الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ولقد أنزلنا إليك آيات﴾ ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد ﷺ من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ. [[في المطبوعة: "فأطلع الله في كتابه. . " وهو كلام لا يستقيم، والصواب ما أثبت. يعني فأظهر الله هذه الخفايا، وتلك الأخبار، وما حرفوه من الأحكام في توراتهم.]] فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد ﷺ من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. ١٦٣٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. ١٦٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله ﷺ: [[في المطبوعة"القطيوني" بالقاف، وهو خطأ، وهو من بني ثعلبة بن الفطيون (بكسر الفاء وسكون الطاء، وضم الياء) . قال السهيلي: "الفطيون: كلمة عبرانية تطلق على كل من ولي أمر اليهود وملكهم". ورواية ابن جرير: "ابن صوريا"، والذي في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦"ابن صلوبا الفطيوني". وقد ذكر ابن هشام فيما روى من سيرة ابن إسحاق ١: ١٦٠ - ١٦١"الأعداء من يهود"، فعد في بني ثعلبة: ابن الفطيون: "عبد الله بن صوريا الأعور، ولم يكن في زمانه أحد أعلم بالتوارة منه، وابن صلوبا، ومخيريق. وكان حبرهم، أسلم"، ولم أستطع أن أرجح أهو: ابن صوريا، أو - ابن صلوبا - الذي كان من أمره ما كان. ولعلهما روايتان مختلفتان عن ابن إسحاق. وانظر أيضًا الأثر: ١٦٣٨.]] يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! [[في ابن هشام: "من آية فنتبعك لها، فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله: "ولقد أنزلنا إليك. . "]] فأنزل الله عز وجل: ﴿ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ ! [[الأثران: ١٦٣٧ - ١٦٣٨ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦.]] ١٦٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله ﷺ، فذكر مثله. [[الأثران: ١٦٣٧ - ١٦٣٨ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (٩٩) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ ، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى"الكفر" الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. [[انظر ما سلف ١: ٢٥٥، ٣٨٢، ٥٥٢، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٣٧.]] وكذلك بينا معنى"الفسق"، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره. [[انظر ما سلف ١: ٤٠٩ - ٤١٠، وهذا الجزء ٢: ١١٨.]] * * * فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث، وما يجحد تلك الآيات = الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم = إلا الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا ﷺ من يهود بني إسرائيل. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) ﴾ قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم"الواو" التي في قوله: ﴿أو كلما عاهدوا عهدا﴾ . فقال بعض نحويي البصريين: هي"واو" تجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل"الفاء" في قوله: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [البقرة: ٨٧] ، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه، وهي مثل"الفاء" التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا، [[لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا.]] وكقولك للرجل:"أفلا تقوم"؟ وإن شئت جعلت"الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف. وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام. * * * والصواب في ذلك عندي من القولة أنها"واو" عطف، أدخلت عليها"ألف" الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: ﴿وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور، خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا: سمعنا وعصينا﴾ ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. ثم أدخل"ألف" الاستفهام على"وكلما" فقال: (قالوا سمعنا وعصينا، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، [[انظر ما سلف ١: ٤٣٩ - ٤٤١.]] فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن"الواو" و"الفاء" من قوله: ﴿أو كلما﴾ و ﴿أفكلما﴾ زائدتان لا معنى لهما. * * * وأما"العهد"، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد ﷺ من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:- ١٦٣٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله ﷺ، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد إلينا في محمد ﷺ، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه: ﴿أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون﴾ . [[الأثر: ١٦٣٩ - في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٦، مع اختلاف يسير في اللفظ. وقد ذكر ابن هشام في ٢: ١٦١"مالك بن الصيف" وقال: "ويقال: ابن ضيف".]] ١٦٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. * * * قال أبو جعفر: وأما"النبذ" فإن أصله -في كلام العرب- الطرح، ولذلك قيل للملقوط:"المنبوذ"، [[في تفسير ابن كثير ١: ٢٤٧: "وسمى اللقيط. . " واللقيط أجود من الملقوط.]] لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ"نبيذا"، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله"مفعول" صرف إلى"فعيل"، أعني أن"النبيذ" أصله"منبوذ" ثم صرف إلى"فعيل" فقيل:"نبيذ"، كما قيل:"كف خضيب، ولحية دهين" - يعني: مخضوبة ومدهونة. [[انظر ما سلف ١: ١١٢.]] يقال منه:"نبذته أنبذه نبذا"، كما قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا [[ديوانه: ٢١ (في نفائس المخطوطات: ٢) ، وسيأتي في ٢٠: ٤٩ - ٥٠ (بولاق) ، ومجاز القرآن: ٤٨، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على ميسان، وكان كتب إليه في أمر يهمه، فشغل عنه؛ وقبل البيت: وخبرني من كنت أرسلت أنما ... أخذت كتابي معرضا بشمالكا]] * * * فمعنى قوله جل ذكره: ﴿نبذه فريق منهم﴾ ، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:- ١٦٤١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿نبذه فريق منهم﴾ يقول: نقضه فريق منهم. ١٦٤٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ﴿نبذه فريق منهم﴾ ، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: ﴿نقضه فريق منهم﴾ . * * * و"الهاء" التي في قوله: ﴿نبذه﴾ ، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم. * * * و"الفريق" الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنزلة"الجيش" و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٤٤، ٢٤٥.]] * * * و"الهاء والميم" اللتان في قوله: ﴿فريق منهم﴾ ، من ذكر اليهود من بني إسرائيل. * * * وأما قوله: ﴿بل أكثرهم لا يؤمنون﴾ فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون. * * * ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم = ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى"الإيمان"، وأنه التصديق. [[انظر ما سلف ١: ٢٣٤ - ٢٣٥، ٢٧١، ٥٦٠، وهذا الجزء ٢: ١٤٣، ٣٤٨.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب