الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩].
ومفهومُ هذه الآيةِ: وجوبُ العدلِ بينَ النِّساءِ، وهذا لا خلافَ فيه، وقد جاء في «سنن أبي داود»، أنّ النبيَّ ﷺ قال: (مَن كانَتْ لَهُ امْرَأَتانِ، فَمالَ إلى إحْداهُما، جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ وشِقُّهُ مائِلٌ)[[أخرجه أبو داود (٢١٣٣) (٢/٢٤٢).]].
والمرادُ بالاستطاعةِ المَنفِيَّةِ مِن العدلِ في قولِه: ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ﴾: عدلُ القَلْبِ وعدمُ مَيْلِهِ لإحدى الزَّوْجاتِ، لِما جعَلَهُ اللهُ فيهِنَّ مِن تبايُنٍ يتَبايَنُ معه ميلُ القلبِ، فأمَرَ اللهُ بعدَمِ الاستجابةِ العمَليَّةِ لِميلِ القلبِ استجابةً تُؤثِّرُ على العدلِ في القَسْمِ والنَّفَقةِ والعطيَّةِ، ولذا قال: ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾.
قال ابنُ عبّاسٍ في الاستطاعةِ المنفيَّةِ: «هي الجِماعُ والحُبُّ»، رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، ورُوِيَ هذا عن عَبِيدَةَ السَّلْمانيِّ والحسَنِ وغيرِهما.
وقال الضحّاكُ: «هو الشَّهْوةُ والجِماعُ»[[«تفسير الطبري» (٧/٥٦٨ ـ ٥٧٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٤/١٠٨٣).]].
والمرادُ واحدٌ.
والميلُ المنهيُّ عنه في قولِه: ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾ هو المَيْلُ المتعمَّدُ، كما قالَهُ مجاهِدٌ وغيرُهُ[[«تفسير الطبري» (٧/٥٧٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٤/١٠٨٣).]]، وهو ميلُ النَّفْسِ بالعمَلِ بعدَمِ العدلِ في النَّفَقةِ والقَسْمِ والقولِ.
العدلُ بين الزوجاتِ:
ولا خلافَ في وجوبِ العدلِ بينَ النِّساءِ في القَسْمِ والعطيَّةِ وأصلِ النَّفَقَةِ، فيُباتُ عندَ المرأةِ كما عندَ الأُخرى، وعِمادُ القَسْمِ اللَّيْلُ، ويتساوَيانِ في العطيَّةِ، ولكنَّ النَّفَقةَ تكونُ بالعدلِ لا بالتساوي، وكذلك في القَسْمِ يجبُ العدلُ وإن لم يتحقَّقِ التساوي.
والعدلُ في النفقةِ: أن يُعطِيَ كلَّ زوجةٍ حاجتَها مِن طعامٍ وشرابٍ بحسَبِ حالِها وحاجَتِها وذُرِّيَّتِها، وقد لا يتساوَيانِ، لاختلافِ الدّارِ والحالِ والحاجةِ، والواجبُ الكفايةُ في ذلك.
ويَجِبُ في العطيَّةِ الزائدةِ على النَّفَقةِ: التساوي، سواءٌ كانتْ مالًا أو متاعًا أو عَقارًا.
العدلُ بين الزوجاتِ بالمبيتِ والقَسْمِ:
والعدلُ في القَسمِ يكونُ بالمَبيتِ بعدَدِ اللَّيالِي ولو لم يتساوَيا في وُقُوعِ الجِماعِ لأيِّ سبَبٍ نفسيٍّ، كالعَجْزِ بمرَضٍ ونحوِه، أو ميلِ النَّفْسِ، أو سببٍ شرعيٍّ، كالهَجْرِ بشَرْطِ ألاَّ يتَحقَّقَ به مَفسَدةٌ لها.
وقولُه: ﴿فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾، يَعني: لا ذاتَ زَوْجٍ تأخُذُ حقَّها منه، ولا مطلَّقةً تَستقبِلُ شأنَها، وتنتَظِرُ زَوْجًا غيرَه.
وقدِ اختلَفَ العلماءُ في المَبِيتِ والقَسْمِ به، هل يجبُ لكلِّ واحدةٍ ليلةٌ تَلي ليلةَ الأخرى، أم يجوزُ أن يَزيدَ في اللَّيالي عندَ كلِّ واحدةٍ، ويَزِيدَ مثلًا عندَ الأخرى، كلَيلتَيْنِ ليلتَيْنِ، وثلاثٍ ثلاثٍ؟ على قولَيْنِ مشهورَيْنِ:
الأوَّلُ: الجوازُ، وهو قولُ الشافعيِّ.
الثاني: عدَمُهُ، وهو قولُ مالكٍ.
والأظهَرُ: عدَمُ جوازِه إلاَّ في حالَيْنِ:
الأُولى: عندَ البِناءِ بزَوْجةٍ، فإنْ كانَتْ ثيِّبًا، مكَثَ عندَها ثلاثًا في أوَّلِ البِناءِ، وإن كانَتْ بِكرًا، مكَثَ عندَها سبعًا في أوَّلِ البناءِ، ثمَّ يعودُ لنِسائِه، والجمهورُ: أنّه يعودُ لهنَّ بلا حِسابٍ، كما فعَلَ معَ الزَّوْجةِ الجديدةِ، خلافًا لأبي حنيفةَ في أنّه يعودُ إليهنَّ بحسابٍ، مستدِلًّا بعمومِ العدلِ بينَ الزَّوْجاتِ في القَسْمِ.
واستدَلَّ مَن قال بقولِه بحديثِ أمِّ سلَمةَ، أنّ النبيَّ ﷺ قال لها: (إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وإنْ سَبَّعْتُ لَكِ، سَبَّعْتُ لِنِسائِي)، رواهُ مسلمٌ[[أخرجه مسلم (١٤٦٠) (٢/١٠٨٣).]].
وأبو حنيفةَ وأصحابُهُ لا يَرَوْنَ الفرقَ بينَ البِكْرِ والثيِّبِ في الإقامةِ عندَهما، ومحمدُ بنُ الحسَنِ يَستدِلُّ بحديثِ أمِّ سلَمةَ هذا، ولا دليلَ فيه، فهو فيه أنّ لها الثلاثَ، والتسبيعُ زائدٌ، لأنّها ثيِّبٌ، فيَجِبُ تبَعًا معه العدلُ، وهو قضاءُ السَّبْعِ كلِّها، لا قضاءُ الأربعِ الزّائدةِ على الثلاثِ، لأنّ تتابُعَ السبعِ مؤثِّرٌ، بخلافِ تتابُعِ الثلاثِ، فهو أخفُّ.
وما رواهُ الدّارَقُطنيُّ في هذا الحديثِ: (إنْ شِئْتِ أقَمْتُ مَعَكِ ثَلاثًا خالِصَةً لَكِ، وإنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ ثُمَّ سَبَّعْتُ لِنِسائِي)، قالتْ: تُقِيمُ مَعِي ثَلاثًا خالِصَةً[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣٧٣٣) (٤/٤٣١).]]، لا يصِحُّ، وفيه الواقديُّ، وهو مُنكَرُ الحديثِ.
وحديثُ أمِّ سلَمةَ في مسلِمٍ مخصِّصٌ للأحاديثِ العامَّةِ التي يَستدِلُّ بها أبو حنيفةَ وأصحابُهُ في وجوبِ العدلِ، ولا فرقَ بينَ الجديدةِ والقديمةِ مِنَ الزَّوْجاتِ.
وحديثُ أمِّ سلَمةَ يأخُذُ به جمهورُ العُلَماءِ، كمالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وأنّ القَسْمَ للثيِّبِ ثلاثٌ لا يكونُ معها قضاءٌ، أو سَبْعٌ يكونُ معها القضاءُ، وأنّ القَسْمَ للبِكْرِ سبعٌ لا يكونُ معها القضاءُ، كما هو في الثلاثِ للثيِّبِ، كما في روايةٍ لمسلمٍ: (لَيْسَ بِكِ عَلى أهْلِكِ هَوانٌ، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وإنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ، ثُمَّ دُرْتُ)، قالتْ: ثَلِّثْ[[أخرجه مسلم (١٤٦٠) (٢/١٠٨٣).]]، وظاهرُهُ: أنّ التسبيعَ يَلزَمُ معه القضاءُ، والثلاثَ ينتهي ويدورُ بلا قضاءٍ، ولذا لم يذكُرِ الدَّوْرَ في السَّبْعِ، وإنّما ذكَرَ القضاءَ، لأنّه قدرٌ زائدٌ على الدَّوْرِ.
وفي حديثِ أمِّ سَلَمةَ: جوازُ القَسْمِ للثيِّبِ المدخولِ بها حديثًا سبعًا، زيادةً على أصلِ حقِّها في الثَّلاثِ، وأنّ ذِكْرَ السَّبْعِ دليلٌ على أنّه أقصى ما يجوزُ في القَسْمِ للمبنيِّ بها، وهي البِكْرُ، ولكنَّه حقٌّ للبِكْرِ، لا يُزادُ لها عليه، ولا يُزادُ لِغَيْرِها عليه مِن بابِ أولى، وهي الثيِّبُ، لو أرادَتْ، فهو للبِكْرِ حقٌّ، وللثيِّبِ تخييرٌ فحَسْبُ.
الثانيةُ: عندَ تَصالُحِهِنَّ وتَراضِيهِنَّ على ذلك، وذلك أنّه لو جازَ للمرأةِ أن تُسقِطَ ليلتَها وتجعلَها كلَّها للأُخرى، فإنّه يجوزُ عندَ التصالُحِ على ما دونَهُ من بابِ أولى.
واللهُ أمَرَ بالعدلِ، ومِنَ العدلِ الإتيانُ بمقصدِ المبيتِ، وحاجتُهُنَّ للمبيتِ ليست في أمرِ الجِماعِ، وإنّما هو في الإيناسِ والأمنِ مِن الطَّوارقِ، وقُرْبِ النَّفْسِ والمودَّةِ، وهذا يَفُوتُ عندَ جميعِهِنَّ لو دامَ تركُ الزَّوْجةِ لأيّامٍ مَدى أعوامٍ، ثُمَّ لو قيل بجَوازِه، فلا حَدَّ لأعلاه، فلو كان لدى الرجلِ أربعٌ، وجعَلَ لكلِّ واحدةٍ ثلاثِينَ ليلةً أو أكثرَ، فلا يُوجَدُ مِن صريحِ الشَّرعِ ما يُفرِّقُ بينَ الليلتَيْنِ والثلاثينَ ليلةً.
ومَن جوَّزَ ما زاد عن ليلةٍ واحدةٍ، فلا دليلَ يَمنعُهُ مِن الزيادةِ على أكثرَ مِن ذلك، وظاهرُ التعليلِ في منعِ الزِّيادةِ عن واحدةٍ: أظهَرُ مِن التعليلِ في منعِ ما زاد عن ليلتَيْنِ وثلاثٍ وسبعٍ وعشرٍ.
وإنْ كان الزوجُ في يومِ واحدةٍ، فله أن يتَفقَّدَ حاجةَ الأُخرى ويَطمئِنَّ عليها، ولو دخَلَ دخولًا يزيدُ عن قدرِ الحاجةِ، وقد نصَّ على جوازِه مالكٌ وغيرُهُ، وقد صحَّ مِن حديثِ عائشةَ، قالتْ: «قَلَّ يَوْمٌ إلاَّ وهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِن كُلِّ امْرَأَةٍ مِن غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتّى يَبْلُغَ إلى الَّتِي هُوَ يَوْمُها فَيَبِيتَ عِنْدَها»، رواهُ أحمد وأبو داودَ[[أخرجه أحمد (٢٤٧٦٥) (٦/١٠٧)، وأبو داود (٢١٣٥) (٢/٢٤٢).]].
وقولُهُ بعدَ ذلك: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِن سَعَتِهِ﴾ [النساء: ١٣٠] فيه إشارةٌ إلى وجوبِ الاعتمادِ على اللهِ، فكما يُعِينُ اللهُ طالِبَ الزواجِ، فإنّه يُعِينُ طالبَ الطلاقِ ما قصَدَ رِضْوانَ اللهِ واعتمَدَ عليه، ويُعينُ المتزوِّجَ، ويُعوِّضُ المطلِّقَ بخيرٍ.
{"ayah":"وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤا۟ أَن تَعۡدِلُوا۟ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِیلُوا۟ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق