الباحث القرآني

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْمُشْرِكِ بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لِأَنَّهُ جُنُبٌ إِذْ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنَى الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. وَالْمَذْهَبُ كُلُّهُ عَلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ. وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ. وَلِمَالِكٍ قَوْلُ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْغُسْلَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. وَحَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ يَرُدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ. رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِثُمَامَةَ يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ [[الحائط: البستان.]] أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ صَاحِبِكُمْ) وأخرجه مسلم بمعناه. وفية: أن ثمامة لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فاغتسل. وأمر قيس ابن عَاصِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ قُبَيْلَ احْتِلَامِهِ فَغُسْلُهُ مُسْتَحَبٌّ. وَمَتَى أَسْلَمَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ. هَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْكَافِرِ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ إِظْهَارِهِ لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ إِذَا اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ مُخَالِفٌ لِلْأَثَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ مُسْلِمًا دُونَ الْقَوْلِ. هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ: إِنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَيَزْكُو بِالْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ [[راجع ج ١٤ ص ٣٢٨.]] يَرْفَعُهُ" [فاطر: ٠١]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ﴾ "فَلَا يَقْرَبُوا" نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. "الْمَسْجِدَ الْحَرامَ" هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ فَإِذًا يَحْرُمُ تَمْكِينُ الْمُشْرِكِ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ أَجْمَعَ. فَإِذَا جَاءَنَا رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْحِلِّ لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ. وَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مَسْتُورًا وَمَاتَ نُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ. فَلَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِيطَانُ وَلَا الِاجْتِيَازُ. وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا [[مخاليف جمع مخلاف، وهي قرى اليمن.]]، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمَنَ. وَيُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَجْلَاهُمْ. وَلَا يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِلِّ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَبِذَلِكَ كتب عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ وَنَزَعَ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[[راجع ج ١٢ ص ٢٦٤.]] [النور: ٣٦]. وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا مُنَاقِضٌ لِتَرْفِيعِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ). الْحَدِيثَ. وَالْكَافِرُ لَا يخلو عن ذَلِكَ. وَقَالَ ﷺ: (لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ) وَالْكَافِرُ جُنُبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى نَجَسًا. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ نَجَسَ الْعَيْنِ أَوْ مُبْعَدًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَمَنْعُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. يُقَالُ: رَجُلٌ نَجَسٌ، وَامْرَأَةٌ نَجَسٌ، وَرَجُلَانِ نَجَسٌ، وَامْرَأَتَانِ نَجَسٌ، وَرِجَالٌ نَجَسٌ، وَنِسَاءٌ نَجَسٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. فَأَمَّا النِّجْسُ (بِكَسْرِ النُّونِ وَجَزْمِ الْجِيمِ) فَلَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْسٌ. فَإِذَا أُفْرِدَ قِيلَ نَجِسٌ (بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ) وَنَجُسٌ (بِضَمِّ الْجِيمِ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، فَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ. قِيلَ لَهُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ- وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا- بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ. الثَّانِي- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلِذَلِكَ رَبَطَهُ. الثَّالِثُ- أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْفَعَ بِهَا الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَةً حُكْمَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا رَبَطَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَنْظُرَ حُسْنَ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهَا، وحسن آدا بهم فِي جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ وَيُسْلِمُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْضِعٌ يَرْبِطُونَهُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُمْنَعُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾[[راجع ج ١٠ ص ٢٠٤.]] [الاسراء: ١]. وَإِنَّمَا رُفِعَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَقْرَبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ جِزْيَةٍ أَوْ عَبْدًا كَافِرًا لِمُسْلِمٍ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (لَا يَقْرُبُ الْمَسْجِدَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَيَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ). وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعُمُومُ يَمْنَعُ الْمُشْرِكَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَعْدَ عامِهِمْ هذا﴾ فيه قولان: أحد هما- أَنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ. الثَّانِي- سَنَةَ عَشْرٍ قَالَهُ قَتَادَةُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَإِنَّ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ. وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فيه". الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قَالَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ. وَهَذِهِ عُجْمَةٌ، وَالْمَعْنَى بَارِعٌ بِ"- إِنْ". وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَوْسِمِ وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالتِّجَارَاتِ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْفَقْرِ وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ نَعِيشُ. فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الْآيَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ. فَأَخْصَبَتْ تَبَالَةُ [[تبالة: بلد باليمن خصبة. وجرش كزفر من مخاليف اليمن.]] وَجُرَشُ وَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ [[الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.]] وَكَثُرَ الْخَيْرُ. وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ: أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ وَغَيْرُهُمْ فَتَمَادَى حَجُّهُمْ وَتَجْرُهُمْ. وَأَغْنَى اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالْجِهَادِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأُمَمِ. وَالْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ. يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ. قَالَ الشَّاعِرِ [[هو أحيحة كما في اللسان.]]: وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يعيل وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ "عَائِلَةً" وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. وَكَالْعَافِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: حَالًا عَائِلَةً، وَمَعْنَاهُ خَصْلَةٌ شَاقَّةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: عَالَنِي الْأَمْرُ يَعُولُنِي: أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ. السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً لِيَعْلَمَ الْقُلُوبَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَبَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ. قَالَ ﷺ: (لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) [[الخمص والمخمصة: الجوع. والبطنة: امتلاء البطن من الطعام. أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف.]]. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي الطَّاعَاتِ فَهُوَ [السَّبَبُ [[زيادة عن ابن العربي.]]] الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ". قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾[[راجع ج ١١ ص ٢٦٣.]] [طه: ١٣٢] الثَّانِي- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[[راجع ص ١٠٤ من هذا الجزء.]] [فاطر: ١٠]. فَلَيْسَ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَهُوَ السَّمَاءُ، إِلَّا مَا يَصْعَدُ وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ. وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ وَغَرْسِ الثِّمَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ ﷺ بين أظهر هم. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبُوا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَقَالَ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾[[راجع ج ٢ ص ٢١٦.]] [البقرة: ١٧٣]. فأحل للمضطر مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ لِلْغِذَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِاكْتِسَابِهِ وَالِاغْتِذَاءِ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِانْتِظَارِ طَعَامٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي تَرْكِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ لَكَانَ لِنَفْسِهِ قَاتِلًا. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَلَوَّى مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِبَعِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهُ وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهُ وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: (اعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ). قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاءَ يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، إِنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ضِيقِ الْبُلْدَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَسُوقُونَ الْمَاءَ إِلَى بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ. هَكَذَا وَصَفَهُمِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. فَكَانُوا يَتَسَبَّبُونَ. وَكَانَ ﷺ إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا، فَلَمَّا كَثُرَ الْفَتْحُ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ خَرَجُوا وَتَأَمَّرُوا- كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ- وَمَا قَعَدُوا. ثُمَّ قِيلَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: أَعْلَاهَا كَسْبُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، قَالَ: (جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ نَبِيِّهِ ﷺ فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ، وَخَصَّهُ بِأَفْضَلِ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ لِشَرَفِهِ. الثَّانِي- أَكْلُ الرَّجُلِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، قَالَ ﷺ: (إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي التَّنْزِيلِ ﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾[[راجع ج ١١ ص ٣٢٠.]] [الأنبياء: ٨٠]، وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. الثَّالِثُ- التِّجَارَةُ، وَهِيَ كَانَتْ عَمَلَ جُلِّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا التَّنْزِيلُ فِي غَيْرِ موضع. الرَّابِعُ- الْحَرْثُ وَالْغَرْسُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ١٧.]] الْخَامِسُ- إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ وَالرُّقْيَةُ، وَقَدْ مَضَى فِي الْفَاتِحَةِ [[راجع ج ١ ص ١١٢، ١٣ ١.]]. السَّادِسُ- يَأْخُذُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ إِذَا احْتَاجَ، قَالَ ﷺ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ (. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنْ شَاءَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَوَلَّى قِسْمَتَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾[[راجع ج ١٦ ص ٨٢.]] [الزخرف: ٣٢] الآية.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب