الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا مُتَّخِذِي أخْدانٍ ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ ۝﴾ [المائدة: ٥]. ذكَرَ اللهُ حِلَّ الطيِّباتِ هنا، مع ذِكْرِهِ لها قبلَ هذه الآيةِ، لإظهارِ الامتِنانِ وبيانِ النِّعْمةِ والتذكيرِ بشُكْرِها، وفيه تأكيدٌ لِما سبَقَ مِن أهميَّةِ قَرْنِ سَعَةِ الحلالِ عندَ ذِكْرِ ضِيقِ الحرامِ، حتى لا تَستثقلَه النفوسُ. وإنّما ذكَرَ اللهُ وخَصَّ هنا ممّا أحَلَّ: المطعوماتِ والمنكوحاتِ، لأنّها أظهَرُ الطيِّباتِ وأكثرُها حاجةً. طعامُ أهلِ الكتابِ: وقولُهُ تعالى: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾، المرادُ: جميعُ طعامِهِمُ الذي يكونُ منهم مذبوحًا أو مطبوخًا على الوجهِ المشروعِ، ولو كان محرَّمًا على اليهودِ في دينِهم، كشحومِ الغنمِ والبقرِ وذواتِ الظُّفُرِ، فاللهُ حرَّمَها عليهم في دينِهم: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ [الأنعام: ١٤٦]، وهذا ـ وإن لم يكنْ طعامًا لهم في دينِهم ـ فإنّه طعامٌ حلالٌ لنا ولو تَسَبَّبُوا هم فيه، وقد جاء في «الصحيحِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ، أنّه قال: «أصَبْتُ جِرابًا مِن شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قالَ: فالتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لا أُعْطِي اليَوْمَ أحَدًا مِن هَذا شَيْئًا، قالَ: فالتَفَتُّ، فَإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَبَسِّمًا»[[أخرجه مسلم (١٧٧٢) (٣ /١٣٩٣).]]. وهذا قولُ الشافعيِّ ومذهبُ الحنفيَّةِ والحنابلةِ وقولُ مالكٍ، ومنَعَ ممّا حَرُمَ عليهم ابنُ القاسمِ، وفرَّقَ أشْهَبُ بينَ ما كان محرَّمًا بالتوراةِ، فهو حرامٌ، وبينَ ما حرَّمُوه على أنفُسِهم، فهو حلالٌ. ذبائحُ نصارى العَرَب: والآيةُ عامَّةٌ في أهلِ الكتابِ، وهم كلُّ يهوديٍّ أو نصرانيٍّ عربيٍّ أو أعجميٍّ على الصحيحِ. واختُلِفَ في نصارى العربِ، كبَني تَغْلِبَ وتَنُوخَ وبَهْراءَ: وذهَبَ جمهورُ العلماءِ: إلى دخولِهم في الآيةِ، لعمومِها، والتخصيصُ يحتاجُ إلى دليلٍ. وذهَبَ الشافعيُّ: إلى تحريمِ ذبائحِ نصارى العربِ، وهذا مرويٌّ عن عمرَ وعليٍّ، فإنّهما نَهَيا عن ذبائحِ بَني تَغلِبَ، ولعمرَ قولٌ آخَرُ خلافًا لذلك، والأثرُ عن عليٍّ صحيحٌ، روى عَبِيدَةُ، عن عليٍّ، قال: «لا تَأْكُلُوا ذَبائِحَ نَصارى بَنِي تَغْلِبَ، فَإنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرانِيَّةِ إلاَّ بِشُرْبِ الخَمْرِ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٢٧١٣) (٧ /١٨٦)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ /٢٨٤)، والطبري في «تفسيره» (٨ /١٣٣).]]. وسندُهُ صحيحٌ عنه. وظاهرُ كلامِ عليٍّ: أنّه لم يُخرِجْ نصارى العربِ إلاَّ لأجلِ إعراضِهم عن دينِهم وإنِ انتسَبُوا إليه حَمِيَّةً، فهم كبعضِ الزَّنادِقةِ الذين يَنتسِبونَ للإسلامِ، ولم يُرِدْ إخراجَ مَن أقَرَّ بدِينِهِ ولم يُعرِضْ عنه، ولا أنّه أخرَجَ نصارى العربِ لكونِهِمْ عربًا. وأمّا أهلُ الكتابِ الذين يَنتسِبونَ لدينِهم تاريخًا، وهم في حقيقتِهم ملاحدةٌ لا يُؤمِنونَ بخالقٍ، كما هو كثيرٌ في الغربِ اليومَ ـ: فلا يَأخُذونَ حُكمَ أهلِ الكتابِ ولو كانوا مِن نسلِ أهلِ الكتابِ، أو كانت دولتُهم كتابيَّةً. ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ: أنّ نصارى العربِ كغيرِهم، فقد روى عِكْرِمةُ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «كُلُوا مِن ذَبائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، وتَزَوَّجُوا مِن نِسائِهِمْ»[[«تفسير الطبري» (٨ /١٣٢).]]. ورُوِيَ مِن غيرِ هذا الوجهِ، عن ابنِ عبّاسٍ، وصحَّ هذا عن ابنِ المسيَّبِ والحسنِ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٣١).]]. ذبائِحُ أصحابِ الكتبِ السماويةِ: ووقَعَ خلافٌ في بعضِ الدِّياناتِ التي تتَّصِلُ بأهلِ الكتابِ أو افترَقَتْ عنهم ببعضِ أصولِها، وذلك كالسّامِرِيَّةِ والصّابِئةِ والمجوسِ: فأمّا السامِرِيَّةُ: فهم يُؤمِنونَ بنبوَّةِ موسى وهارونَ ويُوشَعَ وإبراهيمَ ويَتَّبِعُونَهم، ويُنسَبُونَ إلى السامِرِيِّ، ولكنَّهم يُخالِفونَ اليهودَ في قِبْلَتِهم، فاليهودُ يتَّجِهونَ إلى مسجدِ بيتِ المَقْدِسِ، والسامرةُ تُصلِّي إلى جبلِ غريزيم بينَ بيتِ المَقدسِ ونابلسَ، ويرَوْنَهُ هو الطُّورَ الذي كَلَّمَ اللهُ فيه موسى، ويُخطِّئونَ اليهودَ في قِبْلَتِهم. وهم فرقتانِ: دوسانيةٌ، وكوسانيةٌ. ورُوِيَ عن عمرَ، أنّه ألحَقَهُمْ باليهودِ، وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وجزَمَ به الشافعيُّ، وأهلُ الكوفةِ لا يُلحقونَهم بأهلِ الكتابِ. وأمّا الصّابِئةُ: فاختَلَفَ السلفُ في ذلك، فلم يُلحِقْهم بأهلِ الكتابِ الأكثرُ، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ، واللهُ ذكَرَهم باسمٍ خاصٍّ في كتابِه، ولم يُسَمِّهم بأهلِ كتابٍ، ولم يَتوجَّهْ إليهم بنفسِ الخطابِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ﴾ [الحج: ١٧]، فهم طائفةٌ موحِّدونَ مِن بقايا حنيفيَّةِ إبراهيمَ قبلَ الإسلامِ، ولا يقولونَ بالتثليثِ، ويرَوْنَ خالقًا واحدًا، ومعبودًا واحدًا، وطوائفُ منهم يعملونَ بالتوراةِ والإنجيلِ قبلَ نَسْخِها، ولم يبقَ منهم اليومَ كبيرُ أحدٍ فيما أعلَمُ، وقد كان وهبُ بنُ مُنَبِّهٍ ـ وهو مِن العارِفينَ بأخبارِ السابقينَ وعقائدِهم ـ يقولُ في الصابئةِ: «هم مَن يَعرِفُ اللهَ وحدَهُ، وليستْ له شريعةٌ يعملُ بها، ولم يُحدِثْ كفرًا»، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١ /١٢٨) و(٤ /١١٧٦).]]. وقال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: «هم قومٌ يقولونَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ فقطْ، وليس لهم كتابٌ ولا نبيٌّ»[[«تفسير الطبري» (٢ /٣٦).]]. وطائفةٌ أُخرى منهم تَنصَّرَتْ، وأُخرى تَهوَّدَتْ، ودخَلَتْها الوثنيَّةُ، وإنِ اشترَكتْ مع أهلِ الكتابِ في بعضِ دِينِهم، إلاَّ أنّهم ليسوا منهم، وأهلُ الكتابِ لا يَعتبرونَهم منهم، وأكثرُهم اليومَ في العراقِ، وفيهم عبادةُ الأوثانِ والكواكبِ والنجومِ، وهؤلاء لا تَحِلُّ ذبائِحُهم ولا نساؤُهم. وأمّا المَجُوسُ: فقد حَكى الإجماعَ على تحريمِ ذبائحِهم ونِكاحِ نسائِهم: أحمدُ، وإبراهيمُ الحربيُّ، وشدَّدَ أحمدُ على أبي ثورٍ بمخالفتِهِ. وأمّا ما جاء في حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ المرفوعِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٤٢) (١ /٢٧٨)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٠٢٥) (٦ /٦٨)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٠٧٦٥) (٢ /٤٣٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ /١٨٩).]]، فلا يصحُّ بهذا اللفظِ، ولو صحَّ، فظاهرُهُ أنّه في الجِزْيَةِ، لأنّ النبيَّ ﷺ أخَذَ الجزيةَ مِن مجوسِ هَجَرَ، كما في البخاريِّ، مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ[[أخرجه البخاري (٣١٥٧) (٤ /٩٦).]]. وقولُه تعالى: ﴿وطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾، والكفارُ لا يُخاطَبونَ بالحلالِ والحرامِ ـ لأنّها فروعٌ ـ ما لم يتَّبِعُوا الأصولَ ويَنقادُوا لها، وإنّما الخِطابُ هنا لأهلِ الإيمانِ: أنّهم يَحِلُّ لهم إطعامُ أهلِ الكتابِ والإحسانُ إليهم، وإنّما قدَّمَ حِلَّ طعامِ أهلِ الكتابِ على حِلِّ طعامِ أهلِ الإيمانِ، لأنّ المؤمِنينَ أولى بالانتفاعِ مِن غيرِهم. نكاحُ الكتابيّاتِ: وقولُه تعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ قدَّمَ المؤمناتِ، لتفضيلِهِنَّ على غيرِهنَّ، ونِكاحُ المؤمِنةِ المُحْصَنَةِ أفضَلُ مِن غيرِها، لأنّ مَيْزةَ الدِّينِ أعظَمُ مِن غيرِه، ولذا في الحديثِ قال ﷺ: (إذا جاءَكُمْ مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ، فَأَنْكِحُوهُ) [[أخرجه الترمذي (١٠٨٥) (٣ /٣٨٧).]]. وللإحصانِ معانٍ متعدِّدةٌ، تقدَّمتْ في أولِ سورةِ النِّساءِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاَّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، ومِن مَعانيهِ الحريَّةُ، وأُلحِقَ وصفُ الإحصانِ بالحرائرِ، لِغَلَبةِ العَفافِ عليهنَّ بخلافِ الجَوارِي، ومِن هذا قولُهُ تعالى: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ﴾ [النساء: ٢٥]، وقد فسَّرَ ابنُ عبّاسٍ ومجاهِدٌ الإحصانَ بالحريَّةِ[[«تفسير الطبري» (٨ /١٣٩).]]. وفي الآيةِ: دَلالةٌ على تحريمِ نكاحِ الزانيةِ قبلَ توبتِها، ويأتي تفصيلُ ذلك في أولِ سورةِ النورِ إنْ شاءَ اللهُ. وإنّما أحَلَّ اللهُ نِكاحَ الكتابيَّةِ توسعةً للأمَّةِ، فإنّ أهلَ الكتابِ أكثرُ أهلِ الأرضِ، ومخالَطةُ المُسلِمِينَ لهم ومساكنتُهُمْ لهم كثيرةٌ، ودخولُهُمْ في الإسلامِ كثيرٌ، وبقاءُ قراباتِهم بينَهم وبينَ المُسلِمينَ مِن ذوي أرحامِهم كثيرةٌ، ولو حرَّمَ ذلك لَشَقَّ على المُسلِمينَ، خاصَّةً في البُلدانِ التي يتجاوَرونَ ويتخالَطونَ بينَهم فيها. وقد تقدَّمَ في سورةِ البقرةِ ذِكرُ الكلامِ على نكاحِ المُشرِكةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]، وذكَرْنا الكلامَ على نكاحِ الكتابيَّةِ. الحكمةُ من تحريمِ تزويجِ الكتابي مسلمةً: وإنّما أحَلَّ اللهُ للمؤمِنينَ طعامَ أهلِ الكتابِ ونساءَهُمْ، ولم يُحِلَّ لأهلِ الكتابِ إلا طعامَ المؤمِنينَ، لا نساءَهم، لأنّ النِّكاحَ فيه سلطانٌ وقِوامةٌ، ولا يكونُ للكافرِ على المؤمِنينَ سبيلٌ، وأمّا الطعامُ، فالتفاضُلُ وعلوُّ اليدِ فيه وقتيٌّ وعارضٌ، لا دائمٌ ولازمٌ، كالقِوامةِ والوليِّ في النِّكاحِ. وجوبُ المهرِ: وفي الآيةِ: وجوبُ المَهْرِ للمؤمنةِ والكتابيَّةِ، وذلك في قولِه تعالى: ﴿إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾، وقد تقدَّمَ الكلامُ على المَهْرِ وحُكْمِهِ في أولِ سورةِ النِّساءِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [٤]، وكذلك في البقرةِ عندَ قولِهِ: ﴿ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [٢٣٦]. أثَرُ مخالَطَةِ الكفّارِ: ولمّا أحَلَّ اللهُ نِكاحَ نساءِ أهلِ الكتابِ وأَحَلَّ طعامَهم، وكان مُقتضى ذلك المُخالَطةَ، ومُقتضى المخالَطةِ التأثُّرَ بهم، وقد يصلُ إلى حَدِّ الإعجابِ بحالِهم واستحسانِ دينِهم، قال: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾، لأنّ النفوسَ إنِ استحسَنَتِ الشيءَ، خلَطَتْ سُوءَهُ بحَسَنِه، وعَمِيَتْ عن سيِّئتِهِ ولم تَرَها كما هي، فمَن أحَبَّ، عَمِيَ عن مساوئِ محبوبِه، كما أنّ مَن كَرِهَ عَمِيَ عن محاسنِ مكروهِه، ولمّا كان إطعامُ أهلِ الكتابِ للمؤمِنينَ هديةً أو إعانةً يكسِرُ نفسَ المُنتفِعِ، لأنّ المُنفِقَ يدُهُ العُلْيا، وقد يَخلِطُ بينَ علوِّ يدِهِ وبينَ قصورِ دِينِه، فيُعجَبُ بدينِهِ فيَتَّبِعُهُ أو يضعُفُ إيمانُهُ ـ شدَّدَ اللهُ على أنّ اتِّباعَهم كفرٌ باللهِ، ومُحبِطٌ للعملِ. وفي هذا: إشارةٌ إلى أنّه ينبغي عندَ الكلامِ على مخالَطةِ أهلِ الكتابِ وبيانِ ما يجوزُ منها: أنْ يُؤكَّدَ على ما يَتْبَعُ ذلك مِن أثرٍ، وهو ميلُ القلبِ والإعجابُ الذي يُورِثُ الحبَّ ويَتْبَعُهُ الكفرُ، والعالِمُ لا يُحرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ، ولكنَّه يَحفَظُ دينَ اللهِ بالتأكيدِ عليه والاحترازِ ممّا يَنقُصُهُ أو يَنقُضُهُ، ولذا قال تعالى بعدَ ذلك: ﴿وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ ۝﴾، أي: لا يُقدِّمُ ربحَ الدُّنيا ولذَّتَها مِن مَنكَحٍ ومطعمٍ على خُسْرانِ الآخِرةِ وعذابِها. وكذلك: فإنّ مِن وُجُوهِ الختمِ بقولِهِ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾: ألاَّ يَتَوَهَّمَ متوهِّمٌ إسلامَ أهلِ الكتابِ وإيمانَهم، لأنّ اللهَ أباحَ للمؤمِنِينَ ذلك منهم ولهم، ليتَّضحَ حُكْمُ الآخِرةِ عن حُكْمِ اللهِ لهم في الدُّنيا، ومع نصِّ الآيةِ على حِلِّ النِّكاحِ، فإنّها تتضمَّنُ التزهيدَ في ذلك، حيثُ ذكَّرَ بالعاقبةِ في الآخِرةِ، فإنّ الكافرَ لن يدخُلَ جنَّةَ الآخِرةِ ولو كانتْ زوجةً، فإنّ المؤمنَ يَجِدُ في نفسِهِ أنّ زوجَهُ وأمَّ ولدِهِ تُساقُ إلى النارِ وهم إلى الجنَّةِ إنْ رَحِمَهُمُ اللهُ، وفي ذلك إشارةٌ إلى الاقترانِ بمؤمِنةٍ تَقترِنُ بزوجِها في الآخِرةِ في الجنَّةِ، كما في قولِه تعالى: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأَزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾ [الرعد: ٢٣]، وقولِهِ: ﴿هُمْ وأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلى الأَرائِكِ مُتَّكِئُونَ ۝﴾ [يس: ٥٦]، وقولِهِ: ﴿رَبَّنا وأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَّهُمْ ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأَزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ﴾ [غافر: ٨]، واللهُ أعلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب