الباحث القرآني

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ المَرَضُ بِفَتْحِ الرّاءِ كَما قَرَأ الجُمْهُورُ، وبِسُكُونِها كَما قَرَأ الأصْمَعِيُّ، عَنْ أبِي عُمَرَ، وعَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ اللُّغَةِ حالَةٌ خارِجَةٌ عَنِ الطَّبْعِ، ضارَّةٌ بِالفِعْلِ، وعِنْدَ الأطِبّاءِ، يُقابِلُ الصِّحَّةَ، وهي الحالَةُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْها الأفْعالُ سَلِيمَةً، والمُرادُ مِنَ الأفْعالِ ما هو مُتَعارَفٌ، وهي إمّا طَبِيعِيَّةٌ كالنُّمُوِّ، أوْ حَيَوانِيَّةٌ كالنَّفْسِ، أوْ نَفْسانِيَّةٌ كَجَوْدَةِ الفِكْرِ، فالحَوْلُ والحَدَبُ مَثَلًا مَرَضٌ عِنْدَهم دُونَ أهْلِ اللُّغَةِ، وقَدْ يُطْلَقُ المَرَضُ لُغَةً عَلى أثَرِهِ، وهو الألَمُ، كَما قالَهُ جَمْعٌ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِمْ، وعَلى الظُّلْمَةِ كَما في قَوْلِهِ: ؎(p-149)فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ فَما يُحَسُّ بِها نَجْمٌ ولا قَمَرُ وعَلى ضَعْفِ القَلْبِ، وفُتُورِهِ كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى ما يُعَرِّضُ المَرْءَ مِمّا يُخِلُّ بِكَمالِ نَفْسِهِ كالبَغْضاءِ، والغَفْلَةِ، وسُوءِ العَقِيدَةِ والحَسَدِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن مَوانِعِ الكَمالاتِ المُشابِهَةِ لِاخْتِلالِ البَدَنِ، المانِعِ عَنِ المَلاذِّ، والمُؤَدِّيَةِ إلى الهَلاكِ الرُّوحانِيِّ الَّذِي هو أعْظَمُ مِنَ الهَلاكِ الجِسْمانِيِّ، والمَنقُولُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، وسائِرِ السَّلَفِ الصّالِحِ حَمْلُ المَرَضِ في الآيَةِ عَلى المَعْنى المَجازِيِّ، ولا شَكَّ أنَّ قُلُوبَ المُنافِقِينَ كانَتْ مَلْأى مِن تِلْكَ الخَبائِثِ الَّتِي مَنَعَتْهم مِمّا مَنَعَتْهُمْ، وأوْصَلَتْهم إلى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، ولا مانِعَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أنْ يُحْمَلَ المَرَضُ أيْضًا عَلى حَقِيقَتِهِ الَّذِي هو الظُّلْمَةُ، ﴿ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ﴾ وكَذا عَلى الألَمِ، فَإنَّ في قُلُوبِ أُولَئِكَ ألَمًا عَظِيمًا بِواسِطَةِ شَوْكَةِ الإسْلامِ وانْتِظامِ أُمُورِهِمْ غايَةَ الِانْتِظامِ، فالآيَةُ عَلى هَذا مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، ونَصْبُ القَرِينَةِ المانِعَةِ في المَجازِ إنَّما يُشْتَرَطُ في تَعْيِينِهِ دُونَ احْتِمالِهِ، فَإذا تَضَمَّنَ نُكْتَةً ساوى الحَقِيقَةَ، فَيُمْكِنُ الحَمْلُ عَلَيْهِما نَظَرًا إلى الأصالَةِ، والنُّكْتَةِ، إلّا أنَّهُ يَرِدُ هُنا أنَّ الألَمَ مُطْلَقًا لَيْسَ حَقِيقَةَ المَرَضِ، بَلْ حَقِيقَتُهُ الألَمُ لِسُوءِ المِزاجِ، وهو مَفْقُودٌ في المُنافِقِينَ، والقَوْلُ بِأنَّ حالَهُمُ الَّتِي هم عَلَيْها تُفْضِي إلَيْهِ في غايَةِ الرَّكاكَةِ، عَلى أنَّ قُلُوبَ أُولَئِكَ لَوْ كانَتْ مَرِيضَةً لَكانَتْ أجْسامُهم كَذَلِكَ، أوْ لَكانَ الحِمامُ عاجَلَهُمْ، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ والقانُونُ الطِّبِّيُّ، أمّا الأوَّلُ فَلِقَوْلِهِ ﷺ: «(إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً)» الحَدِيثَ، وأمّا الثّانِي، فَلِأنَّ الحُكَماءَ بَعْدَ أنْ بَيَّنُوا تَشْرِيحَ القَلْبِ قالُوا: إذا حَصَلَتْ فِيهِ مادَّةٌ غَلِيظَةٌ، فَإنْ تَمَكَّنَتْ مِنهُ ومِن غُلافِهِ، أوْ مِن أحَدِهِما، عاجَلَتِ المَنِيَّةُ صاحِبَهُ، وإنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ تَأخَّرَتِ الحَياةُ مُدَّةً يَسِيرَةً، ولا سَبِيلَ إلى بَقائِها مَعَ مَرَضِ القَلْبِ، فالأوْلى دِرايَةً ورِوايَةً حَمْلُهُ عَلى المَعْنى المَجازِيِّ، ومِنهُ الجُبْنُ، والخَوَرُ، وقَدْ داخَلَ ذَلِكَ قُلُوبَ المُنافِقِينَ حِينَ شاهَدُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ ما شاهَدُوا، والتَّنْوِينُ لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّهُ نَوْعٌ غَيْرُ ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ مِنَ الأمْراضِ، ولَمْ يُجْمَعْ كَما جُمِعَ القُلُوبُ، لِأنَّ تَعْدادَ المَحالِّ يَدُلُّ عَلى تَعْدادِ الحالِّ عَقَلًا، فاكْتَفى بِجَمْعِها عَنْ جَمْعِهِ، والجُمْلَةُ الأُولى إمّا مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ المُوجِبِ لِخِداعِهِمْ، وما هم فِيهِ مِنَ النِّفاقِ، أوْ مُقَرِّرَةٌ لِما يُفِيدُهُ ﴿وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ مِنِ اسْتِمْرارِ عَدَمِ إيمانِهِمْ، أوْ تَعْلِيلٌ لَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما بالُهم لا يُؤْمِنُونَ؟ فَقالَ: في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ، أوْ مُقَرِّرَةٌ لِعَدَمِ الشُّعُورِ، وإنْ كانَ سَبِيلُ قَوْلِهِ: ﴿وما يَشْعُرُونَ﴾ سَبِيلَ الِاعْتِراضِ عَلى ما قِيلَ، وجُمْلَةُ ﴿فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ إمّا دُعائِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، والمُعْتَرِضَةُ قَدْ تَقْتَرِنُ بِالفاءِ كَما في قَوْلِهِ: ؎واعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُهُ ∗∗∗ أنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلَّما قَدِرا كَما صَرَّحَ في التَّلْوِيحِ وغَيْرِهِ نَقْلًا عَنِ النُّحاةِ، أوْ إخْبارِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى الأُولى، وعَطْفُ الماضِي عَلى الِاسْمِيَّةِ لِنُكْتَةٍ، إنْ أُرِيدَ في الأُولى أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ غَضًّا طَرِيًّا إلى زَمَنِ الإخْبارِ، وفي الثّانِيَةِ أنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِازْدِيادِ مَرَضِهِمُ المُحَقَّقِ، إذْ لَوْلا تَدَنُّسُ فِطْرَتِهِمْ لازْدادُوا بِما مَنَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلى المُؤْمِنِينَ شِفاءً، ولا يَتَكَرَّرُ هَذا مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ﴾ لِلْفَرْقِ بَيْنَ زِيادَةِ المَرَضِ، وزِيادَةِ الطُّغْيانِ، عَلى أنَّهُ لا مانِعَ مِن زِيادَةِ التَّوْكِيدِ مَعَ بُعْدِ المَسافَةِ، وأيْضًا الدُّعاءُ إنْ لَمْ يَكُنْ جارِيًا عَلى لِسانِ العِبادِ، أوْ مُرادًا بِهِ مُجَرَّدُ السَّبِّ، والتَّنْقِيصِ يَكُونُ إيجابًا مِنهُ سُبْحانَهُ، فَيُؤَوَّلُ إلى ما آلَ إلَيْهِ الإخْبارُ، وزِيادَةُ اللَّهِ تَعالى مَرَضَهُمْ، إمّا بِتَضْعِيفِ حَسَدِهِمْ بِزِيادَةِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلى رَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُؤْمِنِينَ، أوْ ظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ بِتَجَدُّدِ كُفْرِهِمْ بِما يُنْزِلُهُ سُبْحانَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ، فَهم في ظُلُماتٍ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، أوْ بِتَكْثِيرِ خَوْفِهِمْ ورُعْبِهِمُ المُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرْكُ مُجاهَرَتِهِمْ بِالكُفْرِ بِسَبَبِ (p-150)إمْدادِ اللَّهِ تَعالى الإسْلامَ، ورَفْعِ أعْلامِهِ عَلى أعْلامِ الإعْزازِ والِاحْتِرامِ، أوْ بِإعْظامِ الألَمِ بِزِيادَةِ الغُمُومِ، وإيقادِ نِيرانِ الهُمُومِ. ؎والغَمُّ يَخْتَرِمُ النُّفُوسَ نَحافَةً ∗∗∗ ويُشِيبُ ناصِيَةَ الصَّبِيِّ ويُهْرِمُ ويَكُونُ ذَلِكَ بِتَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى لَهُمُ المُتَجَدِّدَةِ، وفِعْلِهِمْ لَها مَعَ كُفْرِهِمْ بِها، وبِتَكْلِيفِ النَّبِيِّ ﷺ لَهم بِبَعْضِ الأُمُورِ، وتَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ الجالِبِ لِما يَكْرَهُونَهُ مِن لَوْمِهِمْ، وسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ، فَيَغْتَمُّونَ إنْ فَعَلُوا، وإنْ تَرَكُوا، ونِسْبَةُ الزِّيادَةِ إلى اللَّهِ تَعالى حَقِيقَةٌ، ولَوْ فُسِّرَتْ بِالطَّبْعِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ الفاعِلُ الحَقِيقِيُّ بِالأسْبابِ، وبِغَيْرِها، ولا يَقْبُحُ مِنهُ شَيْءٌ، وبَعْضُهم جَعَلَ الإسْنادَ مَجازًا في بَعْضِ الوُجُوهِ، ولَعَلَّهُ نَزْغَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ، وأغْرَبَ بَعْضُهم فَقالَ: الإسْنادُ مَجازِيٌّ، كَيْفَما كانَ المَرَضُ، وحُمِلَ عَلى أنَّ المُرادَ أنَّهُ لَيْسَ هُنا مَن يَزِيدُهم مَرَضًا حَقِيقَةً، عَلى رَأْيِ الشَّيْخِ عَبْدِ القاهِرِ في أنَّهُ لا يَلْزَمُ في الإسْنادِ المَجازِيِّ أنْ يَكُونَ لِلْفِعْلِ فاعِلٌ يَكُونُ الإسْنادُ إلَيْهِ حَقِيقَةً مِثْلَ: ؎يَزِيدُكَ وجْهُهُ حُسْنًا ∗∗∗ إذا ما زِدْتَهُ نَظَرًا فَتَدَبَّرْ، وإنَّما عَدّى سُبْحانَهُ الزِّيادَةَ إلَيْهِمْ لا إلى القُلُوبِ، فَلَمْ يَقُلْ: فَزادَها، إمّا ارْتِكابًا لِحَذْفِ المُضافِ أيْ فَزادَ اللَّهُ قُلُوبَهم مَرَضًا، أوْ إشارَةً إلى أنَّ مَرَضَ القَلْبِ مَرَضٌ لِسائِرِ الجَسَدِ، أوْ رَمْزًا إلى أنَّ القَلْبَ هو النَّفْسُ النّاطِقَةُ، ولَوْلاها ما كانَ الإنْسانُ إنْسانًا، وإعادَةُ مَرَضٍ مُنَكَّرًا لِكَوْنِهِ مُغايِرًا لِلْأوَّلِ، ضَرُورَةَ أنَّ المَزِيدَ يُغايِرُ المَزِيدَ عَلَيْهِ، وتَوَهَّمَ مَن زَعَمَ أنَّهُ مِن وضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، والتَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ، والألِيمُ فَعِيلٌ مِنَ الألَمِ، بِمَعْنى مُفْعِلٍ، كالسَّمِيعِ بِمَعْنى مُسْمِعٍ، وعَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن ألِمَ الثُّلاثِيِّ كَوَجِيعٍ، وإسْنادُهُ إلى العَذابِ مَجازٌ عَلى حَدِّ جَدَّ جِدُّهُ، ولَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعِلٍ، وجُعِلَ بَدِيعُ السَّماواتِ، مِن بابِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، أيْ بَدِيعَةٌ سَماواتُهُ، وسَمِيعٌ في قَوْلِهِ: ؎أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعِ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وأصْحابِي هُجُوعُ بِمَعْنى سامِعٍ، أيْ أمِن رَيْحانَةَ داعٍ مِن قَلْبِي سامِعٌ لِدُعاءِ داعِيها، بِدَلِيلِ ما بَعْدَهُ، فَإنَّ أكْثَرَ القَلَقِ والأرَقِ إنَّما يَكُونُ مِن دَواعِي النَّفْسِ، وأفْكارِها، فَعَلى هَذا يَكُونُ تَفْسِيرُهُ بِمُؤْلِمٍ اسْمِ فاعِلٍ بَيانًا لِحاصِلِ المَعْنى، وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: كُلُّ شَيْءٍ في القُرْآنِ (ألِيمٌ)، فَهو مُوجِعٌ، وقَدْ جُمِعَ لِلْمُنافِقِينَ نَوْعانِ مِنَ العَذابِ، عَظِيمٌ وألِيمٌ، وذَلِكَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ هُنا، والِانْدِراجِ مَعَ الكُفّارِ هُناكَ، قِيلَ: وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيانِ وعِيدِ النِّفاقِ والخِداعِ، والباءُ إمّا لِلسَّبَبِيَّةِ، أوْ لِلْبَدَلِيَّةِ، (وما) إمّا مَصْدَرِيَّةٌ مُؤَوَّلَةٌ بِمَصْدَرِ كانَ إنْ كانَ، أوْ بِمَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الخَبَرِ، كالكَذِبِ، وإمّا مَوْصُولَةٌ واسْتَظْهَرَهُ أبُو البَقاءِ بِأنَّ الضَّمِيرَ المُقَدَّرَ عائِدٌ عَلى ما أوْرَدَهُ في البَحْرِ، بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ثَمَّ مُقَدَّرٌ بَلْ مَن قَرَأ: (يَكْذِبُونَ) بِالتَّخْفِيفِ، وهُمُ الكُوفِيُّونَ، فالفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، ومَن قَرَأ: بِالتَّشْدِيدِ، كَنافِعٍ، وابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عُمَرَ، فالمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، والتَّقْدِيرُ بِكَوْنِهِمْ يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيما جاءَ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُشَدَّدُ في مَعْنى المُخَفَّفِ لِلْمُبالَغَةِ في الكَيْفِ كَما قالُوا، فِي: بانَ الشَّيْءُ، وبَيَّنَ، وصَدَقَ وصَدَّقَ، وقَدْ يَكُونُ التَّضْعِيفُ لِلزِّيادَةِ في الكَمِّ، كَمَوَّتَتِ الإبِلُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَذَبَ الوَحْشُ إذا جَرى ووَقَفَ لِيَنْظُرَ ما وراءَهُ، وتِلْكَ حالُ المُتَحَيِّرِ، وهي حالُ المُنافِقِ، فَفي الكَلامِ حِينَئِذٍ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، ويَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ ﷺ: «(مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ الشّاةِ العاثِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تُعِيرُ إلى هَذِهِ مَرَّةً، وإلى هَذِهِ مَرَّةً)،» والجارُّ والمَجْرُورُ صِفَةٌ لِعَذابٍ، لا لِألِيمٍ، كَما قالَهُ أبُو البَقاءِ لِأنَّ الأصْلَ في الصِّفَةِ أنْ لا تُوصَفَ، والكَذِبُ هو الإخْبارُ عَنِ الشَّيْءِ النِّسْبَةِ أوِ المَوْضُوعِ عَلى خِلافِ (p-151)ما هو عَلَيْهِ في نَفْسِ الأمْرِ عِنْدَنا، وفي الِاعْتِقادِ عِنْدَ النِّظامِ، وفِيهِما عِنْدَ الجاحِظِ، وكُلٌّ مَقْصُودٌ مَحْمُودٌ يُمْكِنُ التَّواصُلُ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ والكَذِبِ جَمِيعًا، فالكَذِبُ فِيهِ حَرامٌ لِعَدَمِ الحاجَةِ إلَيْهِ، فَإنْ لَمْ يُمْكِنْ إلّا بِالكَذِبِ، فالكَذِبُ فِيهِ مُباحٌ، إنْ كانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المَقْصُودِ مُباحًا، وواجِبٌ إنْ كانَ واجِبًا، وصُرِّحَ في الحَدِيثِ بِجَوازِهِ في ثَلاثِ مَواطِنَ، في الحَرْبِ، وإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، وكَذِبِ الرَّجُلِ لِامْرَأتِهِ لِيُرْضِيَها، ولا حَصْرَ، ولِهَذا جازَ تَلْقِينُ الَّذِينَ أقَرُّوا بِالحُدُودِ الرُّجُوعَ عَنِ الإقْرارِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُقابَلَ بَيْنَ مَفْسَدَةِ الكَذِبِ والمَفْسَدَةِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى الصِّدْقِ، فَإنْ كانَتِ المَفْسَدَةُ في الصِّدْقِ أشَدَّ ضَرَرًا فَلَهُ الكَذِبُ، وإنْ كانَ عَكْسُهُ أوْ شَكَّ حَرُمَ عَلَيْهِ، فَما قالَهُ الإمامُ البَيْضاوِيُّ عَفا اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِن أنَّ الكَذِبَ حَرامٌ كُلُّهُ يُوشِكُ أنْ يَكُونَ مِمّا سَها فِيهِ، وفي الآيَةِ تَحْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الصِّدْقِ والتَّصْدِيقِ، فَإنَّ المُؤْمِنَ إذا سَمِعَ تَرَتُّبَ العَذابِ عَلى الكَذِبِ دُونَ النِّفاقِ الَّذِي هو هو تَخَيَّلَ في نَفْسِهِ تَغْلِيظَ اسْمِ الكَذِبِ، وتَصَوَّرَ سَماجَتَهُ، فانْزَجَرَ عَنْهُ أعْظَمَ انْزِجارٍ، وهَذا ظاهِرٌ عَلى قِراءَةِ التَّخْفِيفِ، ويُمْكِنُ في غَيْرِها أيْضًا، لِأنَّ نِسْبَةَ الصّادِقِ إلى الكَذِبِ كَذِبٌ، وكَذا كَثْرَتُهُ، وإنْ تُكِلِّفَ في المَعْنى الأخِيرِ، وقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن (كَذَّبَ) المُتَعَدِّي، كَأنَّهُ يُكَذِّبُ رَأْيَهُ، فَيَقِفُ لِيَنْظُرَ، لَكِنْ لَمّا كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في هَذا المَعْنى، وكانَتْ حالَةُ المُنافِقِ شَبِيهَةً بِهَذا جازَ أنْ يُسْتَعارَ مِنهُ لَها، أمْكَنَ عَلى بُعْدٍ بَعِيدٍ ذَلِكَ التَّحْرِيضُ، ولا يَرِدُ عَلى تَحْرِيمِ الكَذِبِ في بَعْضِ وُجُوهِهِ ما رُوِيَ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ يَقُولُ: «(لَسْتُ لَها، إنِّي كَذَبْتُ ثَلاثَ كَذِباتٍ)،» وعَنى كَما في رِوايَةِ أحْمَدَ: (إنِّي سَقِيمٌ) و(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)، وقَوْلُهُ لِلْمَلِكِ في جَوابِ سُؤالِهِ عَنِ امْرَأتِهِ سارَةَ: (هِيَ أُخْتِي)، حِينَ أرادَ غَصْبَها، وكانَ مِن طَرِيقِ السِّياسَةِ التَّعَرُّضُ لِذاتِ الأزْواجِ دُونَ غَيْرِهِنَّ بِدُونِ رِضاهُنَّ، فَإنَّها إنْ كانَتْ مِنَ الكَذِبِ المُحَرَّمِ، فَأيْنَ العِصْمَةُ، وهو أبُو الأنْبِياءِ! وإنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، فَقَدْ أخْبَرَ يَوْمَ القِيامَةِ بِخِلافِ الواقِعِ، وحاشاهُ، حَيْثُ إنَّ المَفْهُومَ مِن ذَلِكَ الكَلامِ: أنِّي أذْنَبْتُ فَأسْتَحِي أنْ أشْفَعَ، وهَلْ يَسْتَحِي مِمّا لا إثْمَ فِيهِ، ولِقُوَّةِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَطَعَ الرّازِيُّ بِكَذِبِ الرِّوايَةِ صِيانَةً لِساحَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأنّا نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مِنَ المَعارِيضِ، وفِيها مَندُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ، وقَدْ صَدَرَتْ مِن سَيِّدِ أُولِي العِصْمَةِ ﷺ كَقَوْلِهِ مِمّا في حَدِيثِ الهِجْرَةِ، وتَسْمِيَتُهُ كَذِبًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ لِلِاشْتِراكِ في الصُّورَةِ، فَهي مِنَ المَعارِيضِ الصّادِقَةِ كَما سَتَراهُ بِأحْسَنِ وجْهٍ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في مَوْضِعِهِ، لَكِنَّها لَمّا كانَتْ مَبْنِيَّةً عَلى لِينِ العَرِيكَةِ مَعَ الأعْداءِ، ومِثْلُهُ مِمَّنْ تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعالى بِحِمايَتِهِ يُناسِبُهُ المُبارَزَةُ فَلِعُدُولِهِ عَنِ الأوْلى بِمَقامِهِ عَدَّ ذَلِكَ في ذَلِكَ المَقامِ ذَنْبًا، وسَمّاهُ كَذِبًا لِكَوْنِهِ عَلى صُورَتِهِ، وما وقَعَ لِنَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ في مِثْلِ هَذا المَقامِ حَتّى يَسْتَحْيِيَ مِنهُ، فَلِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، عَلى أنّا نَقُولُ: إنَّها لَوْ كانَتْ كَذِبًا حَقِيقَةٌ لا ضَرَرَ فِيها، ولا اسْتِحْياءَ مِنها، كَيْفَ، وقَدْ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(ما مِنها كَذْبَةٌ إلّا جادَلَ بِها عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعالى)» فَهي مِنَ الكَذِبِ المُباحِ، لَكِنْ لَمّا كانَ مَقامُ الشَّفاعَةِ هو المَقامُ المَحْمُودُ المَخْبُوءُ لِلْحَبِيبِ لا الخَلِيلِ أظْهَرَ الِاسْتِحْياءَ لِلدَّفْعِ عَنْهُ بِما يَظُنُّ أنَّهُ مِمّا يُوجِبُ ذَلِكَ، وهو لا يُوجِبُهُ، وفي ذَلِكَ مِنَ التَّواضُعِ، وإظْهارِ العَجْزِ، والدَّفْعِ بِالَّتِي هي أحْسَنُ مِمّا لا يَخْفى، فَكَأنَّهُ قالَ: أنا لا آمَنُ مِنَ العِتابِ عَلى كَذِبٍ مُباحٍ، فَكَيْفَ لِي بِالشَّفاعَةِ لَكم في هَذا المَقامِ، فَلْيُحْفَظْ، ثُمَّ إنَّ الإتْيانَ بِالأفْعالِ المُضارِعَةِ في أخْبارِ الأفْعالِ الماضِيَةِ النّاقِصَةِ أمْرٌ مُسْتَفِيضٌ كَأصْبَحَ يَقُولُ كَذا، وكادَتْ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهُمْ، ومَعْناهُ أنَّهُ في الماضِي كانَ مُسْتَمِرًّا مُتَجَدِّدًا بِتَعاقُبِ الأمْثالِ، والمُضِيِّ، والِاسْتِقْبالِ بِالنِّسْبَةِ لِزَمانِ الحُكْمِ، وقَدْ عُدَّ الِاسْتِمْرارُ مِن مَعانِي (كانَ)، فَلا إشْكالَ في ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ حَيْثُ دَلَّتْ (كانَ) عَلى انْتِسابِ الكَذِبِ إلَيْهِمْ في الماضِي، ويَكْذِبُونَ عَلى انْتِسابِهِ في الحالِ والِاسْتِقْبالِ (p-152)والزَّمانُ فِيهِما مُخْتَلِفٌ، ودَفْعُهُ بِأنَّ (كانَ) دالَّةٌ عَلى الِاسْتِمْرارِ في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ، (ويُكَذِّبُونَ) دَلَّ عَلى الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ الدّاخِلِ في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ عَلى عِلّاتِهِ، يُغْنِي اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وأمالَ حَمْزَةُ (فَزادَهُمْ) في عَشَرَةِ أفْعالٍ، ووافَقَهُ ابْنُ ذَكْوانَ في إمالَةِ جاءَ، وشاءَ، وزادَ هَذِهِ، وعَنْهُ خِلافٌ في (زادَ) غَيْرِها، والإمالَةُ لِتَمِيمٍ، والتَّفْخِيمُ لِلْحِجازِ، وقَدْ نَظَمَ أبُو حَيّانَ تِلْكَ العَشَرَةَ فَقالَ: ؎وعَشَرَةُ أفْعالٍ تُمالُ لِحَمْزَةَ ∗∗∗ فَجاءَ وشاءَ ضاقَ رانَ وكَمَّلا ؎بِزادَ وخابَ طابَ خافَ مَعًا وحا ∗∗∗ قَ زاغَ سِوى الأحْزابِ مَعَ صادِها فَلا
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب