الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿مَن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنها ومَن يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنها وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: ٨٥].
المرادُ بالشفاعةِ: أنْ يُضافَ إلى الفَرْدِ مِثلُهُ وأضعافُ ذلك لِيَعْضُدُوهُ فيما يَرْجُوهُ، وغلَبَ استعمالُهُ على ما يَقبَلُ القِسْمةَ بلا كسرٍ مِن الاثنينِ والأربعةِ، والستةِ والثمانيةِ، وتُسمّى الأعدادَ الزوجيَّةَ، ولكنَّها هنا أوسَعُ، فالمرادُ بالشفاعةِ: ما ليس بواحدٍ، فلو اعتضَدَ الفردُ الواحدُ باثنَيْنِ لِيُعِينُوهُ، عُدَّتْ شفاعةً ولو كانوا جميعًا ثلاثةً باعتبارِ النِّسْبةِ إلى الفردِ، فهم في حُكْمِ الجهةِ الواحِدةِ، وصاحبُ الحاجةِ جهةٌ أُخرى، فجهةٌ اعتضَدَتْ بجهةٍ ولو كان عددُها فردًا، فيأتي المحتاجُ بواحدٍ أو اثنَيْنِ أو ثلاثةٍ أو أكثَرَ، فيقولُ: أستشفعُ بهم عندَ سُلْطانٍ أو غنيٍّ في كذا وكذا.
الشفاعةُ وفضلُها:
والمرادُ بالشفاعةِ في الآيةِ: شفاعةُ الناسِ بعضِهم لبعضٍ، كما قاله مجاهدٌ وغيرُه[[«تفسير الطبري» (٧/٢٦٩)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٨١٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٨).]].
وفي الشفاعةِ: إعانةٌ لمَن قَصُرَتْ أسبابُه عن الوصولِ إلى مرادِه، وفي ذلك أجرٌ، وفي «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ولْيَقْضِ اللهُ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ما شاءَ)، أخرَجاهُ مِن حديثِ أبي موسى[[أخرجه البخاري (٦٠٢٦) (٨/١٢)، ومسلم (٢٦٢٧) (٤/٢٠٢٦).]].
وهو المرادُ بقولِهِ تعالى: ﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنها﴾.
والشفاعةُ تكونُ في الخيرِ وفي الشرِّ، والمرادُ بالكِفْلِ: (الحَظُّ)، وحظُّه في شفاعةِ الحرامِ: (الإثمُ).
ويُؤجَرُ الشافعُ في الخيرِ ببذلِ الشفاعةِ ولو لم يتحقَّقْ خيرٌ أو يُدفَعْ شرٌّ، ويَأْثَمُ الشافعُ في الشرِّ ولو لم يتحقَّقْ شرٌّ أو يُدفَعْ خيرٌ، لأنّ الشفاعةَ عملٌ يُحاسَبُ الإنسانُ على بَذْلِه، ثمَّ يكونُ الأجرُ والوِزْرُ بمقدارِ ما يجعَلُهُ اللهُ مِن آثارِ عَمَلِه.
الشفاعةُ الحسنةُ:
والشفاعةُ الحسنةُ: هي التي يُجلَبُ بها الحقُّ، ويُرفَعُ بها الظُّلْمُ، ويجبُ على الشافعِ أنْ يُبصِرَ فيما يَشفَعُ وما يَرفَعُ وما يَضَعُ، حتى لا يَرفَعَ شرًّا عن أحدٍ فيُوضَعَ على غيرِهِ ممَّن لا يستحقُّهُ، ويَجلِبَ خيرًا لأحدٍ بأخذِه ممَّن يستحقُّه، فلا يجوزُ له إنْ تضرَّرَ أحدٌ بشفاعتِهِ أنْ يَشفَعَ.
أخذُ الأجرِ على الشَّفاعَةِ:
والشفاعةُ زكاةُ الجاهِ، كما أنّ زكاةَ المالِ النفقةُ، ويبذُلُ الشفاعةَ صاحبُ الجاهِ ولو كان قليلًا، سواءٌ كان جاهُهُ لسُلْطانِهِ أو عِلْمِهِ أو حَسَبِهِ أو نَسَبِهِ، ولا يجوزُ أخذُ أجرةٍ على الشفاعةِ، لأنّ الشفاعةَ أخذُ حقٍّ يستحقُّهُ صاحبُهُ، أو رفعُ ظلمٍ يجبُ أنْ يُرفَعَ عنه، وأخذُ المالِ على ذلك تعطيلٌ للحقوقِ ألاَّ تتحصَّلَ إلاَّ بدفعِ المالِ لذوي الجاهِ، وألاَّ تُرفَعَ المظالِمُ عن الناسِ إلا بدفعِ المالِ لذوي الجاهِ، فيَعُمَّ الفسادُ، وتنتشِرَ الرِّشْوةُ، أو تتعطَّلَ الحقوقُ، حتى يبلُغَ الأمرُ بأنْ تُنزَلَ المظالِمُ، وتُقطَعَ السُّبُلُ، وتُؤخَذَ الحقوقُ ولا تُعادَ إلا بالمالِ، فيُروى في «المسندِ»، وعندَ أبي داودَ، مِن حديثِ القاسِمِ، عن أبي أُمامَةَ، قال ﷺ: (مَن شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفاعَةً، فَأَهْدى لَهُ هَدِيَّةً فَقَبِلَها، فَقَدْ أتى بابًا عَظِيمًا مِنَ الرِّبا)[[أخرجه أحمد (٢٢٢٥١) (٥/٢٦١)، وأبو داود (٣٥٤١) (٣/٢٩١).]].
تفرَّدَ به القاسمُ بنُ عبدِ الرحمنِ صاحبُ أبي أُمامةَ، عن أبي أمامةَ، ولا يُعرَفُ إلا مِن طريقِه، وقد رواهُ عبيدُ اللهِ بنُ أبي جعفرٍ، عن خالدِ بنِ أبي عِمرانَ، عن القاسِمِ، به.
وقال أحمدُ في عُبَيْدِ اللهِ مرةً: ضعيفٌ، وفي أُخرى قال: لا بأسَ به[[«ميزان الاعتدال» (٣/٤).]].
ولكنَّ فتوى الصحابةِ عليه، فقد صحَّ عن ابنِ مسعودٍ وأبي مسعودٍ وغيرِهما، روى أبو الضُّحا، «أنّ مسروقًا شفَعَ لرجلٍ بشفاعةٍ، فأَهْدى له جاريةً، فغَضِبَ، وقال: لو عَلِمْتُ أنّ هذا في نَفْسِكَ ما تَكَلَّمْتُ فيها، ولا أتكلَّمُ فيما بَقِيَ منها أبدًا! سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ يقولُ: مَن شَفَعَ شَفاعَةً لِيَرُدَّ بِها حَقًّا، أوْ يَرْفَعَ بِها ظُلْمًا، فَأُهْدِيَ لَهُ فَقَبِلَ، فَهُوَ سُحْتٌ، قالوا: ما كنّا نرى السُّحْتَ إلا الأخذَ على الحُكْمِ! قال: الأَخْذُ عَلى الحُكْمِ كُفْرٌ»، رواهُ الطبريُّ وغيرُه[[«تفسير الطبري» (٨/٤٣٢).]].
ومَن اشترَطَ مالًا على شفاعتِه، استعجَلَ أجْرَهُ في دُنْياهُ مع إثمِهِ على ما أخَذَ، فروى ابنُ سِيرِينَ، قال: «جاءَ عُقْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلى أهْلِهِ فَإذا هَدِيَّةٌ، فَقالَ: ما هَذا؟ فَقالُوا: الَّذِي شَفَعْتَ لَهُ، فَقالَ: أخْرِجُوها، أتَعَجَّلُ أجْرَ شَفاعَتِي فِي الدُّنْيا؟!»، أخرَجَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٠٨٦٧) (٤/٣٤٤).]].
لأنّ إعادةَ الحقوقِ فرضٌ على القادِرِ مِن الأُمَّةِ، ويقومُ بها مَن يَكفي إنْ وُجِدَ عن بقيَّتِهم، وإلاَّ أثِمَ القادرونَ جميعًا، وأخذُ الهديَّةِ على الشفاعةِ في أخذِ الحقِّ ورفعِ الظُّلْمِ: رِشْوةٌ.
وربَّما أطلَقَ بعضُ الفقهاءِ الجوازَ مُخالِفًا إجماعَ السلفِ في هذا النوعِ، فلو جاز أخذُ العطاءِ على هذا النوعِ مِن الشفاعةِ، بُذِلَتِ الشفاعةُ لِمَن لا يستحِقُّها، واشتراها أقْدَرُهُمْ على دفعِ المالِ، وتَعَطَّلَتْ عن أهلِها ومستَحِقِّيها، بل مُقتضى ذلك: جوازُ الشفاعةِ في أخذِ الزكاةِ لمستحِقِّيها، وكذلك الفيءُ وإقطاعُ الأرضِ، وبهذا يفسُدُ أهلُ الجاهِ وتَضِيعُ الحقوقُ عندَ الأمراءِ.
دفعُ الضَّرَرِ بالمالِ:
ومَن عجَزَ عن رَفْعِ الظُّلْمِ عن نفسِهِ أو أخذِ حقِّه، ولم يَجِدْ شافعًا إلاَّ بالمالِ، جاز منه، وحَرُمَ على الشافعِ، ففي «المسنَدِ»، عن عمرَ رضي الله عنه، قال ﷺ: (أما واللهِ، إنَّ أحَدَكُمْ لَيُخْرِجُ مَسْأَلَتَهُ مِن عِنْدِي يَتَأَبَّطُها)، يَعْنِي: تَكُونُ تَحْتَ إبْطِهِ، يَعْنِي: نارًا، قالَ: قالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللهِ، لِمَ تُعْطِيها إيّاهُمْ؟ قالَ: (فَما أصْنَعُ؟ يَأْبَوْنَ إلاَّ ذاكَ، ويَأْبى اللهُ لِي البُخْلَ!)[[أخرجه أحمد (١١٠٠٤) (٣/٤).]].
الفرقُ بين الجعالةِ والشفاعةِ:
والفرقُ بينَ الشفاعةِ والجِعالَةِ: أنّ الشفاعةَ تُبذَلُ بالجاهِ لا بمجرَّدِ العملِ، والجِعالةَ بالعملِ ولو مِن كلِّ أحدٍ، ولو تَبِعَ ذلك شيءٌ مِن الجاهِ غيرِ المقصودِ بِذاتِه، فالجِعالةُ: عملٌ يقومُ به كلُّ أحدٍ ويمتازُ به أهلُ الخِبْرةِ ويشترِكونَ فيه، وأمّا الشفاعةُ: فيختصُّ بها أهلُ الجاهِ، ولا يقومُ بها كلُّ أحدٍ بعملِهِ ولو كان خبيرًا، وأمّا الخبيرُ الذي اكتسَبَ الخِبْرةَ بعَمَلِه، كالخِرِّيتِ الذي يَعرِفُ الطريقَ ومسالِكَ السلامةِ وطُرُقَ الهلاكِ وجِهاتِ الأرضِ، فهذا يُستأجَرُ بالمالِ، لأنّه استُؤجِرَ لخِبْرتِهِ لا لجاهِه، فالجاهُ لا يَلزَمُ معه عملٌ أو خِبْرةٌ.
وإنْ تَبِعَ الجِعالةَ جاهٌ على سبيلِ التَّبَعِ لا الاستقلالِ، لم يَضُرَّ، وجاز أخذُ العِوَضِ.
والجاهُ نِعْمةٌ مِن اللهِ ومِنَّةٌ، فالأخذُ به دنيا يُفسِدُ رؤوسَ الأُمَّةِ ووُجَهاءَها، ويَحبِسُونَ الحقوقَ بانتظارِ المالِ، ويُعَطِّلُهُمْ عنِ التكسُّبِ مع عمومِ الناسِ، فيَكِلُهُمْ إلى التكسُّبِ بالجاهِ لا بعملِ اليدِ.
وهذا لا يُعارِضُ ما جاء في حديثِ ابنِ عمرَ في «المسنَدِ»، و«السُّننِ»: (مَن صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا، فَكافِئُوهُ) [[أخرجه أحمد (٥٣٦٥) (٢/٦٨)، وأبو داود (١٦٧٢) (٢/١٢٨)، والنسائي (٢٥٦٧) (٥/٨٢).]].
فإنّ هذا في باذِلِ الخيرِ والإحسانِ مِن غيرِ إعادةِ حقٍّ أو رفعِ ظُلْمٍ، كمَن أعانَ على حَمْلِ المتاعِ، أو إيجادِ ضالَّةٍ، أو الإمساكِ بدابَّةٍ نادَّةٍ، ونحوِ هذا.
وقولُه تعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾: المُقِيتُ في الآيةِ: الحَفِيظُ، قاله ابنُ عبّاسٍ وغيرُه[[«تفسير الطبري» (٧/٢٧١)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٨١٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠١٩).]].
واللهُ أعلَمُ.
{"ayah":"مَّن یَشۡفَعۡ شَفَـٰعَةً حَسَنَةࣰ یَكُن لَّهُۥ نَصِیبࣱ مِّنۡهَاۖ وَمَن یَشۡفَعۡ شَفَـٰعَةࣰ سَیِّئَةࣰ یَكُن لَّهُۥ كِفۡلࣱ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ مُّقِیتࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق