الباحث القرآني

(p-١٤٢)[ سُورَةُ هُودٍ ] مَكِّيَّةٌ، إلّا الآياتِ: ١٢ و١٧ و١١٤ فَمَدَنِيَّةٌ، وآياتُها ١٢٣، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ ﷽ ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ﷽ ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الر﴾ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وهو مُبْتَدَأٌ. وقَوْلُهُ ﴿كِتابٌ﴾ خَبَرُهُ، وقَوْلُهُ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ صِفَةٌ لِلْكِتابِ. قالَ الزَّجّاجُ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: ﴿الر﴾ مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ خَبَرٌ؛ لِأنَّ ﴿الر﴾ لَيْسَ هو المَوْصُوفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وحْدَهُ. وهَذا الِاعْتِراضُ فاسِدٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُبْتَدَأً أنْ يَكُونَ خَبَرُهُ مَحْصُورًا فِيهِ، ولا أدْرِي كَيْفَ وقَعَ لِلزَّجّاجِ هَذا السُّؤالُ، ثُمَّ إنَّ الزَّجّاجَ اخْتارَ قَوْلًا آخَرَ، وهو أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الر هَذا كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، وعِنْدِي أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَقَعُ قَوْلُهُ: ﴿الر﴾ كَلامًا باطِلًا لا فائِدَةَ فِيهِ. والثّانِي: أنَّكَ إذا قُلْتَ: هَذا كِتابٌ، فَقَوْلُهُ: ”هَذا“ يَكُونُ إشارَةً إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ، وذَلِكَ هو قَوْلُهُ: ﴿الر﴾ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ ﴿الر﴾ مُخْبَرًا عَنْهُ بِأنَّهُ كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، فَيَلْزَمُهُ عَلى هَذا القَوْلِ ما لَمْ يَرْضَ بِهِ في القَوْلِ الأوَّلِ، فَثَبَتَ أنَّ الصَّوابَ ما ذَكَرْناهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ نُظِمَتْ نَظْمًا رَصِيفًا مُحْكَمًا لا يَقَعُ فِيهِ نَقْصٌ ولا خَلَلٌ، كالبِناءِ المُحْكَمِ المُرَصَّفِ. الثّانِي: أنَّ الإحْكامَ عِبارَةٌ عَنْ مَنعِ الفَسادِ مِنَ الشَّيْءِ، فَقَوْلُهُ: ﴿أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ أيْ لَمْ تُنْسَخْ بِكِتابٍ كَما نُسِخَتِ الكُتُبُ والشَّرائِعُ بِها. واعْلَمْ أنَّ عَلى هَذا الوَجْهِ لا يَكُونُ كُلُّ الكِتابِ مُحْكَمًا؛ لِأنَّهُ حَصَلَ فِيهِ آياتٌ مَنسُوخَةٌ، إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ الغالِبُ كَذَلِكَ صَحَّ إطْلاقُ هَذا الوَصْفِ عَلَيْهِ إجْراءً لِلْحُكْمِ الثّابِتِ في الغالِبِ مُجْرى الحُكْمِ الثّابِتِ في (p-١٤٣)الكُلِّ. الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَقْلًا بِالهَمْزَةِ مِن حَكُمَ بِضَمِّ الكافِ إذا صارَ حَكِيمًا، أيْ جُعِلَتْ حَكِيمَةً، كَقَوْلِهِ: ﴿آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يُونُسَ: ١] . الرّابِعُ: جُعِلَتْ آياتُهُ مُحْكَمَةً في أُمُورٍ: أحَدُها: أنَّ مَعانِيَ هَذا الكِتابِ هي التَّوْحِيدُ، والعَدْلُ، والنُّبُوَّةُ، والمَعادُ، وهَذِهِ المَعانِي لا تَقْبَلُ النَّسْخَ، فَهي في غايَةِ الإحْكامِ. وثانِيها: أنَّ الآياتِ الوارِدَةَ فِيهِ غَيْرُ مُتَناقِضَةٍ، والتَّناقُضُ ضِدُّ الإحْكامِ، فَإذا خَلَتْ آياتُهُ عَنِ التَّناقُضِ فَقَدْ حَصَلَ الإحْكامُ. وثالِثُها: أنَّ ألْفاظَ هَذِهِ الآياتِ بَلَغَتْ في الفَصاحَةِ والجَزالَةِ إلى حَيْثُ لا تَقْبَلُ المُعارَضَةَ، وهَذا أيْضًا مُشْعِرٌ بِالقُوَّةِ والإحْكامِ. ورابِعُها: أنَّ العُلُومَ الدِّينِيَّةَ إمّا نَظَرِيَّةٌ وإمّا عَمَلِيَّةٌ، أمّا النَّظَرِيَّةُ فَهي مَعْرِفَةُ الإلَهِ تَعالى، ومَعْرِفَةُ المَلائِكَةِ والكُتُبِ والرُّسُلِ واليَوْمِ الآخِرِ، وهَذا الكِتابُ مُشْتَمِلٌ عَلى شَرائِفِ هَذِهِ العُلُومِ ولَطائِفِها، وأمّا العَمَلِيَّةُ فَهي إمّا أنْ تَكُونَ عِبارَةً عَنْ تَهْذِيبِ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ، وهو الفِقْهُ، أوْ عَنْ تَهْذِيبِ الأحْوالِ الباطِنَةِ، وهي عِلْمُ التَّصْفِيَةِ ورِياضَةُ النَّفْسِ، ولا نَجِدُ كِتابًا في العالَمِ يُساوِي هَذا الكِتابَ في هَذِهِ المَطالِبِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا الكِتابَ مُشْتَمِلٌ عَلى أشْرَفِ المَطالِبِ الرُّوحانِيَّةِ وأعْلى المَباحِثِ الإلَهِيَّةِ، فَكانَ كِتابًا مُحْكَمًا غَيْرَ قابِلٍ لِلنَّقْضِ والهَدْمِ. وتَمامُ الكَلامِ في تَفْسِيرِ المُحْكَمِ ذَكَرْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿فُصِّلَتْ﴾ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ هَذا الكِتابَ فُصِّلَ كَما تُفَصَّلُ الدَّلائِلُ بِالفَوائِدِ الرُّوحانِيَّةِ، وهي دَلائِلُ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والأحْكامِ والمَواعِظِ والقَصَصِ. والثّانِي: أنَّها جُعِلَتْ فُصُولًا سُورَةً سُورَةً، وآيَةً آيَةً. الثّالِثُ: ﴿فُصِّلَتْ﴾ بِمَعْنى أنَّها فُرِّقَتْ في التَّنْزِيلِ وما نَزَلَتْ جُمْلَةً واحِدَةً، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ والجَرادَ والقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ﴾ [الأعْرافِ: ١٣٣] والمَعْنى مَجِيءُ هَذِهِ الآياتِ مُتَفَرِّقَةً مُتَعاقِبَةً. الرّابِعُ: فَصْلُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ العِبادُ، أيْ: جُعِلَتْ مُبَيِّنَةً مُلَخِّصَةً. الخامِسُ: جُعِلَتْ فُصُولًا حَلالًا وحَرامًا، وأمْثالًا وتَرْغِيبًا، وتَرْهِيبًا ومَواعِظَ، وأمْرًا ونَهْيًا، لِكُلِّ مَعْنًى فِيها فَصْلٌ قَدْ أُفْرِدَ بِهِ غَيْرَ مُخْتَلِطٍ بِغَيْرِهِ حَتّى تُسْتَكْمَلَ فَوائِدُ كُلِّ واحِدٍ مِنها، ويَحْصُلَ الوُقُوفُ عَلى كُلِّ بابٍ واحِدٍ مِنها عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مَعْنى (ثُمَّ) في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ لَيْسَ لِلتَّراخِي في الوَقْتِ، لَكِنْ في الحالِ، كَما تَقُولُ: هي مُحْكَمَةٌ أحْسَنَ الإحْكامِ، ثُمَّ مُفَصَّلَةٌ أحْسَنَ التَّفْصِيلِ، وكَما تَقُولُ: فُلانٌ كَرِيمُ الأصْلِ ثُمَّ كَرِيمُ الفِعْلِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”أحْكَمْتُ آياتِهِ ثُمَّ فَصَّلْتُ“ أيْ أحْكَمْتُها أنا ثُمَّ فَصَّلْتُها، وعَنْ عِكْرِمَةَ والضَّحّاكِ: ”ثُمَّ فَصَلْتُ“ أيْ: فَرَقْتُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: احْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ القُرْآنَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: قالَ: المُحْكَمُ هو الَّذِي أتْقَنَهُ فاعِلُهُ، ولَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْدِثُ هَذا القُرْآنَ وإلّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الإحْكامَ لا يَكُونُ إلّا في الأفْعالِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: كانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مُحْكَمٍ ثُمَّ جَعَلَهُ اللَّهُ مُحْكَمًا؛ لِأنَّ هَذا يَقْتَضِي في بَعْضِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مُحْكَمًا أنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِأنَّ القُرْآنَ بَعْضُهُ قَدِيمٌ وبَعْضُهُ مُحْدَثٌ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَصَلَ فِيهِ انْفِصالٌ وافْتِراقٌ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الِانْفِصالَ والِافْتِراقَ إنَّما حَصَلَ بِجَعْلِ جاعِلٍ، وتَكْوِينِ مُكَوِّنٍ، وذَلِكَ أيْضًا يَدُلُّ عَلى المَطْلُوبِ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (p-١٤٤)والمُرادُ مِن عِنْدِهِ، والقَدِيمُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ حَصَلَ مِن عِنْدِ قَدِيمٍ آخَرَ؛ لِأنَّهُما لَوْ كانا قَدِيمَيْنِ لَمْ يَكُنِ القَوْلُ بِأنَّ أحَدَهُما حَصَلَ مِن عِنْدِ الآخَرِ أوْلى مِنَ العَكْسِ. أجابَ أصْحابُنا بِأنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ عائِدَةٌ إلى هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، ونَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأنَّها مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، وإنَّما الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ أمْرٌ آخَرُ سِوى هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قَوْلُهُ: ﴿مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنّا ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كِتابٌ﴾ خَبَرٌ و﴿أُحْكِمَتْ﴾ صِفَةٌ لِهَذا الخَبَرِ، وقَوْلَهُ: ﴿مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ، والتَّقْدِيرُ: الر كِتابٌ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، والتَّقْدِيرُ: الر مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ و﴿فُصِّلَتْ﴾ أيْ أُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ أوَّلِ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ آخِرِها نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ كَأنَّهُ يَقُولُ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ وفُصِّلَتْ مِن لَدُنْ خَبِيرٍ عالِمٍ بِكَيْفِيّاتِ الأُمُورِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب