فَلا تَدْخُلُ عَلَيْهِ نَواسِخُهُ، هَكَذا قالَ ابْنُ مالِكٍ: ويَرُدُّهُ أنَّهُ قُرِئَ: (وحُسْنَ مَآبٍ) بِالنَّصْبِ، قَرَأهُ كَذَلِكَ عِيسى الثَّقَفِيُّ، وخَرَّجَ ذَلِكَ ثَعْلَبٌ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى (طُوبى)، وأنَّها في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ﴿وحُسْنُ مَآبٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَيْها. قالَ ثَعْلَبٌ: و(طُوبى) عَلى هَذا مَصْدَرٌ كَما قالُوا: سُقْيا. وخَرَّجَهُ صاحِبُ اللَوامِحِ عَلى النِّداءِ قالَ: بِتَقْدِيرِ يا طُوبى لَهم، ويا حُسْنَ مَآبٍ. فَـ (حُسْنَ) مَعْطُوفٌ عَلى المُنادى المُضافِ في هَذِهِ القِراءَةِ، فَهَذا نِداءٌ لِلتَّحْنِينِ والتَّشْوِيقِ كَما قالَ: يا أسَفى، عَلى الفَوْتِ والنُّدْبَةِ، انْتَهى.
ويَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَعْطُوفٌ عَلى المُنادى المُضافِ، أنَّ (طُوبى) مُضافٌ لِلضَّمِيرِ، واللّامَ مُقْحَمَةٌ كَما أُقْحِمَتْ في قَوْلِهِ: يا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرارًا لِأقْوامٍ. وقَوْلِ الآخَرِ: يا بُؤْسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي، ولِذَلِكَ سَقَطَ التَّنْوِينُ مِن بُؤْسٍ وكَأنَّهُ قِيلَ: يا طُوباهم وحُسْنَ مَآبٍ أيْ: ما أطْيَبَهم وأحْسَنَ مَآبَهم، كَما تَقُولُ: يا طِيبَها لَيْلَةً أيْ: ما أطْيَبَها لَيْلَةً. وقَرَأ بَكْرَةُ الأعْرابِيُّ (طِيبى) بِكَسْرِ الطّاءِ، لِتَسْلَمَ الياءُ مِنَ القَلْبِ، وإنْ كانَ وزْنُها ”فُعْلى“، كَما كَسَرُوا في بِيضٍ لِتَسْلَمَ الياءُ، وإنْ كانَ وزْنُها فُعُلًا كَحُمُرٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أصَبْتَ خَيْرًا وطِيبًا، ومَحَلُّها النَّصْبُ أوِ الرَّفْعُ كَقَوْلِكَ: طِيبًا لَكَ، وطِيبٌ لَكَ، وسَلامًا لَكَ، وسَلامٌ لَكَ، والقِراءَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وحُسْنُ مَآبٍ﴾ بِالرَّفْعِ والنَّصْبِ بِذَلِكَ عَلى مَحَلِّها، واللّامُ في (لَهم) لِلْبَيانِ مِثْلُها في ”سُقْيًا لَكَ“ . وقُرِئَ: ﴿وحُسْنُ مَآبٍ﴾ بِفَتْحِ النُّونِ ورَفْعِ مَآبٍ. فَـ (حُسْنَ) فِعْلٌ ماضٍ أصْلُهُ وحَسُنَ نُقِلَتْ ضَمَّةُ سِينِهِ إلى الحاءِ، وهَذا جائِزٌ في فِعْلٍ، إذا كانَ لِلْمَدْحِ أوِ الذَّمِّ كَما قالُوا: حُسْنَ ذا أدَبا.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ","ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ","ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابࣲ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ"}