الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: ٢٨].
نَجاسةُ الكافرِ مَعْنَوِيَّةٌ:
في هذا: بيانٌ لنجاسةِ المشرِكينَ، ولكنَّها نجاسةُ دِينٍ وعقيدةٍ، لا نجاسةُ جسمٍ وبدنٍ، عندَ عامَّةِ السَّلَفِ، خِلافًا للحسَنِ، فقد قال: «لا تُصافِحُوهم، فمَن صافَحَهُمْ فلْيتَوضَّأْ»، رواهُ عنه أشعثُ بنُ سَوّارٍ، عندَ الطَّبريِّ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٩٩).]].
وكان قتادةُ يَجعَلُها متعلِّقةً بالجَنابةِ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٩٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /١٧٧٥).]]، وأنّهم لا يَغتسِلونَ، ولكنَّ هذا لا يَرتفِعُ لو أنّ كافرًا اغتسَلَ، لأنّ الأمرَ عُلِّقَ بشِرْكِهِ لا بجَنابتِه، بخلافِ المسلمِ، فهو ممنوعٌ مِن دخولِ المسجِدِ لجَنابتِهِ، كما في قولِه: ﴿ولا جُنُبًا إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ﴾ [النساء: ٤٣]، وأمّا المشرِكُ، فعُلِّقَ بشِرْكِهِ: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ﴾، والجَنابةُ لا تَنْقُلُ الحُكْمَ في البَدَنِ مِن طاهرٍ إلى نَجَسٍ.
غُسْلُ الكافرِ عندَ إسلامِهِ:
ولا إشكالَ في استحبابِ اغتسالِ الكافرِ عندَ إسلامِه، وقد اغتَسَلَ ثُمامةُ بنُ أُثالٍ عندَ إسلامِه، ولا يثبُتُ دليلٌ صريحٌ في أمرِ الكافرِ عندَ إسلامِه بالغُسْلِ، وأمّا ما جاءَ مِن حديثِ أبي هُرَيْرةَ، أنّ النبيَّ ﷺ مرَّ بثُمامةَ بنِ أُثالٍ فبعَثَ به إلى حائطِ أبي طَلْحةَ، فأمَرَهُ أن يَغتسِلَ، فاغتسَلَ، وصلّى ركعتَيْنِ، فقال النبيُّ ﷺ: (لَقَدْ حَسُنَ إسْلامُ أخِيكُمْ) ـ فلا يصحُّ الأمرُ فيه، فقد أخرَجَهُ عبدُ الرَّزّاقِ، مِن حديثِ عُبَيْدِ اللهِ وعبدِ اللهِ ابنَيْ عُمرَ، عن سعيدٍ المَقبُريِّ، عن أبي هريرةَ، به[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٩٨٣٤) و(١٩٢٢٦).]].
ورواه عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْديٍّ[[أخرجه أحمد (٢ /٣٠٤).]]، وسُرَيْجٌ[[أخرجه أحمد (٢ /٤٨٣).]]، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ العُمَرِيِّ، به، بنَحْوِه، وليس فيه الأمرُ بالاغتِسالِ، وهو الصَّوابُ.
وليس في شيءٍ مِن طرُقِ الحديثِ عَن المَقْبُريِّ، أنّ النَّبيَّ ﷺ أمَر ثُمامةَ بالاغتسالِ، وإنّما هو فَعَلَهُ مِن قِبَلِ نفسِه، هكذا رواهُ الثِّقاتُ مِن أصحابِ سعيدٍ المَقْبُريِّ، كاللَّيْثِ بنِ سعدٍ عن المَقْبُريِّ، به، رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، عن اللَّيْثِ، به[[أخرجه البخاري (٤٣٧٢)، ومسلم (١٧٦٤).]]، ورواهُ مسلمٌ، عن عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن المَقبُريِّ، به[[أخرجه مسلم (١٧٦٤) (٦٠).]].
وأمّا ما جاء عن قيسِ بنِ عاصمٍ، أنّه أسلَمَ فأمَرَهُ النبيُّ ﷺ أنْ يَغتسِلَ بماءٍ وسِدْرٍ، فقد أخرَجَهُ أحمدُ وأهلُ السنن، مِن حديثِ سُفْيانَ، عن الأغَرِّ بنِ الصَّبّاحِ، عن خليفةَ بنِ حُصينٍ، عن جَدِّه قيسِ بنِ عاصمٍ، به[[أخرجه أحمد (٥ /٦١)، وأبو داود (٣٥٥)، والترمذي (٦٠٥)، والنسائي (١٨٨).]].
واختُلِفَ فيه على سُفْيانَ، فرَواهُ عنه هكذا ابنُ مَهْدِيٍّ، ويحيى بنُ سعيدٍ القطّانُ، ووكيعُ بنُ الجرّاحِ، وأبو عاصمٍ، وعبدُ الرزّاقِ، ومحمدُ بنُ كثيرٍ العَبْديُّ، وأبو عامرٍ.
وله وجهٌ آخَرُ عن وكيعِ بنِ الجرّاحِ، رواهُ أحمدُ في «مُسندِه»، فقال: حدَّثَنا وكيعٌ، حدَّثنا سُفْيانُ، عن الأغَرِّ المِنقَريِّ، عن خليفةَ بنِ حُصَيْنِ بنِ قيسِ بنِ عاصمٍ، عن أبيه، عن جَدِّه[[أخرجه أحمد (٥ /٦١).]].
ورواهُ قَبِيصةُ بنُ عُقْبةَ، عن سُفْيانَ، مِثْلَهُ، أخرَجَهُ البيهقيُّ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١ /١٧٢).]].
وأبوه لا يُعرَفُ، وخليفةُ لم يَسمَعْ مِن جدِّه، وروايتُه عنه أصَحُّ.
والحديثُ في كِلا الطَّريقَيْنِ ضعيفٌ.
وجاء في البابِ أحاديثُ فيها الأمرُ بالاغتسالِ، مِن حديثِ منصورِ بنِ عمّارٍ، عن معروفٍ أبي الخطّابِ، عن واثِلةَ بنِ الأَسْقَعِ، قال: لمّا أسلَمْتُ، أتيتُ النَّبيَّ ﷺ، فقال لي: (اغْتَسِلْ بِماءٍ وسِدْرٍ، واحْلِقْ عَنْكَ شَعَرَ الكُفْرِ)، أخرَجَهُ الطبرانيُّ[[أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (٨٨٠).]]، ومنصورُ بنُ عمّارٍ لا يُحتَجُّ به معَ صَلاحِهِ، وتفرَّدَ بالروايةِ عنه ابنُه سُلَيْمٌ، وهو ليِّنُ الحديثِ، وحديثُهُ هذا منكَرٌ.
وعند الطبرانيِّ أيضًا، مِن حديثِ قتادةَ بنِ الفضلِ، عن أبيه، حدَّثَني هشامُ بنُ قتادةَ، عن أبيه، بمعنى حديثِ واثِلةَ[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٩ /١٤) (٢٠).]]، وهو مُسلسَلٌ بالمَجاهِيلِ.
ولكنَّه لا يثبُتُ دليلٌ صريحٌ في أمرِ الكافرِ بذلك، وقد ذهَبَ مالكٌ وأحمدُ: إلى إيجابِ اغتسالِه، واستَحَبَّهُ الشافعيُّ ولم يُوجِبْهُ، وروى ابنُ وهبٍ عن مالكٍ: أنّه لا يَعرِفُ الغُسْلَ.
ومَن تأمَّلَ الصحابةَ وحالَهم، وجَدَ أنّه لم يُولَدْ في الإسلامِ ويَبلُغْ قبلَ وفاةِ النبيِّ ﷺ إلاَّ نفَرٌ قليلٌ، ومَن كان على جاهليَّةٍ ودخَلَ الإسلامَ، لو كان الاغتسالُ واجبًا، لكان عليهم جميعًا، أو على عامَّتِهم، ويَنبَغي مِثْلُ هذا أنْ يَثبُتَ به النصُّ ويَشتَهِرَ، والوفودُ الذين جاؤوا لِيُسْلِمُوا ويَذْهَبُوا لم يُؤمَروا بشيءٍ مِن ذلك، ولو أُمِرُوا، فهو أبْقى في أذهانِهم وأَولى بالذِّكْرِ، لأنّ الذِّهْنَ يَحفَظُ أوَّلَ ما يُؤمَرُ به الإنسانُ عندَ تَحوُّلِه.
ولا أعلَمُ فيه شيئًا يَصِحُّ عن أحدٍ مِن الخلفاءِ الراشِدينَ وفقهاءِ الصحابةِ، أنّه أمَرَ داخِلَ الإسلامِ أن يَغتسِلَ.
قولُه تعالى: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾:
حُكْمُ دخولِ الكافِرِ للمساجِدِ:
ويتَّفِقُ العلماءُ على حُرْمةِ الإقامةِ للكافرِ في المسجدِ الحرامِ، فلا يَتَّخِذُهُ سُكْنى ومُقامًا كسائرِ الأرضِ، لظاهرِ الآيةِ، وإنّما خِلافُهم في مرورِ الكافرِ وعُبُورِه، وأكثرُ السَّلَفِ والفقهاءِ على المنعِ، وقد جوَّز أبو حنيفةَ دخولَ الذِّمِّيِّ.
وللمسجِدِ الحرامِ تعظيمٌ وخصيصةٌ ليسَتْ لغيرِهِ مِن المساجدِ في الأرضِ، وذلك لأنّ فيه مَناسِكَ وعبادةً لا تصِحُّ في غيرِه، ولأنّه معظَّمٌ عندَ كثيرٍ مِن أهلِ الكتابِ والمشرِكينَ بخلافِ مسجدِ المدينةِ، ولهم فيه مطمَعٌ ورغبةٌ في إظهارِ العبادةِ، فمُنِعُوا مِن ذلك وشُدِّدَ عليهم، فجاءتِ الآيةُ بالنصِّ عليه بالتحريمِ، ولأنّه قِبْلةُ المُسلِمينَ، والحَدَثُ فيه ليس كغَيْرِهِ، فوجَبَ صِيانتُهُ وتعظيمُه.
واختُلِفَ في تعميمِ النَّهْيِ على سائرِ مساجدِ الأرضِ، وبالتعميمِ قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ومالكٌ، فقد روى ابنُ جَريرٍ، عن أبي عمرٍو، أنّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كتَبَ: أنِ امنَعُوا اليهودَ والنَّصارى مِن دخولِ مساجدِ المُسلِمينَ، وأتْبَعَ في نهيِهِ قولَ اللَّهِ: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [[«تفسير الطبري» (١١ /٣٩٨).]].
ولم يَقُلْ بالتعميمِ الشافعيُّ وجماعةٌ، فقد أجازَ الدخولَ بإذنِ المُسلِمينَ.
والأصلُ: أنّ عامَّةَ المساجدِ لا يَدْخُلُها إلاَّ مسلِمٌ، ما لم تَكُنْ حاجةٌ، وذلك لأمورٍ عدَّةٍ:
مـنـهـا: أنّ المساجدَ بيوتُ اللهِ، وبيوتُهُ لا يَعْمُرُها مَن لا يَعْبُدُه، وحتّى لا يَختلِطَ الإسلامُ بغيرِهِ مِن الكفرِ والشِّرْكِ، كان الأصلُ مَنعَ المشرِكِ مِن دخولِ المساجدِ، بخلافِ الحاجةِ العارضةِ، وذلك أنّ عِمارتَها مِن غيرِ أهلِها يُخالِفُ المقصودَ مِن بِنائِها.
ومنها: أنّ الإذنَ بدخولِ المشرِكينَ للمساجدِ، وجَعْلَ ذلك أصلًا كدخولِ المُسلِمينَ: يُذهِبُ فضلَ المساجدِ الذي اختَصَّتْ به عن بقاعِ الأرضِ، كما في مسلمٍ، مِن حديثِ أبي هُرَيْرةَ، قال ﷺ: (أحَبُّ البِلادِ إلى اللهِ مَساجِدُها، وأَبْغَضُ البِلادِ إلى اللهِ أسْواقُها) [[أخرجه مسلم (٦٧١).]]، فلا فَرْقَ بينَ المسجدِ والسُّوقِ، وإنّما اختَصَّتِ المساجدُ بالفضلِ، لاختصاصِ المُسلِمينَ بها، ولاختصاصِها مِن جهةِ الأصلِ بالعبادةِ، وذلك أنّ دخولَ الكافِرينَ إليها يَجعَلُهُمْ يَفعَلونَ ما يَشاؤونَ مِن اللَّغوِ والحديثِ، ولا يُفرِّقونَ بينَ حلالٍ وحرامٍ، ولا بينَ إيمانٍ ولا كفرٍ، فيَفعَلونَ ما يَفعَلونَه في سوقِهم.
ومنـهـا: أنّ اللهَ جعَل لِزُوّارِ بيتِه فضلًا ومَنزِلةً، ويُروى أنّهم زوّارُهُ وضُيُوفُهُ وأهلُه، وأنّها بيوتُ المتَّقينَ، وإذا اعتادَ المشرِكُ قَصْدَ المسجدِ، التَبَسَ هذا الفضلُ واختلَطَ بمَن لا يَستحِقُّه، وقد صحَّ عندَ عبدِ الرزّاقِ، عن أبي إسحاقَ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ الأَوْدِيِّ، قال: أخْبَرَنا رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ المَساجِدَ بُيُوتُ اللهِ فِي الأَرْضِ، وإنَّهُ لَحَقٌّ عَلى اللهِ أنْ يُكْرِمَ مَن زارَهُ فِيها) [[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٠٥٨٤).]].
ومَن اعتادَ دخولَ المسجدِ يُشهَدُ له بالإيمانِ، وهذا ظاهرُ قولِهِ تعالى: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ١٨]، ويُروى فيه مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال ﷺ: (إذا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتادُ المَسْجِدَ، فاشْهَدُوا لَهُ بِالإيمانِ)، ثمَّ تَلا قولَهُ: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ١٨]، أخرَجَه التِّرْمِذيُّ وغيرُه[[أخرجه أحمد (٣ /٧٦)، والترمذي (٣٠٩٣)، وابن ماجه (٨٠٢).]].
ومـنـها: أنّ المساجدَ مختصَّةٌ بحِصْنِها مِن الشَّيْطانِ، وشهودُ الملائكةِ فيها ليس كغيرِها، وذلك لفضلِ المكانِ وفضلِ عُمّارِه، وقد قال عبدُ الرحمنِ بنُ مَعْقِلٍ: «كُنّا نَتَحَدَّثُ أنَّ المَسْجِدَ حِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ الشَّيْطانِ»، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٤٦١٣).]].
وقد جعَلَها النبيُّ ﷺ ملجَأَ المؤمنينَ مِن الشيطانِ، كما رُوِيَ عندَ أحمدَ، مِن حديثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ، أنّ النَّبيَّ ﷺ قال: (إنَّ الشَّيْطانَ ذِئْبُ الإنْسانِ كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشّاةَ القاصِيَةَ والنّاحِيَةَ، فَإيّاكُمْ والشِّعابَ، وعَلَيْكُمْ بِالجَماعَةِ والعامَّةِ والمَسْجِدِ)[[أخرجه أحمد (٥ /٢٣٢).]].
دخولُ الكافرِ المسجِدَ على سبيلِ الاعتراضِ:
وأمّا دخولُ الكافرِ على سبيلِ الاعتراضِ والحاجةِ، كأنْ يُحبَسَ في موضعٍ لا ينجِّسُ المسجدَ، أو يُدخَلَ لِدَعْوتِهِ إلى الإسلامِ، أو لِيَعمَلَ صَنْعةً في المسجدِ لا يُحسِنُها إلاَّ هو، فلا حرَجَ في ذلك، وقد أدخَلَ النبيُّ بعضَ المشرِكينَ إلى مسجدِهِ جماعةً ومُتفرِّقينَ، كما أدخَلَ ثُمامةَ بنَ أُثالٍ، ووَفْدَ ثَقيفٍ ونَجْرانَ، ورُوِيَ عن الحسَنِ، أنّ وفدَ ثَقيفٍ قَدِموا على رسولِ اللهِ ﷺ، فضرَبَ لهم قُبَّةً في المسجدِ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، قومٌ مُشْرِكونَ؟! فقال: (إنَّ الأَرْضَ لَيْسَ عَلَيْها مِن أنْجاسِ النّاسِ شَيْءٌ، إنَّما أنْجاسُهُمْ عَلى أنْفُسِهِمْ)، رواهُ ابنُ شَبَّةَ في «تاريخِ المدينةِ»[[«تاريخ المدينة» (٢ /٥١٠).]].
حدودُ الحَرَمِ وتضعيفُ العبادةِ فيه:
وكلُّ ما كان يَحْرُمُ فيه الصَّيْدُ، وعَضْدُ الشَّجَرِ، فهو حَرَمٌ، والكعبةُ وما حولَها أعظَمُ وأشَدُّ، لكَوْنِها أقرَبَ إلى الموضعِ الذي حُرِّمَ لأَجْلِهِ حَرَمُ مَكَّةَ، فإنّما كان الحَرَمُ حَرَمًا لأَجْلِ الكَعْبةِ، ولو لم تكُنْ كعبةٌ، لم يكُنْ في مكَّةَ حَرَمٌ، ولأنّ ما حولَ الكعبةِ موضعٌ لعباداتٍ لا تُوجَدُ في سائرِ مساجدِ مَكَّةَ، كالطَّوافِ وتقبيلِ الحجَرِ واستلامِ الرُّكْنَيْنِ، ويختَصُّ بالتطهيرِ أعظَمَ مِن غيرِه.
وقد عَدَّ أكثرُ العلماءِ أنّ المسجِدَ الحرامَ هو الحَرَمُ كلُّه، وذلك أنّ اللهَ يُطلِقُ المسجِدَ الحرامَ، ويُريدُ به مَواضِعَ غيرَ الكعبةِ، كما أُسرِيَ بالنبيِّ ﷺ مِن بيتِ أمِّ هانئٍ عندَ أكثرِ المفسِّرينَ، وقد قال اللهُ تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصى﴾ [الإسراء: ١]، لأنّ بيتَها في حَرَمِ مَكَّةَ، ولكنْ في «صحيحِ البخاريِّ»، أنّه أُسرِيَ به ﷺ مِن الحِجْرِ، قال: (بَيْنَما أنا فِي الحَطِيمِ ـ ورُبَّما قالَ: فِي الحِجْرِ ـ مُضْطَجِعًا، إذْ أتانِي آتٍ) [[أخرجه البخاري (٣٨٨٧).]]، وكذلك فقد قال اللهُ عن فعلِ كفارِ قريشٍ بالنبيِّ ﷺ وأصحابِهِ: ﴿والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ﴾ [البقرة: ٢١٧]، وقريشٌ قصَدَتْ إخراجَهُمْ مِن مَكَّةَ، ولم يَقصِدُوا إخراجَهُ مِن مسجدِ الكعبةِ فحَسْبُ، ولو أرادُوا البقاءَ في حَرَمِ مَكَّةَ، لم يأذَنوا لهم ولَقَتَلوهم.
والصلاةُ في حَرَمِ مَكَّةَ كلِّه أفضَلُ مِن غيرِهِ بلا خلافٍ، ولكنَّ الخلافَ إنّما هو في دخولِ جميعِ ما في الحرَمِ مِن المساجدِ والدُّورِ في التضعيفِ، وقد كان النبيُّ ﷺ وأصحابُهُ يَحرِصونَ على الصلاةِ في الحرَمِ، ففي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ ضرَبَ قُبَّتَهُ في الحِلِّ وكان يُصلِّي في الحرَمِ، كما رواهُ أحمدُ في «مسندِهِ»، عن محمَّدِ بنِ إسحاقَ، عنِ الزُّهْريِّ، عن عُرْوةَ، عن المِسوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ ومَرْوانَ بنِ الحكَمِ، قال في حديثٍ طويلٍ: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي فِي الحَرَمِ، وهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الحِلِّ»[[أخرجه أحمد (٤ /٣٢٥).]].
وسنَدُه صحيحٌ، سَمِعه ابنُ إسحاقَ مِن الزُّهْريِّ، ومعنى اضطِرابِهِ في الحِلِّ: أنّ خِيامَهُ مُقامةٌ فيه، وهذا ظاهرُ فعلِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، ولا مُخالِفَ له مِن الصحابةِ، وقولُ عطاءٍ، ولا مُخالِفَ له مِن التابِعينَ، فقد روى أحمدُ في «مُسنَدِهِ»، مِن حديثِ عمرِو بنِ دينارٍ، عن عطاءٍ، عن رجلٍ مِن هُذَيْلٍ، قال: «رَأَيْتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرِو بنِ العاصِ ومَنزِلُهُ فِي الحِلِّ، ومَسْجِدُهُ فِي الحَرَمِ»[[أخرجه أحمد (٢ /١٩٩).]].
وفيه جهالةٌ، لكنَّه صحيحٌ مِن وجوهٍ أُخرى، وهذا المكانُ موضعٌ مشهورٌ لعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، فقد رواهُ أبو نُعَيْمٍ في «الحِلْيةِ»، عن عبدِ اللهِ بنِ باباهْ، قال: «جِئْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو بِعَرَفَةَ، ورَأَيْتُهُ قَدْ ضَرَبَ فُسْطاطًا فِي الحَرَمِ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذا؟ قالَ: تَكُونُ صَلاتِي فِي الحَرَمِ، فَإذا خَرَجْتُ إلى أهْلِي، كُنْتُ فِي الحِلِّ»[[«حلية الأولياء» (١ /٢٩٠).]].
ورواهُ عبدُ الكريمِ الجَزَرِيُّ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٨٨٧٠).]] ومنصورٌ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٤٠٩٦).]]، عن مجاهِدٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وهو صحيحٌ.
ورواهُ عنه أيضًا عطاءٌ[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٥ /١٧٩).]]، وغيرُه.
وقد روى الطبريُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءٌ: «الحرَمُ كلُّه قِبْلةٌ ومسجدٌ، قال: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ﴾، لم يَعْنِ المسجدَ وحدَهُ، إنّما عَنى مَكَّةَ والحرَمَ، قال ذلك غيرَ مرَّةٍ»[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٩٨).]].
وروى الأَزْرَقيُّ، عن عبدِ الجبّارِ بنِ الوَرْدِ المَكِّيِّ، قال: سمِعتُ عطاءَ بنَ أبي رَباحٍ يقولُ: «المسجدُ الحَرامُ الحَرَمُ كلُّه»[[«أخبار مكة» للأزرقي (٢ /٦٢).]].
وقد حكى المُحِبُّ الطبريُّ في «القِرى» الاتِّفاقَ على أنّ حُكْمَ الحَرَمِ ومكَّةَ في ذلك سواءٌ[[«القِرى، لقاصد أم القُرى» (ص٦٥٨).]]، وقد ذكَرَ في «الفروعِ»[[«الفروع» (٢ /٤٥٦).]]: أنّ ظاهرَ كلامِ أصحابِ أحمدَ أنّه المسجدُ خاصَّةً، مع فضلِ الحرَمِ على الحِلِّ، ورجَّحَهُ في «الآدابِ الشَّرعيَّةِ»[[«الآداب الشرعية» (٣ /٤٢٩).]].
والأظهَرُ: عمومُ ذلك في الحرَمِ كلِّه، وأمّا قولُهُ ﷺ: (صَلاةٌ فِيهِ أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ فِيما سِواهُ مِنَ المَساجِدِ، إلاَّ مَسْجِدَ الكَعْبَةِ) [[أخرجه مسلم (١٣٩٦).]]، فالمرادُ بـ(مسجدِ الكَعْبةِ) التعريفُ به، لا حَصْرُهُ بالكعبةِ وما أحاطَ بها، وذلك كقولِهِ تعالى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥]، وليس المرادُ بذلك أنّ الهديَ يُذبَحُ عندَ الكَعْبةِ، وإنّما في الحَرَمِ، وذلك أيضًا في قولِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ ﴾ [الحج: ٣٣]، وأكبرُ مَحِلٍّ للمَنحَرِ مِنًى، وهي مِن الحَرَمِ.
ويدلُّ على أنّ اللهَ إذا ذكَرَ المسجدَ الحرامَ أرادَ الحرَمَ كلَّه: أنّه قال: ﴿إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [التوبة: ٧]، فقال: ﴿عِنْدَ﴾، وذلك لأنّه كان في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وقد كان بينَ الحِلِّ والحَرَمِ.
وقد جعَلَ ابنُ عبّاسٍ مَكَّةَ الحرَمَ كلَّه، وصحَّ عن ابنِ عبّاسٍ ومجاهِدٍ وعطاءٍ: أنّ مَقامَ إبراهيمَ الذي يُتَّخَذُ مُصلًّى في: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلّىً﴾ [البقرة: ١٢٥] هو الحرَمُ كلُّه[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١ /٢٢٦).]].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسࣱ فَلَا یَقۡرَبُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَیۡلَةࣰ فَسَوۡفَ یُغۡنِیكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۤ إِن شَاۤءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق