الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إنْ شاءَ إنْ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ قالَ قَتادَةُ، ومَعْمَرُ بْنُ راشِدٍ، وغَيْرُهُما: صِفَةُ المُشْرِكِ بِالنَجَسِ إنَّما كانَتْ لِأنَّهُ جُنُبٌ، إذْ غُسْلُهُ مِنَ الجَنابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنى الشِرْكِ هو الَّذِي نَجَّسَهُ كَنَجاسَةِ الخَمْرِ، قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: مَن صافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَمَن قالَ: "بِسَبَبِ الجَنابَةِ" أوجَبَ الغُسْلَ عَلى مَن يُسَلِّمُ مِنَ المُشْرِكِينَ، ومَن قالَ بِالقَوْلِ الآخَرِ لَمْ يُوجِبِ الغُسْلَ، والمَذْهَبُ كُلُّهُ عَلى القَوْلِ بِإيجابِ الغُسْلِ إلّا ابْنَ عَبْدِ الحَكَمِ فَإنَّهُ قالَ: لَيْسَ بِواجِبٍ. وقَرَأ أبُو حَيَوَةَ: "نِجْسٌ" بِكَسْرِ النُونِ وسُكُونِ الجِيمِ. (p-٢٨٧)وَنَصَّ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى المُشْرِكِينَ وعَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، فَقاسَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ وغَيْرُهُ جَمِيعَ الكُفّارِ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ عَلى المُشْرِكِينَ، وقاسَ سائِرَ المَساجِدِ عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، ومَنَعَ مِن دُخُولِ الجَمِيعِ في جَمِيعِ المَساجِدِ، وكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إلى عُمّالِهِ، ونَزَعَ في كِتابِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦]، وقالَ الشافِعِيُّ: هي عامَّةٌ في الكُفّارِ خاصَّةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، فَأباحَ دُخُولَ اليَهُودِ والنَصارى والوَثَنِيِّينَ في سائِرِ المَساجِدِ، ومِن حُجَّتِهِ حَدِيثُ رَبْطِ ثُمامَةَ بْنِ أثالٍ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ " هي خاصَّةٌ في عَبَدَةِ الأوثانِ وفي المَسْجِدِ الحَرامِ، فَأباحَ دُخُولَ اليَهُودِ والنَصارى في المَسْجِدِ الحَرامِ وغَيْرِهِ، ودُخُولَ عَبَدَةِ الأوثانِ في سائِرِ المَساجِدِ، وقالَ عَطاءٌ: وصْفُ المَسْجِدِ بِالحَرامِ ومَنعُ القُرْبِ يَقْتَضِي مَنعَهم مِن جَمِيعِ الحَرَمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقُوَّةُ قَوْلِهِ: ﴿فَلا يَقْرَبُوا﴾ تَقْتَضِي أمْرَ المُسْلِمِينَ بِمَنعِهِمْ، «وَقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وقَتادَةُ: لا يَقْرَبُ المَسْجِدَ الحَرامَ مُشْرِكٌ إلّا أنْ يَكُونَ صاحِبَ جِزْيَةٍ أو عَبْدًا لِمُسْلِمٍ،» وعَبَدَةُ الأوثانِ مُشْرِكُونَ بِإجْماعٍ. واخْتُلِفَ في أهْلِ الكِتابِ فَمَذْهَبُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وغَيْرِهِ أنَّهم مُشْرِكُونَ، وقالَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ: لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ، وفائِدَةُ هَذا الخِلافِ تَتَبَيَّنُ في فِقْهِ مَناكِحِهِمْ وذَبائِحِهِمْ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ يُرِيدُ: بَعْدَ عامِ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وهو عامَ حَجَّ أبُو بَكْرٍ بِالناسِ وأذَّنَ عَلِيٌّ بِسُورَةِ بَراءَةٍ. (p-٢٨٨)وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ قالَ عَمْرُو بْنُ فائِدٍ: المَعْنى: وإذْ خِفْتُمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ عُجْمَةٌ، والمَعْنى بارِعٌ بِـ "وَإنْ"، وكانَ المُسْلِمُونَ لَمّا -مُنِعَ المُشْرِكُونَ مِنَ المَوْسِمِ وهم كانُوا يَجْلِبُونَ الأطْعِمَةَ والتِجاراتِ- قَذَفَ الشَيْطانُ في نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ الفَقْرِ، وقالُوا: مِن أيْنَ نَعِيشُ؟ فَوَعَدَهُمُ اللهُ بِأنْ يُغْنِيَهم مِن فَضْلِهِ، قالَ الضَحّاكُ: فَفَتَحَ عَلَيْهِمْ بابَ أخْذِ الجِزْيَةِ مِن أهْلِ الذِمَّةِ، بِقَوْلِهِ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَهم صاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩]، وقالَ عِكْرِمَةُ: أغْناهم بِإدْرارِ المَطَرِ عَلَيْهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأسْلَمَتِ العَرَبُ فَتَمادى حَجُّهم وتَجْرُهم وأغْنى اللهُ مِن فَضْلِهِ بِالجِهادِ والظُهُورِ عَلى الأُمَمِ. والعَيْلَةُ: الفَقْرُ، يُقالُ: عالَ الرَجُلُ يَعِيلُ عَيْلَةً إذا افْتَقَرَ، قالَ الشاعِرُ: ؎ وما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِناهُ ∗∗∗ وما يَدْرِي الغَنِيُّ مَتى يَعِيلُ وقَرَأ عَلْقَمَةُ وغَيْرُهُ مِن أصْحابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، "عائِلَةً" وهو مَصْدَرٌ كالقائِلَةِ مِن قالَ يَقِيلُ، وكالعاقِبَةِ والعافِيَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: "حالًا عائِلَةً"، وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّهُ يُقالُ: "عالَ يَعُولُ" إذا افْتَقَرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب