الباحث القرآني
(p-١٩٨)سُورَةُ هُودٍ مِائَةٌ وثَلاثٌ وعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةً
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإنْ تَوَلَّوْا فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: ٣] ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [هود: ٤] ﴿ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدُورَهم لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود: ٥] ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها ومُسْتَوْدَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: ٦] ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٧] ﴿ولَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهم وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [هود: ٨] ﴿ولَئِنْ أذَقْنا الإنْسانَ مِنّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ [هود: ٩] ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠] ﴿إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: ١١] ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ [هود: ١٢] ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [هود: ١٣] ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكم فاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وأنْ لا إلَهَ إلّا هو فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٤] ﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: ١٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٦] ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إمامًا ورَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزابِ فالنّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: ١٧] ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ [هود: ١٨] ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ [هود: ١٩] ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما كانَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ مِن أوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: ٢٠] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [هود: ٢١] ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ [هود: ٢٢] ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَنَّةِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [هود: ٢٣] ﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كالأعْمى والأصَمِّ والبَصِيرِ والسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: ٢٤] ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٢٥] ﴿أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [هود: ٢٦] ﴿فَقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] ﴿قالَ يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وآتانِي رَحْمَةً مِن عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكم أنُلْزِمُكُمُوها وأنْتُمْ لَها كارِهُونَ﴾ [هود: ٢٨] ﴿ويا قَوْمِ لا أسْألُكم عَلَيْهِ مالًا إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى اللَّهِ وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ [هود: ٢٩] ﴿ويا قَوْمِ مَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إنْ طَرَدْتُهم أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: ٣٠] ﴿ولا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ ولا أقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ إنِّي إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ [هود: ٣١] ﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [هود: ٣٢] ﴿قالَ إنَّما يَأْتِيكم بِهِ اللَّهُ إنْ شاءَ وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [هود: ٣٣] ﴿ولا يَنْفَعُكم نُصْحِي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكم إنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أنْ يُغْوِيَكم هو رَبُّكم وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [هود: ٣٤] ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرامِي وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: ٣٥] ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: ٣٦] ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧] ﴿ويَصْنَعُ الفُلْكَ وكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنهُ قالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإنّا نَسْخَرُ مِنكم كَما تَسْخَرُونَ﴾ [هود: ٣٨] ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود: ٣٩] ﴿حَتّى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التَّنُّورُ قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ ومَن آمَنَ وما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] (p-١٩٩)ثَنى الشَّيْءَ ثَنْيًا: طَواهُ، يُقالُ: ثَنى عِطْفَهُ، وثَنى صَدْرَهُ، وطَوى كَشْحَهُ. الحِزْبُ: جَماعَةٌ مِنَ النّاسِ يَجْتَمِعُونَ عَلى أمْرٍ يَتَعَصَّبُونَ فِيهِ.
رَذُلَ الرَّجُلُ رَذالَةً فَهو رَذْلٌ: إذا كانَ سِفْلَةً لا خَلاقَ لَهُ، ولا يُبالِي بِما يَقُولُ وما يَفْعَلُ. الإخْباتُ: التَّواضُعُ والتَّذَلُّلُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الخَبْتِ وهو المُطَمْئِنُّ مِنَ الأرْضِ. وقِيلَ: البَراحُ: القَفْرُ المُسْتَوِي، ويُقالُ: أخْبَتَ: دَخَلَ في الخَبْتِ، كَأنْجَدَ: دَخَلَ نَجْدًا، وأتْهَمَ: دَخَلَ تِهامَةَ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَقِيلَ: خَبَتَ ذِكْرُهُ: خَمَدَ. ويَتَعَدّى أخْبَتَ بِإلى وبِاللّامِ، ويُقالُ لِلشَّيْءِ الدَّنِيءِ: الخَبِيتُ قالَ الشّاعِرُ:
؎يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الخَبِيتَ مِنَ الرِّزْ قِ ولا يَنْفَعُ الكَثِيرُ الخَبِيتَ
لَزِمَ الشَّيْءَ: واظَبَ عَلَيْهِ لا يُفارِقُهُ، ومِنهُ اللِّزامُ. زَرى يَزْرِي: حَقُرَ، وأزْرى عَلَيْهِ: عابَهُ، وازْدَرى: افْتَعَلَ مِن زَرى، أيِ: احْتَقَرَ. التَّنُّورُ: مُسْتَوْقَدُ النّارِ، ووَزْنُهُ: فَعُّولٌ عِنْدَ أبِي عَلِيٍّ، وهو أعْجَمِيٌّ ولَيْسَ بِمُشْتَقٍّ وقالَ ثَعْلَبٌ: وزْنُهُ: تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ، وأصْلُهُ تَنُوُورٌ فَهُمِزَتِ الواوُ ثُمَّ خُفِّفَتْ، وشُدِّدَ الحَرْفُ الَّذِي قَبْلَهُ كَما قالَ:
؎رَأيْتُ عَرابَةَ اللَّوْسِيَّ يَسْمُو ∗∗∗ إلى الغاياتِ مُنْقَطِعَ القَرِينِ
يُرِيدُ: عَرابَةَ الأوْسِيَّ. ولِلْمُفَسِّرِينَ أقْوالٌ في التَّنُّورِ سَتَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *
﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنَّنِي لَكم مِنهُ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ﴾ ﴿وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وإنْ تَوَلَّوْا فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: ٣] ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [هود: ٤] (p-٢٠٠)قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وعِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّها، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: مَكِّيَّةٌ كُلُّها إلّا قَوْلَهُ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ [هود: ١٢] الآيَةَ. وقالَ مُقاتِلٌ: مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ﴾ [هود: ١٢] الآيَةَ.
وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [هود: ١٧] نَزَلَتْ في ابْنِ سَلامٍ وأصْحابِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ [هود: ١١٤] نَزَلَتْ في نَبْهانَ التَّمّارِ. وكِتابٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظُهُورُهُ بَعْدَ هَذِهِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿الم﴾ [البقرة: ١] ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢]، وأُحْكِمَتْ صِفَةٌ لَهُ.
ومَعْنى الإحْكامِ: نَظَمَهُ نَظْمًا رَضِيًّا لا نَقْصَ فِيهِ ولا خَلَلَ، كالبِناءِ المُحْكَمِ. وهو المُوَثَّقُ في التَّرْصِيفِ، وعَلى هَذا فالهَمْزَةُ في أحُكِمَتْ لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلنَّقْلِ مِن حَكُمَ بِضَمِّ الكافِ إذا صارَ حَكِيمًا، فالمَعْنى: جُعِلَتْ حَكِيمَةً كَقَوْلِكَ: تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ عَلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] وقِيلَ: مِن أحْكَمْتُ الدّابَّةَ إذا مَنَعَها مِنَ الجِماحِ بِوَضْعِ الحَكَمَةِ عَلَيْها، فالمَعْنى: مُنِعَتْ مِنَ النِّساءِ كَما قالَ جَرِيرٌ:
؎أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهاءَكم إنِّي أخافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبا
وعَنْ قَتادَةَ: أُحْكِمَتْ مِنَ الباطِلِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ﴿أُحْكِمَتْ﴾: أُتْقِنَتْ شِبْهُ ما يُحْكَمُ مِنَ الأُمُورِ المُتْقَنَةِ الكامِلَةِ، وبِهَذِهِ الصِّفَةِ كانَ القُرْآنُ في الأوَّلِ، ثُمَّ فُصِّلَ بِتَقْطِيعِهِ وتَبْيِينِ أحْكامِهِ وأوامِرِهِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ فَثُمَّ عَلى بابِها، وهَذِهِ طَرِيقَةُ الإحْكامِ والتَّفْصِيلِ.
إذِ الإحْكامُ: صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ، والتَّفْصِيلُ: إنَّما هو بِحَسَبِ مَن يُفَصَّلُ لَهُ، والكِتابُ: أجْمَعُهُ، مُحْكَمٌ: مُفَصَّلٌ، والإحْكامُ: الَّذِي هو ضِدُّ النَّسْخِ، والتَّفْصِيلُ: الَّذِي هو خِلافُ الإجْمالِ، إنَّما يُقالانِ مَعَ ما ذَكَرْناهُ بِاشْتِراكٍ. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ: أُحْكِمَتْ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، وفُصِّلَتْ بِالثَّوابِ والعِقابِ.
وعَنْ بَعْضِهِمْ: أُحْكِمَتْ مِنَ الباطِلِ، وفُصِّلَتْ بِالحَلالِ والحَرامِ، ونَحْوِ هَذا مِنَ التَّخْصِيصِ الَّذِي هو صَحِيحُ المَعْنى، ولَكِنْ لا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ. وقِيلَ: فُصِّلَتْ مَعْناهُ: فُسِّرَتْ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ فُصِّلَتْ كَما تُفَصَّلُ القَلائِدُ بِالدَّلائِلِ مِن دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والأحْكامِ والمَواعِظِ والقَصَصِ، أوْ جُعِلَتْ فُصُولًا سُورَةً سُورَةً وآيَةً آيَةً، أوْ فُرِّقَتْ في التَّنْزِيلِ ولَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً واحِدَةً، أوْ فُصِّلَ بِها ما يَحْتاجُ إلَيْهِ العِبادُ، أيْ: بُيِّنَ ولُخِّصَ.
وقَرَأ عِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ والجَحْدَرِيُّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ: ثُمَّ (فَصَلَتْ) بِفَتْحَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلى لُزُومِ الفِعْلِ لِلْآياتِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: يَعْنِي: انْفَصَلَتْ وصَدَرَتْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَصَلَتْ بَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ مِنَ النّاسِ، أوْ نَزَلَتْ إلى النّاسِ كَما تَقُولُ: فَصَلَ فُلانٌ بِسَفَرِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾، أيْ: أحْكَمْتُها أنا ثُمَّ فَصَّلْتُها.
(فَإنْ قُلْتَ): ما مَعْنى (ثُمَّ) ؟ (قُلْتُ): لَيْسَ مَعْناها التَّراخِي في الوَقْتِ ولَكِنْ في الحالِ، كَما تَقُولُ: هي مَحْكَمَةٌ أحْسَنَ الإحْكامِ، ثُمَّ مُفَصَّلَةٌ أحْسَنَ التَّفْصِيلِ، وفُلانٌ كَرِيمُ الأصْلِ، ثُمَّ كَرِيمُ الفِعْلِ، انْتَهى. يَعْنِي: أنَّ (ثُمَّ) جاءَتْ لِتَرْتِيبِ الإخْبارِ، لا لِتَرْتِيبِ الوُقُوعِ في الزَّمانِ، واحْتَمَلَ (مِن لَدُنْ) أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ.
ومَن أجازَ تَعْدادَ الأخْبارِ إذا لَمْ تَكُنْ في مَعْنى خَبَرٍ واحِدٍ، أجازَ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْ يَكُونَ صِلَةَ أُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ، أيْ: مِن عِنْدِهِ أحْكامُها وتَفْصِيلُها. وفِيهِ طِباقٌ حَسَنٌ، لِأنَّ المَعْنى: أحْكَمَها حَكِيمٌ وفَصَّلَها، أيْ: بَيَّنَها وشَرَحَها خَبِيرٌ بِكَيْفِيّاتِ الأُمُورِ، انْتَهى.
ولا يُرِيدُ أنَّ (مِن لَدُنْ) مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلَيْنِ مَعًا مِن حَيْثُ صِناعَةُ الإعْرابِ، بَلْ يُرِيدُ أنَّ ذَلِكَ مِن بابِ الإعْمالِ، فَهي مُتَعَلِّقَةٌ بِهِما مِن حَيْثُ المَعْنى.
* * *
و﴿أنْ لا تَعْبُدُوا﴾ [هود: ٢٦] يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أنْ حَرْفَ تَفْسِيرٍ، لِأنَّ في تَفْصِيلِ الآياتِ مَعْنى القَوْلِ، وهَذا أظْهَرُ، لِأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى إضْمارٍ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لِأنْ لا تَعْبُدُوا، أوْ بِأنْ لا تَعْبُدُوا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، ووُصِلَتْ (أنْ) بِالنَّهْيِ. وقِيلَ: (أنْ) نَصَبَتْ لا تَعْبُدُوا، فالفِعْلُ خَبَرٌ مَنفِيٌّ. وقِيلَ: (أنْ): هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وجُمْلَةُ النَّهْيِ (p-٢٠١)فِي مَوْضِعِ الخَبَرِ، وفي هَذِهِ الأقْوالِ العامِلُ: فُصِّلَتْ. وأمّا مَن أعْرَبَهُ أنَّهُ بَدَلٌ مِن لَفْظِ (آياتُ) أوْ مِن مَوْضِعِها، أوِ التَّقْدِيرُ: مِنَ النَّظَرِ أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، أوْ: في الكِتابِ ألّا تَعْبُدُوا، أوْ هي: أنْ لا تَعْبُدُوا، أوْ: ضَمِنَ أنْ لا تَعْبُدُوا، أوْ: تَفْصِيلُهُ أنْ لا تَعْبُدُوا، فَهو بِمَعْزِلٍ عَنْ عِلْمِ الإعْرابِ.
والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في مِنهُ إلى اللَّهِ، أيْ: إنِّي لَكم نَذِيرٌ مِن جِهَتِهِ وبَشِيرٌ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَتُعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ: كائِنٌ مِن جِهَتِهِ. أوْ تُعَلَّقُ بِنَذِيرٍ، أيْ: أُنْذِرُكم مِن عَذابِهِ إنْ كَفَرْتُمْ، وأُبَشِّرُكم بِثَوابِهِ إنْ آمَنتُمْ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكِتابَةِ، أيْ: نَذِيرٌ لَكم مِن مُخالَفَتِهِ، وبَشِيرٌ مِنهُ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ بِهِ. وقُدِّمَ النَّذِيرُ لِأنَّ التَّخْوِيفَ هو الأهَمُّ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤرۚ كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ","أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِی لَكُم مِّنۡهُ نَذِیرࣱ وَبَشِیرࣱ"],"ayah":"الۤرۚ كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق