﴿ٱلۡیَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلࣱّ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلࣱّ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَ وَلَا مُتَّخِذِیۤ أَخۡدَانࣲۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلۡإِیمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ [المائدة ٥]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾، ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ المُرْتَدَّ يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِن غَيْرِ شَرْطٍ زائِدٍ، ولَكِنَّهُ أشارَ في مَوْضِعٍ آخَرَ إلى أنَّ ذَلِكَ فِيما إذا ماتَ عَلى الكُفْرِ، وهو قَوْلُهُ:
﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧] .
وَمُقْتَضى الأُصُولِ حَمْلُ هَذا المُطْلَقِ عَلى هَذا المُقَيَّدِ، فَيُقَيِّدُ إحْباطَ العَمَلِ بِالمَوْتِ عَلى الكُفْرِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ ومَن وافَقَهُ، خِلافًا لِمالِكٍ القائِلِ بِإحْباطِ الرِّدَّةِ العَمَلَ مُطْلَقًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ المائِدَةِ
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ بِعُمُومِها عَلى إباحَةِ ذَبائِحِ أهْلِ الكِتابِ مُطْلَقًا ولَوْ سَمَّوْا عَلَيْها غَيْرَ اللَّهِ أوْ سَكَتُوا ولَمْ يُسَمُّوا اللَّهَ ولا غَيْرَهُ لِأنَّ الكُلَّ داخِلٌ في طَعامِهِمْ.
وَقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو أُمامَةَ ومُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ وعَطاءٌ والحُسْنُ ومَكْحُولٌ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: أنَّ المُرادَ بِطَعامِهِمْ ذَبائِحُهم.
كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ونَقَلَهُ البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ودُخُولُ ذَبائِحِهِمْ في طَعامِهِمْ أجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ مَعَ أنَّهُ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى أنَّ ما سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ لا يَجُوزُ أكْلُهُ، وعَلى أنَّ ما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ لا يَجُوزُ أكْلُهُ أيْضًا.
أمّا الَّتِي دَلَّتْ عَلى مَنعِ أكْلِ ما ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، فَكَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ .
وَقَوْلِهِ:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [المائدة: ٣] في المائِدَةِ، والنَّحْلِ
[النحل: ١٥] .
وَقَوْلِهِ في ”الأنْعامِ“:
﴿أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥] .
والمُرادُ بِالإهْلالِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ.
وَأمّا الَّتِي دَلَّتْ عَلى مَنعِ أكْلِ ما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَقَوْلِهِ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ١٢١] .
وَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَما لَكم ألّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٨ - ١١٩]، فَإنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ عَدَمُ الأكْلِ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
والجَوابُ عَنْ مِثْلِ هَذا مُشْتَمِلٌ عَلى مَبْحَثَيْنِ:
المَبْحَثُ الأوَّلُ: في وجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ عُمُومِ آيَةِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مَعَ عُمُومِ الآياتِ المُحَرِّمَةِ لِما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيما إذا سَمّى الكِتابِيُّ عَلى ذَبِيحَتِهِ غَيْرَ اللَّهِ، بِأنْ أهَلَّ بِها لِلصَّلِيبِ أوْ عِيسى أوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
المَبْحَثُ الثّانِي: في وجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْضًا مَعَ قَوْلِهِ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ فِيما إذا لَمْ يُسَمِّ الكِتابِيُّ اللَّهَ ولا غَيْرَهُ عَلى ذَبِيحَتِهِ.
أمّا المَبْحَثُ الأوَّلُ فَحاصِلُهُ أنْ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ عُمُومًا وخُصُوصًا مِن وجْهٍ، تَنْفَرِدُ آيَةُ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ في الخُبْزِ والجُبْنِ مِن طَعامِهِمْ مَثَلًا، وتَنْفَرِدُ آيَةُ:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ في ذَبْحِ الوَثَنِيِّ لِوَثَنِهِ ويَجْتَمِعانِ في ذَبِيحَةِ الكِتابِيِّ الَّتِي أهَلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ، كالصَّلِيبِ أوْ عِيسى فَعُمُومُ قَوْلِهِ:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ يَقْتَضِي تَحْرِيمَها، وعُمُومُ قَوْلِهِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ يَقْتَضِي حَلِّيَّتَها.
وَقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ أنَّ الأعَمَّيْنِ مِن وجْهٍ يَتَعارَضانِ في الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعانِ فِيها، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُما، والرّاجِحُ مِنهُما يُقَدَّمُ ويُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الآخَرِ.
كَما قَدَّمْنا في سُورَةِ ”النِّساءِ“ في الجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ [النساء: ٢٣]، مَعَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦]، وكَما أشارَ لَهُ صاحِبُ مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَإنْ يَكُ العُمُومُ مِن وجْهٍ ظَهَرْ فالحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبِرْ
فَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في هَذَيْنِ العُمُومَيْنِ أيُّهُما أرْجَحُ، فالجُمْهُورُ عَلى تَرْجِيحِ الآياتِ المُحَرِّمَةِ وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ ورِوايَةٌ عَنْ مالِكٍ ورَواهُ إسْماعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ.
كَما ذَكَرَهُ صاحِبُ المُغْنِي وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ورَبِيعَةَ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُما البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِهِ وذَكَرَهُ النَّوَوِيِّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ عَنْ عَلِيٍّ وعائِشَةَ ورَجَّحَ بَعْضُهم عُمُومَ آيَةِ التَّحْلِيلِ، بِأنَّ اللَّهَ أحَلَّ ذَبائِحَهم وهو أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ. كَما احْتَجَّ بِهِ الشَّعْبِيُّ وعَطاءٌ عَلى إباحَةِ ما أهَلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، أنَّ عُمُومَ آياتِ المَنعِ أرْجِحُ وأحَقُّ بِالِاعْتِبارِ مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. مِنها قَوْلُهُ ﷺ:
«دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ» . وقَوْلُهُ ﷺ:
«والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ» الحَدِيثَ. وقَوْلُهُ ﷺ:
«فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ» .
وَمِنها أنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلى جَلْبِ المَصالِحِ كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، ويَنْبَنِي عَلى ذَلِكَ أنَّ النَّهْيَ إذا تَعارَضَ مَعَ الإباحَةِ كَما هُنا، فالنَّهْيُ أوْلى بِالتَّقْدِيمِ والِاعْتِبارِ، لِأنَّ تَرْكَ مُباحٍ أهْوَنُ مِنِ ارْتِكابِ حَرامٍ.
بَلْ صَرَّحَ جَماهِيرُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ بِأنَّ النَّصَّ الدّالَّ عَلى الإباحَةِ في المَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ مِنَ النَّصِّ الدّالِّ عَلى نَهْيِ التَّحْرِيمِ لِأنَّ نَهْيَ التَّحْرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلى الأمْرِ الدّالِّ عَلى الوُجُوبِ لِما ذَكَرْنا مِن تَقْدِيمِ دَرْءِ المَفاسِدِ عَلى جَلْبِ المَصالِحِ، والدّالُّ عَلى الأمْرِ مُقَدَّمٌ عَلى الدّالِ عَلى الإباحَةِ لِلِاحْتِياطِ في البَراءَةِ مِن عُهْدَةِ الطَّلَبِ.
وَقَدْ أشارَ إلى هَذا صاحِبُ مَراقِي السُّعُودِ في مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبارِ المَدْلُولِ بِقَوْلِهِ:
وَناقِلٌ ومُثْبِتٌ والآمِرُ ∗∗∗ بَعْدَ النَّواهِي ثُمَّ هَذا الآخَرُ
عَلى إباحَةٍ إلخ. . .
فَإنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ”والآمِرُ بَعْدَ النَّواهِي“، أنَّ ما دَلَّ عَلى الأمْرِ بَعْدَما دَلَّ عَلى النَّهْيِ، فالدّالُّ عَلى النَّهْيِ هو المُقَدَّمُ وقَوْلُهُ: ”ثُمَّ هَذا الآخَرُ عَلى إباحَةٍ“، يَعْنِي أنَّ النَّصَّ الدّالَّ عَلى الأمْرِ مُقَدَّمٌ عَلى الإباحَةِ كَما ذَكَرْنا فَتَحَصَّلَ أنَّ الأوَّلَ النَّهْيُ فالأمْرُ فالإباحَةُ، فَظَهَرَ تَقْدِيمُ النَّهْيِ عَمّا أهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلى إباحَةِ طَعامِ أهْلِ الكِتابِ.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا فِيما حُرِّمَ عَلى أهْلِ الكِتابِ كَشَحْمِ الجَوْفِ مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ المُحَرَّمِ عَلى اليَهُودِ، هَلْ يُباحُ لِلْمُسْلِمِ مِمّا ذَبَحَهُ اليَهُودِيُّ ؟ فالجُمْهُورُ عَلى إباحَةِ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ لِأنَّ الذَّكاةَ لا تَتَجَزَّأُ، وكَرِهَهُ مالِكٌ ومَنَعَهُ بَعْضُ أصْحابِهِ كابْنِ القاسْمِ وأشْهَبَ، واحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الجُمْهُورُ بِحُجَجٍ لا يَنْهَضُ الِاحْتِجاجُ بِها عَلَيْهِمْ فِيما يَظْهَرُ، وإيضاحُ ذَلِكَ أنَّ أصْحابَ مالِكٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ قالُوا: المُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ مِن طَعامِهِمْ حَتّى يَدْخُلَ فِيما أحَلَّتْهُ الآيَةُ.
فاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الجُمْهُورُ بِما ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن تَقْرِيرِ النَّبِيِّ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى أخْذِهِ جِرابًا مِن شَحْمِ اليَهُودِ يَوْمَ خَيْبَرَ.
وَبِما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ أنَسٍ
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أضافَهُ يَهُودِيٌّ عَلى خُبْزِ شَعِيرٍ وإهالَةٍ سَنِخَةٍ» أيْ ودَكٍ مُتَغَيِّرِ الرِّيحِ، وبِقِصَّةِ الشّاةِ المَسْمُومَةِ الَّتِي سَمَّتْها اليَهُودِيَّةُ لَهُ ﷺ ونَهَشَ مِن ذِراعِها وماتَ مِنها بِشْرُ بْنُ البَراءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وهي مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ قالُوا: إنَّهُ ﷺ عَزَمَ عَلى أكْلِها هو ومَن مَعَهُ ولَمْ يَسْألْهم هَلْ نَزَعُوا مِنها ما يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ مِن شَحْمِها أوْ لا.
وَقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصالِ بِمَنزِلَةِ العُمُومِ في الأقْوالِ، كَما أشارَ لَهُ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَنَزِّلَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصالِ ∗∗∗ مَنزِلَةَ العُمُومِ في المَقالِ
والَّذِي يَظْهَرُ لِمُقَيِّدِهِ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ هَذِهِ الأدِلَّةَ لَيْسَ فِيها حُجَّةٌ عَلى أصْحابِ مالِكٍ.
أمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وحَدِيثُ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فَلَيْسَ في واحِدٍ مِنهُما النَّصُّ عَلى خُصُوصِ الشَّحْمِ المُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ، ومُطْلَقُ الشَّحْمِ لَيْسَ حَرامًا عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦]، فَما في الحَدِيثَيْنِ أعَمُّ مِن مَحَلِّ النِّزاعِ والدَّلِيلُ عَلى الأعَمِّ لَيْسَ دَلِيلًا عَلى الأخَصِّ لِأنَّ وُجُودَ الأعَمِّ لا يَقْتَضِي وُجُودَ الأخَصِّ بِإجْماعِ العُقَلاءِ.
وَمِثْلُ رَدِّ هَذا الِاحْتِجاجِ بِما ذَكَرْنا هو القادِحُ في الدَّلِيلِ المَعْرُوفِ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ بِالقَوْلِ بِالمُوجِبِ، وأشارَ لَهُ صاحِبُ مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
والقَوْلُ بِالمُوجِبِ قَدْحُهُ جَلا ∗∗∗ وهو تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مُسْجَلا
مِن مانِعٍ أنَّ الدَّلِيلَ اسْتَلْزَما ∗∗∗ لِما مِنَ الصُّوَرِ فِيهِ اخْتَصَما
أمّا القَوْلُ بِالمُوجِبِ عِنْدَ البَيانِيِّينَ فَهو مِن أقْسامِ البَدِيعِ المَعْنَوِيِّ وهو ضَرْبانِ مَعْرُوفانِ في عِلْمِ البَلاغَةِ، وقَصَدْنا هُنا القَوْلَ بِالمُوجِبِ بِالِاصْطِلاحِ الأُصُولِيِّ لا البَيانِيِّ، وأمّا تَرْكُهُ ﷺ الِاسْتِفْصالَ في شاةِ اليَهُودِيَّةِ فَلا يَخْفى أنَّهُ لا دَلِيلَ فِيهِ، لِأنَّهُ ﷺ يَنْظُرُ بِعَيْنِهِ ولا يَخْفى عَلَيْهِ شَحْمُ الجَوْفِ ولا شَحْمُ الحَوايا ولا الشَّحْمُ المُخْتَلِطُ بِعَظْمٍ، كَما هو ضَرُورِيٌّ فَلا حاجَةَ إلى السُّؤالِ عَنْ مَحْسُوسٍ حاضِرٍ.
وَأجْرى الأقْوالِ عَلى الأُصُولِ في مِثْلِ الشَّحْمِ المَذْكُورِ الكَراهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ لِعَدَمِ دَلِيلِ جازِمٍ عَلى الحِلِّ أوِ التَّحْرِيمِ، لِأنَّ ما يَعْتَقِدُ الشَّخْصُ أنَّهُ حَرامٌ عَلَيْهِ لَيْسَ مِن طَعامِهِ، والذَّكاةُ لا يَظْهَرُ تَجَزُّؤُها فَحُكْمُ المَسْألَةِ مُشْتَبِهٌ
«وَمَن تَرَكَ الشُّبَهاتِ اسْتَبْرَأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ» .
وَأمّا المَبْحَثُ الثّانِي وهو الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ مَعَ قَوْلِهِ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ فِيما إذا لَمْ يَذْكُرِ الكِتابِيُّ عَلى ذَبِيحَتِهِ اسْمَ اللَّهِ ولا اسْمَ غَيْرِهِ.
فَحاصِلُهُ أنَّ في قَوْلِهِ
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ وجْهَيْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ:
أحَدُهُما: وإلَيْهِ ذَهَبَ الشّافِعِيُّ، وذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ لَها أنَّهُ قَوِيٌّ، أنَّ المُرادَ بِما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هو ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ، فَمَبْحَثُ هَذِهِ الآيَةِ هو المَبْحَثُ الأوَّلُ بِعَيْنِهِ لا شَيْءَ آخَرَ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّها عَلى ظاهِرِها، وعَلَيْهِ فَبَيْنَ الآيَتَيْنِ أيْضًا عُمُومٌ وخُصُوصٌ مِن وجْهٍ تَنْفَرِدُ آيَةُ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ فِيما ذَبَحَهُ الكِتابِيُّ وذَكَرَ عَلَيْهِ اسْمَ اللَّهِ فَهو حَلالٌ بِلا نِزاعٍ.
وَتَنْفَرِدُ آيَةُ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ فِيما ذَبَحَهُ وثَنِيٌّ أوْ مُسْلِمٌ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَما ذَبَحَهُ الوَثَنِيُّ حَرامٌ بِلا نِزاعٍ، وما ذَبَحَهُ المُسْلِمُ مِن غَيْرِ تَسْمِيَةٍ يَأْتِي حُكْمُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ، ويَجْتَمِعانِ فِيما ذَبَحَهُ كِتابِيٌّ ولَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَيْهِ فَيُعارِضانِ فِيهِ.
فَيَدُلُّ عُمُومُ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ عَلى الإباحَةِ، ويَدُلُّ عُمُومُ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ عَلى التَّحْرِيمِ، فَيُصارُ إلى التَّرْجِيحِ كَما قَدَّمْنا.
واخْتُلِفَ في هَذَيْنِ العُمُومَيْنِ أيْضًا أيُّهُما أرْجَحُ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى تَرْجِيحِ عُمُومِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ الآيَةَ.
وَقالَ بَعْضُهم بِتَرْجِيحِ عُمُومِ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ .
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: ذَبِيحَةُ أهْلِ الكِتابِ حَلالٌ سَواءٌ ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أمْ لا، لِظاهِرِ القُرْآنِ العَزِيزِ، هَذا مَذْهَبُنا ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ.
وَحَكاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ واللَّخْمِيِّ وحَمّادِ بْنِ سُلَيْمانَ وأبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ وإسْحاقَ وغَيْرِهِمْ، فَإنْ ذَبَحُوا عَلى صَنَمٍ أوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِلَّ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَحَكى النَّوَوِيُّ القَوْلَ الآخَرَ عَنْ عَلِيٍّ أيْضًا وأبِي ثَوْرِ وعائِشَةَ وابْنِ عُمَرَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، أنَّ لِعُمُومِ كُلٍّ مِنَ الآيَتَيْنِ مُرَجِّحًا، وأنَّ مُرَجِّحَ آيَةِ التَّحْلِيلِ أقْوى وأحَقُّ بِالِاعْتِبارِ أمّا آيَةُ التَّحْلِيلِ فَيُرَجَّحُ عُمُومُها بِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّها أقَلُّ تَخْصِيصًا، وآيَةُ التَّحْرِيمِ أكْثَرُ تَخْصِيصًا، لِأنَّ الشّافِعِيَّ ومَن وافَقَهُ خَصَّصُوها بِما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وخَصَّصَها الجُمْهُورُ بِما تُرِكَتْ فِيهِ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا قائِلِينَ إنَّ تَرْكَها نِسْيانًا لا أثَرَ لَهُ وآيَةُ التَّحْلِيلِ لَيْسَ فِيها مِنَ التَّخْصِيصِ غَيْرَ صُورَةِ النِّزاعِ إلّا تَخْصِيصٌ واحِدٌ، وهو ما قَدَّمْنا مِن أنَّها مَخْصُوصَةٌ بِما لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلى القَوْلِ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ الأقَلَّ تَخْصِيصًا مُقَدَّمٌ عَلى الأكْثَرِ تَخْصِيصًا، كَما أنَّ ما لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ أصْلًا مُقَدَّمٌ عَلى ما دَخَلَهُ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ الأُصُولِيِّينَ. وخالَفَ فِيهِ السُّبْكِيُّ والصَّفِيُّ الهِنْدِيُّ، وبَيَّنَ صاحِبُ نَشْرِ البُنُودِ في شَرْحِ مَراقِي السُّعُودِ في مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ بِاعْتِبارِ حالِ المَرْوِيِّ في شَرْحِ قَوْلِهِ:
تَقْدِيمُ ما خُصَّ عَلى ما لَمْ يَخُصْ ∗∗∗ وعَكْسُهُ كُلٌّ أتى عَلَيْهِ نَصْ
أنَّ الأقَلَّ تَخَصُّصًا مُقَدَّمٌ عَلى الأكْثَرِ تَخْصِيصًا، وأنَّ ما لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ مُقَدَّمٌ عَلى ما دَخَلَهُ عِنْدَ جَماهِيرِ الأُصُولِيِّينَ، وأنَّهُ لَمْ يُخالِفْ فِيهِ إلّا السُّبْكِيُّ وصَفِيُّ الدِّينِ الهِنْدِيُّ.
والثّانِي: ما نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ونَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ البَصْرِيِّ ومَكْحُولٍ أنَّ آيَةَ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ ناسِخَةٌ لِآيَةِ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ .
وَقالَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ كَثِيرٍ: إنَّ مُرادَهم بِالنَّسْخِ التَّخْصِيصُ، ولَكِنّا قَدَّمْنا أنَّ التَّخْصِيصَ بَعْدَ العَمَلِ بِالعامِّ نَسْخٌ لِأنَّ التَّخْصِيصَ بَيانٌ والبَيانُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وقْتِ العَمَلِ.
وَيَدُلُّ لِهَذا أنَّ آيَةَ:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ مِن سُورَةِ ”الأنْعامِ“ وهي مَكِّيَّةٌ بِالإجْماعِ وآيَةُ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مِنَ ”المائِدَةِ“ وهي مِن آخِرِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ بِالمَدِينَةِ، وأمّا آيَةُ التَّحْرِيمِ فَيُرَجَّحُ عُمُومُها بِما قَدَّمْنا مِن مُرَجِّحاتِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ لِأنَّ كِلْتاهُما دَلَّتْ عَلى نَهْيٍ يَظْهَرُ تَعارُضُهُ مَعَ إباحَةٍ، وحاصِلُ هَذِهِ المَسْألَةِ أنَّ ذَبِيحَةَ الكِتابِيِّ لَها خَمْسُ حالاتٍ لا سادِسَةَ لَها:
الأُولى: أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ سَمّى اللَّهَ عَلَيْها، وفي هَذِهِ تُؤْكَلُ بِلا نِزاعٍ، ولا عِبْرَةَ بِخِلافِ الشِّيعَةِ في ذَلِكَ، لِأنَّهم لا يُعْتَدُّ بِهِمْ في الإجْماعِ.
الثّانِيَةُ: أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ أُهِلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ فَفِيها خِلافٌ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّها لا تُؤْكَلُ لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ .
الثّالِثَةُ: أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ واسْمِ غَيْرِهِ، وظاهِرُ النُّصُوصِ أنَّها لا تُؤْكَلُ أيْضًا لِدُخُولِها فِيما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
الرّابِعَةُ: أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ سَكَتَ ولَمْ يُسَمِّ اللَّهَ ولا غَيْرَهُ، فالجُمْهُورُ عَلى الإباحَةِ وهو الحَقُّ، والبَعْضُ عَلى التَّحْرِيمِ كَما تَقَدَّمَ.
الخامِسَةُ: أنْ يُجْهَلَ الأمْرُ لِكَوْنِهِ ذُبِحَ حالَةَ انْفِرادِهِ فَتُؤْكَلُ عَلى ما عَلَيْهِ جُمْهُورُ العُلَماءِ، وهو الحَقُّ إنْ لَمْ يُعْرَفِ الكِتابِيُّ بِأكْلِ المَيْتَةِ كالَّذِي يَسُلُّ عُنُقَ الدَّجاجَةِ بِيَدِهِ، فَإنْ عُرِفَ بِأكْلِ المَيْتَةِ لَمْ يُؤْكَلْ ما غابَ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ العُلَماءِ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، ويَجُوزُ أكْلُهُ عِنْدَ البَعْضِ، بَلْ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ: إذا عايَناهُ يَسُلُّ عُنُقَ الدَّجاجَةِ بِيَدِهِ، قُلْنا الأكْلُ مِنها لِأنَّها مَعَ طَعامِهِ، واللَّهُ أباحَ لَنا طَعامَهُ. واسْتَبْعَدَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هو جَدِيرٌ بِالِاسْتِبْعادِ، فَكَما أنَّ نِساءَهم يَجُوزُ نِكاحُهُنَّ ولا تَجُوزُ مُجامَعَتُهُنَّ في الحَيْضِ، فَكَذَلِكَ طَعامُهم يَجُوزُ لَنا مِن غَيْرِ إباحَةِ المَيْتَةِ، لِأنَّ غايَةَ الأمْرِ أنَّ ذَكاةَ الكِتابِيِّ تَحِلُّ مُذَكّاةً كَذَكاةِ المُسْلِمِ.
وَما وعَدْنا بِهِ مِن ذِكْرِ حُكْمِ ما ذَبَحَهُ المُسْلِمُ ولَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ. فَحاصِلُهُ أنَّ فِيهِ ثَلاثَةَ أقْوالٍ:
أرْجَحُها: وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ: أنَّهُ إنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ وإنْ تَرَكَها نِسْيانًا أُكِلَتْ لِأنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ لَسَمّى اللَّهَ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ مَن حَرَّمَ ذَبِيحَةَ النّاسِي فَقَدْ خَرَجَ مِن قَوْلِ الحُجَّةِ وخالَفَ الخَبَرَ الثّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَعْنِي بِذَلِكَ ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ إنْ نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ولِيَأْكُلْهُ» .
ثُمَّ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّ رَفْعَ الحَدِيثِ خَطَأٌ أخْطَأ فِيهِ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الجَزَرِيُّ، والصَّوابُ وقْفُهُ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ.
كَما رَواهُ بِذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُمَيْدِيُّ.
وَمِمّا اسْتَدَلَّ بِهِ البَعْضُ عَلى أكْلِ ذَبِيحَةِ النّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ دَلالَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجْماعِ عَلى العُذْرِ بِالنِّسْيانِ.
وَمِمّا اسْتَدَلَّ بِهِ البَعْضُ لِذَلِكَ حَدِيثٌ رَواهُ الحافِظُ أبُو أحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ:
«جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أرَأيْتَ الرَّجُلَ مِنّا يَذْبَحُ ويَنْسى أنْ يُسَمِّيَ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: اسْمُ اللَّهِ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ» ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذا الحَدِيثَ وضَعَّفَهُ بِأنَّ في إسْنادِهِ مَرْوانَ بْنَ سالِمٍ أبا عَبْدِ اللَّهِ الشّامِيَّ وهو ضَعِيفٌ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ ذَبِيحَةَ المُسْلِمِ تُؤْكَلُ ولَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَما تَقَدَّمَ، لِأنَّهُ يَرى أنَّهُ ما لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُرادُ بِهِ ما أهَّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ لا شَيْءَ آخَرَ، وقَدِ ادَّعى بَعْضُهُمُ انْعِقادَ الإجْماعِ قَبْلَ الشّافِعِيِّ عَلى أنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لا يُؤْكَلُ، ولِذَلِكَ قالَ أبُو يُوسُفَ وغَيْرُهُ: لَوْ حَكَمَ حاكِمٌ بِجَوازِ بَيْعِهِ لَمْ يُنَفَّذْ لِمُخالَفَتِهِ الإجْماعَ. واسْتَغْرَبَ ابْنُ كَثِيرٍ حِكايَةَ الإجْماعِ عَلى ذَلِكَ قائِلًا: إنَّ الخِلافَ فِيهِ قَبْلَ الشّافِعِيِّ مَعْرُوفٌ.
القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُسْلِمَ إذا لَمْ يُسَمِّ عَلى ذَبِيحَتِهِ لا تُؤْكَلُ مُطْلَقًا تَرَكَها عَمْدًا أوْ نِسْيانًا. وهو مَذْهَبُ داوُدَ الظّاهِرِيِّ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أنَّهُما كَرِها مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نِسْيانًا والسَّلَفُ يُطْلِقُونَ الكَراهَةَ عَلى التَّحْرِيمِ كَثِيرًا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لا يَعْتَبِرُ مُخالَفَةَ الواحِدِ أوِ الِاثْنَيْنِ لِلْجُمْهُورِ فَيَعُدُّهُ إجْماعًا مَعَ مُخالَفَةِ الواحِدِ أوِ الِاثْنَيْنِ، ولِذَلِكَ حَكى الإجْماعَ عَلى أكْلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نِسْيانًا مَعَ أنَّهُ نَقَلَ خِلافَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وابْنِ سِيرِينَ.
***مَسائِلُ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَباحِثِ
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ كَثِيرًا مِنَ العُلَماءِ مِنَ المالِكِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ وغَيْرِهِمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ما ذَبَحَهُ أُهْلُ الكِتابِ لِصَنَمٍ، وبَيْنَ ما ذَبَحُوهُ لِعِيسى أوْ جِبْرِيلَ، أوْ لِكَنائِسِهِمْ، قائِلِينَ: إنَّ الأوَّلَ مِمّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ دُونَ الثّانِي عِنْدَهم كَراهَةَ تَنْزِيهٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] .
والَّذِي يَظْهَرُ لِمُقَيِّدِهِ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ هَذا الفَرْقَ باطِلٌ بِشَهادَةِ القُرْآنِ لِأنَّ الذَّبِيحَ عَلى وجْهِ القُرْبَةِ عِبادَةٌ بِالإجْماعِ، وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [ ١٠٨ ] .
وَقالَ تَعالى:
﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ١٦٢] .
فَمَن صَرَفَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَهُ شَرِيكًا مَعَ اللَّهِ في هَذِهِ العِبادَةِ الَّتِي هي الذَّبْحُ، سَواءٌ كانَ نَبِيًّا أوْ مَلَكًا أوْ بِناءً أوْ شَجَرًا أوْ حَجَرًا أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ صالِحٍ وطالِحٍ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ تَعالى بِقَوْلِهِ:
﴿وَلا يَأْمُرَكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا﴾ [آل عمران: ٨٠] .
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ فاعِلَ ذَلِكَ كافِرٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿أيَأْمُرُكم بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٨٠] .
وَقالَ تَعالى:
﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ
[آل عمران: ٧٩] .
وَقالَ تَعالى:
﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ
[آل عمران: ٦٤]، فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَخَّصَ في أكْلِ ما ذَبَحُوهُ لِكَنائِسِهِمْ أبُو الدَّرْداءِ وأبُو أُمامَةَ الباهِلِيُّ والعِرْباضُ بْنُ سارِيَةَ والقاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ وحَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ وأبُو سَلَمَةَ الخَوْلانِيُّ وعُمَرُ بْنُ الأسْوَدِ ومَكْحُولٌ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وغَيْرُهم.
فالجَوابُ: أنَّ هَذا قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهم، وقَدْ خالَفَهم فِيهِ غَيْرُهم. ومِمَّنْ خالَفَهم أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها والإمامُ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ:
﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٥٩]، فَنَرُدُّ هَذا النِّزاعَ إلى اللَّهِ فَنَجِدُهُ حَرَّمَ ما أهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ:
﴿لِغَيْرِ اللَّهِ﴾، يَدْخُلُ فِيهِ المَلَكَ والنَّبِيَّ، كَما يَدْخُلُ فِيهِ الصَّنَمُ والنُّصُبُ والشَّيْطانُ وقَدْ وافَقُونا في مَنعِ ما ذَبَحُوهُ بِاسْمِ الصَّنَمِ، وقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ والمَلَكِ، وبَيْنَ الصَّنَمِ والنُّصُبِ، فَلَزِمَهُمُ القَوْلُ بِالمَنعِ.
وَأمّا اسْتِدْلالُهم بِقَوْلِهِ:
﴿وَما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ فَلا دَلِيلَ فِيهِ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وَما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ لَيْسَ بِمُخَصِّصٍ لِقَوْلِهِ:
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾، لِأنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ بَعْضَ ما دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ
﴿وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ أنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أفْرادِ الحُكْمِ العامِّ بِحُكْمِ العامِّ، لا يُخَصَّصُ عَلى الصَّحِيحِ وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ خِلافًا لِأبِي ثَوْرٍ مُحْتَجًّا بِأنَّهُ لا فائِدَةَ لِذِكْرِهِ إلّا التَّخْصِيصَ وأُجِيبَ مِن قِبَلِ الجُمْهُورِ بِأنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وفائِدَةُ ذِكْرِ البَعْضِ نَفْيُ احْتِمالِ إخْراجِهِ مِنَ العامِّ، فَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ ذِكْرَ البَعْضِ لا يُخَصِّصُ العامَّ سَواءٌ ذُكِرا في نَصٍّ واحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] أوْ ذُكِرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى حِدَةٍ، كَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ:
«أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» مِن حَدِيثِ مُسْلِمٍ أنَّهُ ﷺ مَرَّ بِشاةٍ مَيِّتَةٍ فَقالَ:
«هَلّا أخَذْتُمْ إهابَها» الحَدِيثَ.
فَذِكْرُ الصَّلاةِ الوُسْطى الأوَّلُ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المُحافَظَةِ عَلى غَيْرِها مِنَ الصَّلَواتِ، وَذِكْرُ إهابِ الشّاةِ في الأخِيرِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الِانْتِفاعِ بِإهابِ غَيْرِ الشّاةِ، لِأنَّ ذِكْرَ البَعْضِ لا يُخَصِّصُ العامَّ.
وَكَذَلِكَ رُجُوعُ ضَمِيرِ البَعْضِ لا يُخَصِّصُ أيْضًا عَلى الصَّحِيحِ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، فَإنَّ الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ:
﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وهو لِخُصُوصِ الرَّجْعِيّاتِ مِنَ المُطَلَّقاتِ مَعَ أنَّ تَرَبُّصَ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ عامٌّ لِلْمُطَلَّقاتِ مِن رَجْعِيّاتٍ وبَوائِنَ، وإلى هَذا أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ مُبَيِّنًا مَعَهُ أيْضًا أنَّ سَبَبَ الواقِعَةِ لا يُخَصِّصُها وأنَّ مَذْهَبَ الرّاوِي لا يُخَصِّصُ مَرْوِيَّهُ عَلى الصَّحِيحِ فِيهِما أيْضًا بِقَوْلِهِ:
وَدَعْ ضَمِيرَ البَعْضِ والأسْبابا ∗∗∗ وَذِكْرَ ما وافَقَهُ مِن مُفْرَدِ ∗∗∗ ومَذْهَبَ الرّاوِي عَلى المُعْتَمَدِ
وَرُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ وأكْثَرِ الحَنَفِيَّةِ التَّخْصِيصُ بِضَمِيرِ البَعْضِ، وعَلَيْهِ فَتَرَبُّصُ البَوائِنِ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ مَأْخُوذٌ مِن دَلِيلٍ آخَرَ.
أمّا عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ البَعْضِ فَلَمْ يُخالِفْ فِيهِ إلّا أبُو ثَوْرٍ، وتَقَدَّمَ رَدُّ مَذْهَبِهِ.
وَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ الآيَةَ مُعارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ فَإنّا نَجِدُ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِتَرْكِ مِثْلِ هَذا الَّذِي تَعارَضَتْ فِيهِ النُّصُوصُ بِقَوْلِهِ:
«دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ» .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في ذَكاةِ نَصارى العَرَبِ كَبَنِي تَغْلِبَ وتَنُوخَ وبَهْراءَ وجُذامَ ولَخْمٍ وعامِلَةَ ونَحْوِهِمْ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّ ذَبائِحَهم لا تُؤْكَلُ، قالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ ونَقَلَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ عَنْ عَلِيٍّ وعَطاءٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ أيْضًا إباحَةَ ذَكاتِهِمْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والنَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ والزُّهْرِيِّ والحَكَمِ وحَمّادٍ وأبِي حَنِيفَةَ وإسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ وأبِي ثَوْرٍ، وصَحَّحَ هَذا القَوْلَ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي مُحْتَجًّا بِعُمُومِ قَوْلِهِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ .
وَحُجَّةُ القَوْلِ الأوَّلِ ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ما نَصارى العَرَبِ بِأهْلِ كِتابٍ لا تَحِلُّ لَنا ذَبائِحُهم.
وَما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَحِلُّ ذَبائِحُ نَصارى بَنِي تَغْلِبَ لِأنَّهم دَخَلُوا في النَّصْرانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ، ولا يُعْلَمُ هَلْ دَخَلُوا في دِينِ مَن بَدَّلَ مِنهم أوْ في دِينِ مَن لَمْ يُبَدِّلْ فَصارُوا كالمَجُوسِ لَمّا أشْكَلَ أمْرُهم في الكِتابِ لَمْ تُؤْكَلْ ذَبائِحُهم، ذَكَرَ هَذا صاحِبُ المُهَذَّبِ وسَكَتَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ في الشَّرْحِ قائِلًا: إنَّهُ حُجَّةُ الشّافِعِيَّةِ في مَنعِ ذَبائِحِهِمْ، ويُفْهَمُ مِنهُ عَدَمُ إباحَةِ كُلِّ ذَكاةِ اليَهُودِ والنَّصارى اليَوْمَ لِتَبْدِيلِهِمْ لا سِيَّما فِيمَن عُرِفُوا مِنهم بِأكْلِ المَيْتَةِ كالنَّصارى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَبائِحُ المَجُوسِ لا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ ؟ قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ: هي حَرامٌ عِنْدَنا، وقالَ بِهِ جُمْهُورُ العُلَماءِ، ونَقَلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أكْثَرِ العُلَماءِ، قالَ: ومِمَّنْ قالَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى والنَّخَعِيُّ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ ومُرَّةُ الهَمْدانِيُّ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ وأحْمَدُ وإسْحاقُ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ قَوْلَهُ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ .
وَأمّا المَجُوسُ فَإنَّهم وإنْ أُخِذَتْ مِنهُمُ الجِزْيَةُ تَبَعًا وإلْحاقًا لِأهْلِ الكِتابِ فَإنَّهم لا تُؤْكَلُ ذَبائِحُهم ولا تُنْكَحُ نِساؤُهم خِلافًا لِأبِي ثَوْرٍ إبْراهِيمَ بْنِ خالِدٍ الكَلْبِيِّ أحَدِ الفُقَهاءِ مِن أصْحابِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ولَمّا قالَ ذَلِكَ واشْتُهِرَ عَنْهُ أنْكَرَ عَلَيْهِ الفُقَهاءُ حَتّى قالَ عَنْهُ الإمامُ أحْمَدُ: أبُو ثَوْرٍ كاسْمِهِ، يَعْنِي في هَذِهِ المَسْألَةِ وكَأنَّهُ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ حَدِيثٍ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ»، ولَكِنْ لَمْ يُثْبَتْ بِهَذا اللَّفْظِ.
وَإنَّما الَّذِي في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أخَذَ الجِزْيَةَ مِن مَجُوسِ هَجَرَ»، ولَوْ سَلِمَ صِحَّةُ هَذا الحَدِيثِ فَعُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الآيَةِ:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ مَفْهُومُ المُخالَفَةِ عَلى أنَّ طَعامَ مَن عَداهم مِن أهْلِ الأدْيانِ لا يَحِلُّ، انْتَهى كَلامُ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ واعْتَرَضَ عَلَيْهِ في الحاشِيَةِ الشَّيْخُ السَّيِّدُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا بِما نَصُّهُ فِيهِ: إنَّ هَذا مَفْهُومُ لَقَبٍ وهو لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الصَّوابُ مَعَ الحافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، واعْتِراضُ الشَّيْخِ عَلَيْهِ سَهْوٌ مِنهُ، لِأنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ:
﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مَفْهُومُ عِلَّةٍ لا مَفْهُومُ لَقَبٍ، كَما ظَنَّهُ الشَّيْخُ لِأنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ في اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ هو ما عَلِقَ فِيهِ الحُكْمُ بِاسْمٍ جامِدٍ سَواءٌ كانَ اسْمَ جِنْسٍ أوِ اسْمَ عَيْنٍ أوِ اسْمَ جَمْعٍ، وضابِطُهُ أنَّهُ هو الَّذِي ذُكِرَ لِيُمْكِنَ الإسْنادُ إلَيْهِ فَقَطْ لِاشْتِمالِهِ عَلى صِفَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
أمّا تَعْلِيقُ هَذا الحُكْمِ الَّذِي هو إباحَةُ طَعامِهِمْ بِالوَصْفِ بِإيتاءِ الكِتابِ فَهو تَعْلِيقُ الحُكْمِ بِعِلَّتِهِ لِأنَّ الوَصْفَ بِإيتاءِ الكِتابِ صالِحٌ لِأنَّ يَكُونَ مَناطَ الحُكْمِ بِحِلِّيَّةِ طَعامِهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ المَسْلَكُ الثّالِثُ مِن مَسالِكِ العِلَّةِ المَعْرُوفُ بِالإيماءِ والتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ مَناطَ حِلِّيَّةِ طَعامِهِمْ هو إيتاؤُهُمُ الكِتابَ، وذَلِكَ بِعَيْنِهِ هو المَناطُ لِحِلِّيَّةِ نِكاحِ نِسائِهِمْ، لِأنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ بِحِلِّيَّةِ طَعامِهِمْ ونِسائِهِمْ عَلى إيتائِهِمُ الكِتابَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِأنَّهُ عِلَّتُهُ لَما كانَ في التَّخْصِيصِ بِإيتاءِ الكِتابِ فائِدَةٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ عَلى وصْفٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّتَهُ لَكانَ حَشْوًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ عِلَّتُهُ بِمَسْلَكِ الإيماءِ والتَّنْبِيهِ.
قالَ في مَراقِي السُّعُودِ في تَعْدادِ صُوَرِ الإيماءِ:
كَما إذا سَمِعَ وصْفًا فَحَكَمْ ∗∗∗ وذِكْرُهُ في الحُكْمِ وصْفًا قَدْ ألَمْ
إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّتُهُ لَمْ يُفِدِ ∗∗∗ ومَنعُهُ مِمّا يُفِيتُ اسْتَفِدِ ∗∗∗ تَرْتِيبَهُ الحُكْمَ عَلَيْهِ واتَّضَحْ
إلخ.
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ مِنهُ قَوْلُهُ: ”اسْتَفِدِ تَرْتِيبَهُ الحُكْمَ عَلَيْهِ“، وقَوْلُهُ: ”وَذِكْرُهُ في الحُكْمِ وصْفًا إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّتُهُ لَمْ يُفِدِ“ .
وَمِمّا يُوَضِّحُ ما ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ:
﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مَوْصُولٌ وصِلَتُهُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَماءِ النَّحْوِ في المَذْهَبِ الصَّحِيحِ المَشْهُورِ أنَّ الصِّفَةَ الصَّرِيحَةَ كاسْمِ الفاعِلِ واسْمِ المَفْعُولِ الواقِعَةَ صِلَةَ ألْ بِمَثابَةِ الفِعْلِ مَعَ المَوْصُولِ، ولِذا عَمِلَ وصْفُ المُقْتَرِنِ بِألِ المَوْصُولَةِ في الماضِي لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ، كَما أشارَ لَهُ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإنْ يَكُنْ صِلَةَ ألْ فَفي المُضِي ∗∗∗ وغَيرِهِ إعْمالُهُ قَدِ ارْتُضِي
فَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِمَثابَةِ ما لَوْ قُلْتَ وطَعامُ المُؤْتِينَ الكِتابَ بِصِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ أنَّ مَفْهُومَ اسْمِ المَفْعُولِ مَفْهُومُ لَقَبٍ لِاشْتِمالِهِ عَلى أمْرٍ هو المُصْدَرُ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ المُتَّصِفُ بِهِ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ دُونَ غَيْرِهِ، كَما ذَكَرُوا في مَفْهُومِ الصِّفَةِ.
فَظَهَرَ أنَّ إيتاءَ الكِتابِ صِفَةٌ خاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وهي العِلَّةُ في إباحَةِ طَعامِهِمْ ونِكاحِ نِسائِهِمْ، فادِّعاءُ أنَّها مَفْهُومُ لَقَبٍ سَهْوٌ ظاهِرٌ.
وَظَهَرَ مِنَ التَّحْقِيقِ أنَّ المَفْهُومَ في قَوْلِهِ:
﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مَفْهُومُ عِلَّةٍ ومَفْهُومُ العِلَّةِ قِسْمٌ مِن أقْسامِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ، فالصِّفَةُ أعَمُّ مِنَ العِلَّةِ وإيضاحُهُ كَما بَيَّنَهُ القَرافِيُّ أنَّ الصِّفَةَ قَدْ تَكُونُ مُكَمِّلَةً لِلْعِلَّةِ لا عِلَّةً تامَّةً كَوُجُوبِ الزَّكاةِ في السّائِمَةِ فَإنَّ عِلَّتَهُ لَيْسَتِ السَّوْمَ فَقَطْ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَتْ في الوُحُوشِ لِأنَّها سائِمَةٌ ولَكِنَّ العِلَّةَ مِلْكُ ما يَحْصُلُ بِهِ الغِنى وهي مَعَ السَّوْمِ أتَمُّ مِنها مَعَ العَلْفِ وهَذا عِنْدَ مَن لا يَرى الزَّكاةَ في المَعْلُوفَةِ.
وَظَهَرَ أنَّ ما قالَهُ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى هو الصَّوابُ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأُصُولِ أنَّ المَفْهُومَ بِنَوْعَيْهِ مِن مُخَصَّصاتِ العُمُومِ، أمّا تَخْصِيصُ العامِّ بِمَفْهُومِ المُوافَقَةِ بِقِسْمَيْهِ فَلا خِلافَ فِيهِ.
وَمِمَّنْ حَكى الإجْماعَ عَلَيْهِ: الآمِدِيُّ والسُّبْكِيُّ في شَرْحِ المُخْتَصَرِ، ودَلِيلُ جَوازِهِ أنَّ إعْمالَ الدَّلِيلَيْنِ أوْلى مِن إلْغاءِ أحَدِهِما.
وَمِثالُهُ تَخْصِيصُ حَدِيثِ:
«لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ» أيْ يُحِلُّ العِرْضَ بِقَوْلِهِ مَطَلَنِي والعُقُوبَةَ بِالحَبْسِ فَإنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَفْهُومِ المُوافَقَةِ الَّذِي هو الفَحْوى في قَوْلِهِ:
﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣]، لِأنَّ فَحْواهُ تَحْرِيمُ أذاهُما فَلا يُحْبَسُ الوالِدُ بِدَيْنِ الوَلَدِ.
وَأمّا تَخْصِيصُهُ بِمَفْهُومِ المُخالَفَةِ فَفِيهِ خِلافٌ، والأرْجَحُ مِنهُ هو ما مَشى عَلَيْهِ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ الواسِعَةِ وهو التَّخْصِيصُ بِهِ.
والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما قَدَّمْنا مِن أنَّ إعْمالَ الدَّلِيلَيْنِ أوْلى مِن إلْغاءِ أحَدِهِما.
وَقِيلَ: لا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، ونَقَلَهُ الباجِيُّ عَنْ أكْثَرِ المالِكِيَّةِ.
وَحُجَّةُ هَذا القَوْلِ أنَّ دَلالَةَ العامِّ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَفْهُومُ بِالمَنطُوقِ وهو مُقَدَّمٌ عَلى المَفْهُومِ، ويُجابُ بِأنَّ المُقَدَّمَ عَلَيْهِ مَنطُوقٌ خاصٌّ لا ما هو مِن إفْرادِ العامِّ، فالمَفْهُومُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِأنَّ إعْمالَ الدَّلِيلَيْنِ أوْلى مِن إلْغاءِ أحَدِهِما.
واعْتَمَدَ التَّخْصِيصَ بِهِ صاحِبُ مَراقِي السُّعُودِ في قَوْلِهِ في مَبْحَثِ الخاصِّ في الكَلامِ عَلى المُخَصِّصاتِ المُنْفَصِلَةِ:
واعْتَبَرَ الإجْماعَ جُلُّ النّاسِ ∗∗∗ وقِسْمِي المَفْهُومِ كالقِياسِ
وَمِثالُ التَّخْصِيصِ بِمَفْهُومِ المُخالَفَةِ تَخْصِيصُ قَوْلِهِ ﷺ:
«فِي أرْبَعِينَ شاةً شاةٌ» الَّذِي يَشْمَلُ عُمُومُهُ السّائِمَةَ والمَعْلُوفَةَ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ:
«فِي الغَنَمِ السّائِمَةِ زَكاةٌ» عِنْدَ مَن لا يَرى الزَّكاةَ في المَعْلُوفَةِ، وهم أكْثُرْ لِأنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ غَيْرَ السّائِمَةِ لا زَكاةَ فِيها، فَيُخَصَّصُ بِذَلِكَ عُمُومُ:
«فِي أرْبَعِينَ شاةً شاةٌ» والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ما صادَهُ الكِتابِيُّ بِالجَوارِحِ والسِّلاحِ حَلالٌ لِلْمُسْلِمِ، لِأنَّ العَقْرَ ذَكاةُ الصَّيْدِ وعَلى هَذا القَوْلِ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ واللَّيْثُ والأوْزاعِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ وداوُدُ وجُمْهُورُ العُلَماءِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ.
وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ واضِحَةٌ وهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ وخالَفَ مالِكٌ وابْنُ القاسِمِ فَفَرَّقا بَيْنَ ذَبْحِ الكِتابِيِّ وصَيْدِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿تَنالُهُ أيْدِيكم ورِماحُكُمْ﴾ [المائدة: ٩٤]، لِأنَّهُ خَصَّ الصَّيْدَ بِأيْدِي المُسْلِمِينَ ورِماحِهِمْ دُونَ غَيْرِ المُسْلِمِينَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ أعْلَمُ، أنَّ هَذا الِاحْتِجاجَ لا يَنْهَضُ عَلى الجُمْهُورِ، وأنَّ الصَّوابَ مَعَ الجُمْهُورِ.
وَقَدْ وافَقَ الجُمْهُورَ مِنَ المالِكِيَّةِ أشْهَبُ وابْنُ هارُونَ وابْنُ يُونُسَ والباجِيُّ واللَّخْمِيُّ، ولِمالِكٍ في المُوازَنَةِ كَراهَتُهُ، قالَ ابْنُ بَشِيرٍ: ويُمْكِنُ حَمْلُ المُدَوَّنَةِ عَلى الكَراهَةِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ذَبائِحُ أهْلِ الكِتابِ في دارِ الحَرْبِ كَذَبائِحِهِمْ في دارِ الإسْلامِ، قالَ النَّوَوِيُّ: وهَذا لا خِلافَ فِيهِ، ونَقَلَ ابْنُ المُنْذِرِ الإجْماعَ عَلَيْهِ.