الباحث القرآني

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) (اليوم أحلّ لكم الطيّبات) هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: (أحل لكم الطيبات) وقد تقدم بيان الطيبات، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: (اليوم يئس، واليوم أكملت) وقيل ليس المراد باليوم يوماً معيناً. وقال أبو السعود: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد، وإنما كرر للتأكيد ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، وقال القرطبي: أعاد ذكر اليوم تأكيداً، وقيل أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد، كما تقول هذه أيام فلان أي هذا أوان ظهوركم انتهى، وفيه بعد. (وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم) بخلاف الذين تمسكوا بغير التوراة والإنجيل كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم، والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في الفروع، والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح، ورجحه الخازن. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة ابن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ويدل عليه أيضاً قوله: (وما أهلّ به لغير الله). وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وآله وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصحيح أيضاً وغير ذلك. والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى، وقيل ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما من دخل بعده وهم متنصّرو العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحتهم، وبه قال علي وابن مسعود ومذهب الشافعي أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فإنه لا تحل ذبيحته. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها ثم قرأ (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وهو مذهب أبي حنيفة. وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وكذا سائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له، وخالف ذلك أبو ثور وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد: أبو ثور كاسمه في هذه المسئلة. وكأنه تمسك بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً أنه قال في المجوس " سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب " ولم يثبت بهذا اللفظ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله وهي قوله " غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم " وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب، وكان يقول إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، قال ابن كثير [[تفسير ابن كثير 2/ 20.]] وهو قول غير واحد من السلف والخلف. وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب، وقال القرطبي وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم وكذلك اليهود قال ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله، وزعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإن ذكروا غير اسم الله فيكون هذا ناسخاً لقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وليس الأمر كذلك ولا وجه للنسخ. (وطعامكم حل لهم) أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية، وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا. قال الزجاج: معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود على إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن نطعمهم من ذبائحنا، وقيل: إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين، وإباحة الذبائح حاصلة فيهما، فذكر الله ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين. ثم قال: (والمحصنات من المؤمنات) اختلف في تفسير المحصنات هنا فقيل العفائف قاله ابن عباس، وقيل الحرائر، قاله مجاهد، وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، والمحصنات مبتدأ ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم [[في " الأم " للشافعي 5/ 6 " ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنها وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين، التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم ".]]. وذكرهن توطئة وتمهيداً لقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) والمراد به الحرائر، قاله ابن عباس دون الإماء فلا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل، ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين: خوف العنت وعدم طَوْل الحرة، هكذا قال الجمهور، وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك يريد العفائف، قيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهو تخصيص بغير المخصص، وقال عبد الله بن عمر لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: (ولا تنكحوا الشركات حتى يؤمنَّ) الآية. ويجاب عنه بأن هذه الآية للكتابيات من عموم الشركات فيبنى العام على الخاص. وقد استدل من حرّم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر، وبقوله تعالى: (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، وخالفهم من قال إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم. والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه. وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح ْالحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال: بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منهما، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز التزويج بالأمة الكتابية لعموم هذه الآية. (إذا آتيتموهن أجورهن) أي مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة، وجواب إذا محذوف أي فهن حلال أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر أي حل لكم، وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه كما لا يخفى. (محصنين) أي حال كونكم اعفّاء بالنكاح وكذا قوله (غير مسافحين) أي غير مجاهرين بالزنا (ولا متخذي أخدان) الخدان يقع على الذكر والأنثى وهو الصديق في السر، والجمع أخدان أي لم يتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن محصنات. (ومن يكفر بالإيمان) أي بشرائع الإسلام والباء بمعنى عن أي يرتد، والمراد بالكفر هنا الارتداد (فقد حبط عمله) أي بطل فلا يعتد به ولو عاد إلى الإسلام ولا يثاب عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) إذا مات عليه، يعني أن تزوُّج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب