﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بَدَلٌ مِن ﴿مَن أنابَ﴾ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ فَإنْ أُرِيدَ بِالهِدايَةِ المُسْتَمِرَّةَ فالأمْرُ ظاهِرٌ لِظُهُورِ كَوْنِ الإيمانِ مُؤَدِّيًا إلَيْها وإنْ أُرِيدَ إحْداثُها فالمُرادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ صارَ أمْرُهم إلى الإيمانِ كَما قالُوا في ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ أيِ الصّائِرِينَ إلى التَّقْوى وإلّا فالإيمانُ لا يُؤَدِّي إلى الهِدايَةِ نَفْسِها ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيانٍ عَلى ذَلِكَ أوْ مَنصُوبًا عَلى المَدْحِ أوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴿وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ تَسْتَقِرُّ وتَسْكُنُ ﴿بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ أيْ بِكَلامِهِ المُعْجِزِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُقاتِلٍ وإطْلاقُ الذِّكْرِ عَلى ذَلِكَ شائِعٌ في الذِّكْرِ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ﴾ و﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ وسَبَبُ اطْمِئْنانِ قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ عِلْمُهم أنْ لا آيَةَ أعْظَمَ ومِن ذَلِكَ لا يَقْتَرِحُونَ الآياتِ الَّتِي يَقْتَرِحُها غَيْرُهم والعُدُولُ إلى صِيغَةِ المُضارِعِ لِإفادَةِ دَوامِ الِاطْمِئْنانِ وتَجَدُّدِهِ حَسَبَ تَجَدُّدِ المُنَزَّلِ مِنَ الذِّكْرِ ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ وحْدَهُ ﴿تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ . (28) . لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَمِيلُ إلَيْها النُّفُوسُ مِنَ الدُّنْياوِيّاتِ وإذا أُرِيدَ سائِرُ المُعْجِزاتِ فالقَصْرُ مِن حَيْثُ أنَّها لَيْسَتْ في إفادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن لَمْ يُشاهِدْها بِمَثابَةِ القُرْآنِ المَجِيدِ فَإنَّهُ مُعْجِزَةٌ باقِيَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ يُشاهِدُها كُلُّ أحَدٍ وتَطْمَئِنُّ بِهِ القُلُوبُ كافَّةً وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ الكَفَرَةَ لا قُلُوبَ لَهم وأفْئِدَتَهم هَواءٌ حَيْثُ لَمْ يَطْمَئِنُّوا بِهِ ولَمْ يَعُدُّوهُ آيَةً وهو أظْهَرُ الآياتِ وأبْهَرُها وقِيلَ: في الكَلامِ مُضافٌ مُقَدَّرٌ أيْ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ رَحْمَتِهِ تَعالى ومَغْفِرَتِهِ بَعْدَ القَلَقِ والِاضْطِرابِ مِن خَشْيَتِهِ تَعالى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهم وقُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ وهَذا مُناسِبٌ عَلى ما في الكَشْفِ لِلْإنابَةِ إلَيْهِ تَعالى والمَصْدَرُ عَلَيْهِ مُضافٌ إلى الفاعِلِ وقِيلَ: المُرادُ بِذِكْرِ اللَّهِ دَلائِلُهُ سُبْحانَهُ الدّالَّةُ عَلى وحْدانِيَّتِهِ عَزَّ وجَلَّ والِاطْمِئْنانُ عَنْ قَلَقِ الشَّكِّ والتَّرَدُّدِ وهَذا مُناسِبٌ لِذِكْرِ الكُفْرِ ووُقُوعِهِ في مُقابَلَتِهِ وقِيلَ: المُرادُ بِذِكْرِهِ تَعالى أُنْسًا بِهِ وتَبَتُّلًا إلَيْهِ سُبْحانَهُ فالمُرادُ بِالهِدايَةِ دَوامُها واسْتِمْرارُها قِيلَ: وهَذا مُناسِبٌ أيْضًا حَدِيثَ الكُفْرِ لِأنَّ الكَفَرَةَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ تَعالى وحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُهم والمَصْدَرُ عَلى القَوْلَيْنِ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ والوَجْهُ الأوَّلُ أشَدُّ مُلاءَمَةً لِلنَّظْمِ لا سِيَّما لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ والمَصْدَرُ فِيهِ بِمَعْنى المَفْعُولِ.
ومِنَ الغَرِيبِ ما نُقِلَ في تَفْسِيرِ الخازِنِ أنَّ هَذا في الحَلِفِ بِاللَّهِ وذَلِكَ أنَّ المُؤْمِن إذا حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ تَعالى سَكَنَ قَلْبُهُ ورَوى نَحْوَ ذَلِكَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فَإنَّ الحَمْلَ عَلَيْهِ هُنا مِمّا لا يُناسِبُ المَقامَ وأمّا ما رُوِيَ عَنْ أنَسٍ مِن «أنَّهُ ﷺ قالَ لِأصْحابِهِ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: هَلْ تَدْرُونَ ما مَعْنى ذَلِكَ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ قالَ: مَن أحَبَّ اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ وأحَبَّ أصْحابِي» ومِثْلُهُ ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مِن «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ حِينَ نَزَلَتْ: ذاكَ مَن أحَبَّ اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ وأحَبَّ أهْلَ بَيْتِي صادِقًا غَيْرَ كاذِبٍ (p-150)وأحَبَّ المُؤْمِنِينَ شاهِدًا وغائِبًا» فَلَيْسَ المُرادُ مِنهُ تَفْسِيرَ المُرادِ بِذِكْرِ اللَّهِ بَلْ بَيانُ أنَّ المَوْصُوفِينَ بِما ذُكِرَ مَن أحَبَّهُ اللَّهُ تَعالى ورَسُولُهُ ﷺ .. إلَخْ وهو كَذَلِكَ إذْ لا يَكادُ يَتَحَقَّقُ الِانْفِكاكُ بَيْنَ هاتِيكِ الصِّفاتِ فَلْيُتَأمَّلْ ولا تَنافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى سائِرِ الأوْجُهِ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ لِأنَّ المُرادَ هُناكَ وجِلَتْ مِن هَيْبَتِهِ تَعالى واسْتِعْظامِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وذَكَرَ الإمامُ في بَيانِ اطْمِئْنانِ القَلْبِ بِذَكَرِهِ تَعالى وُجُوهًا فَقالَ: إنَّ المَوْجُوداتِ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: مُؤَثِّرٌ لا يَتَأثَّرُ ومُتَأثِّرٌ لا يُؤَثِّرُ ومَوْجُودٌ يُؤَثِّرُ ويَتَأثَّرُ فالأوَّلُ هو اللَّهُ تَعالى والثّانِي هو الجِسْمُ فَإنَّهُ لَيْسَ لَهُ خاصِّيَّةٌ إلّا القَبُولَ لِلْآثارِ المُتَنافِيَةِ والصِّفاتِ المُخْتَلِفَةِ والثّالِثُ المَوْجُوداتُ الرُّوحانِيَّةُ فَإنَّها إذا تَوَجَّهَتْ إلى الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ صارَتْ قابِلَةً لِلْآثارِ الفائِضَةِ عَلَيْها مِنها وإذا تَوَجَّهَتْ إلى أعْلامِ الأجْسامِ اشْتاقَتْ إلى التَّصَرُّفِ فِيها لِأنَّ عالَمَ الأرْواحِ مُدَبِّرٌ لِعالَمِ الأجْسامِ فَإذا عُرِفَ هَذا فالقَلْبُ كُلَّما تَوَجَّهَ إلى مُطالَعَةِ عالَمِ الأجْسامِ حَصَلَ فِيهِ الِاضْطِرابُ والقَلَقُ والمَيْلُ الشَّدِيدُ إلى الِاسْتِيلاءِ عَلَيْهِ والتَّصَرُّفِ فِيهِ وإذا تَوَجَّهَ إلى مُطالَعَةِ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ وحَصَلَتْ فِيهِ الأنْوارُ الصَّمَدِيَّةُ فَهُناكَ يَكُونُ ساكِنًا مُطْمَئِنًّا وأيْضًا أنَّ القَلْبَ كُلَّما وصَلَ إلى شَيْءٍ فَإنَّهُ يَطْلُبُ الِانْتِقالَ مِنهُ إلى أمْرٍ آخَرَ أشْرَفَ مِنهُ لِأنَّهُ لا سَعادَةَ في عالَمِ الجِسْمِ إلّا وفَوْقَها مَرْتَبَةٌ أُخْرى أمّا إذا انْتَهى إلى الِاسْتِسْعادِ بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ والأنْوارِ القُدُسِيَّةِ ثَبَتَ واسْتَقَرَّ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى الِانْتِقالِ مِن ذَلِكَ ألْبَتَّةَ لِأنَّهُ لَيْسَ هُناكَ دَرَجَةٌ أُخْرى في السَّعادَةِ أعْلى مِنهُ وأكْمَلَ وأيْضًا أنَّ الأُكْسِيرَ إذا وقَعَتْ مِنهُ ذَرَّةٌ عَلى الجِسْمِ النُّحاسِيِّ انْقَلَبَ ذَهَبًا باقِيًا عَلى مَمَرِّ الدُّهُورِ صابِرًا عَلى الذَّوَبانِ الحاصِلِ بِالنّارِ فَأُكْسِيرُ نُورِ اللَّهِ تَعالى إذا وقَعَ في القَلْبِ أوْلى أنْ يَقْلِبَهُ جَوْهَرًا باقِيًا صافِيًا نُورانِيًّا لا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ والتَّبَدُّلَ ولِهَذِهِ الأوْجُهِ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ . اهَـ. والأوْلى أنْ يُقالَ: إنَّ سَبَبَ الطُّمَأْنِينَةِ نُورٌ يُفِيضُهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ قَلْبِ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ فَيَذْهَبُ ما فِيها مِنَ القَلَقِ والوَحْشَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ ولِلْمُناقَشَةِ فِيما ذَكَرَهُ مَجالٌ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في بابِ الإشارَةِ ما يُشْبِهُ ذَلِكَ
{"ayah":"ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ"}