الباحث القرآني
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أَيْ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَامَاتٍ وَاضِحَاتٍ [دَلَالَاتٍ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] عَلَى نُبُوَّتِكَ، وَتِلْكَ الْآيَاتُ هِيَ مَا حَوَاهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ خَفَايَا عُلُومِ الْيَهُودِ، وَمَكْنُونَاتِ سَرَائِرِ أَخْبَارِهِمْ، وَأَخْبَارِ أَوَائِلِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالنَّبَأِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ التِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا أحبارُهم وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَمَا حَرَّفَهُ أَوَائِلُهُمْ وَأَوَاخِرُهُمْ وَبَدَّلُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، التِي كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لِمَنْ أَنْصَفُ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَدْعُه إِلَى هَلَاكِهَا الْحَسَدُ [[في جـ: "هلاكه بالحسد".]] وَالْبَغْيُ، إِذْ كَانَ فِي فِطْرَةِ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ تصديقُ مَنْ أَتَى بِمِثْلِ [[في جـ: "تصديق ذلك من أن يمثل".]] مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ التِي وَصَفَ، مِنْ غَيْرِ تعلُّم تعلَّمه مِنْ بَشَريٍّ [[في جـ: "من بشر".]] وَلَا أَخَذَ شَيْئًا [[في جـ، ط، ب: "شيء" وهو خطأ.]] مِنْهُ عَنْ آدَمِيٍّ. كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ يَقُولُ: فَأَنْتَ تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَتُخْبِرُهُمْ بِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَأَنْتَ عِنْدَهُمْ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ [[في جـ، ط، ب: "لم تقرأ".]] كِتَابًا، وَأَنْتَ تُخْبِرُهُمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى وَجْهِهِ. يَقُولُ اللَّهُ: فِي ذَلِكَ لَهُمْ عِبْرَةٌ وَبَيَانٌ، وَعَلَيْهِمْ حُجَّةٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ صُوريا الفطْيُوني لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا مُحَمَّدُ، مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتْبَعُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ﴾
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ -حِينَ بُعث رسولُ اللَّهِ ﷺ وَذَكَّرَهُمْ [[في أ: "وما ذكر لهم".]] مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ [[في أ: "وما عهد الله إليهم فيه".]] وَاللَّهِ مَا عَهِد إِلَيْنَا فِي مُحَمَّدٍ ﷺ وَلَا أَخَذَ [لَهُ] [[زيادة من أ.]] عَلَيْنَا مِيثَاقًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قَالَ: نَعَم، لَيْسَ فِي الْأَرْضِ عَهْدٌ يُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ إِلَّا نَقَضُوهُ وَنَبَذُوهُ، يُعَاهِدُونَ الْيَوْمَ، وَيَنْقُضُونَ غَدًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أَيْ: نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَصْلُ النَّبْذِ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّي اللَّقِيطُ: مَنْبُوذًا، وَمِنْهُ سُمِّي النَّبِيذُ، وَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ إِذَا طُرِحَا فِي الْمَاءِ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
نظرتُ إِلَى عُنْوَانِهِ فنبذْتُه كَنَبْذِكَ نَعْلا أخْلقَتْ مِنْ نعَالكا [[البيت في تفسير الطبري (٢/٤٠١) .]]
قُلْتُ: فَالِقَوْمُ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِنَبْذِهِمُ الْعُهُودَ التِي تَقَدَّمُ اللهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا. وَلِهَذَا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبَ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً، الذِي فِي كُتُبِهِمْ نعتُه وصفتُه وأخبارُه، وَقَدْ أُمِرُوا فِيهَا بِاتِّبَاعِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] ، وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيِ: اطَّرَحَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ، مِمَّا فِيهِ الْبِشَارَةُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، أَيْ: تَرَكُوهَا، كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَاتِّبَاعِهِ. وَلِهَذَا أَرَادُوا كيْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وسَحَروه في مُشْط ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر، تَحْتَ رَاعُوثَةِ بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ. وَكَانَ الذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ ﷺ، وَشَفَاهُ مِنْهُ وَأَنْقَذَهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ [[في جـ: "كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثقة"، وفي أ: "كما سيأتي بيانه إن شاء اله تعالى".]] قَالَ [[في جـ، ط: "وقال".]] السُّدِّيُّ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ عَارَضُوهُ بِالتَّوْرَاةِ فَخَاصَمُوهُ بِهَا، فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ، فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمْ يُوَافِقِ الْقُرْآنَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا علمهم، وكتموه وجحدوا به.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ وَكَانَ حِينَ ذَهَبَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ ارْتَدَّ فِئَامٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا رَجَعَ [[في جـ: "فلما أرجع".]] اللهُ إِلَى سُلَيْمَانَ ملكَه، وَقَامَ النَّاسُ عَلَى الدِّينِ كَمَا كَانَ أَوَانُ سُلَيْمَانَ، ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَدَثَانَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَزَلَ [[في جـ: "أنزل".]] عَلَى سُلَيْمَانَ وَأَخْفَاهُ عَنَّا فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، [أَيْ] : [[زيادة من جـ.]] التِي كَانَتْ [تَتْلُو الشَّيَاطِينُ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] وَهِيَ الْمَعَازِفُ وَاللَّعِبُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، قال: كان آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ "الْأَعْظَمَ"، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَخْرَجَهُ [[في جـ، ط، أ، و: "أخرجته".]] الشَّيَاطِينُ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا: هَذَا الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَا [[في هـ: "به"، والصواب ما أثبتناه من جـ، ط، ب، أ، و.]] . قَالَ: فَأَكْفَرَهُ جُهَّالُ النَّاسِ وَسَبُّوهُ، وَوَقَفَ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَزَلْ جُهَّالُهُمْ يَسُبُّونَهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/٢٩٧) .]] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ [[في جـ، ط، ب: "مسلم".]] بْنُ جُنَادَةَ السَّوَائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ، أَوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ -وَهِيَ امْرَأَةٌ-خَاتَمَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالذِي ابْتَلَاهُ بِهِ، أَعْطَى الْجَرَادَةَ ذَاتَ يَوْمٍ خاتَمه، فَجَاءَ [[في جـ: "فجاءها".]] الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي. فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ. فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. قَالَ: فَجَاءَهَا سُلَيْمَانُ، فَقَالَ: هَاتِي خَاتَمِي فَقَالَتْ: كَذَّبْتَ، لَسْتَ سُلَيْمَانَ. قَالَ: فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ بَلَاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ. ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَخْرَجُوهَا وَقَرَؤُوهَا [[في جـ، ط، ب، أ: "فقرؤوها".]] عَلَى النَّاسِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَغْلِبُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ. قَالَ: فَبَرِئَ النَّاسُ مِنْ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَكْفَرُوهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عمران، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[في ط: "عنه".]] -إِذْ جَاءَ [[في ط، ب، أ، و: "إذ جاءه".]] رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْعِرَاقِ. قَالَ: مَنْ أيِّه؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَلِيًّا خَارِجٌ إِلَيْهِمْ. فَفَزِعَ ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ؟ لَا أَبًا لَكَ! لَوْ شَعَرْنَا مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ، وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ، أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ [[في جـ، ط: "سأحدثك"]] عَنْ ذَلِكَ: إِنَّهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ بِكَلِمَةِ حَقٍّ قَدْ سَمِعَهَا، فَإِذَا جُرِّبَ مِنْهُ صِدْقٌ كَذِبَ مَعَهَا سَبْعِينَ كذْبة، قَالَ: فَتَشْرَبُها قُلُوبُ النَّاسِ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانَ. عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَامَ شيطانُ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ الممنَّع [[في جـ: "الممتنع".]] الذِي لَا كَنْزَ لَهُ مِثْلُهُ؟ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ. فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالُوا هَذَا سِحْرُهُ [[في ب، أ، و: "هذا سحر".]] فتناسخا الْأُمَمُ-حَتَّى بَقَايَاهَا مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ-وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [[في جـ: "الله تعالى".]] ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا العَنْبري، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، بِهِ [[تفسير الطبري (٢/ ٤١٥) والمستدرك (٢/ ٢٦٥) .]] .
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أَيْ: عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ. قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْبٍ [[في جـ: "أو عبس".]] أَوْ أَمْرٍ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ. فتحدِّث الْكَهَنَةُ الناسَ فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا. حَتَّى إِذَا أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ. وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً، فَاكْتَتَبَ الناسُ ذَلِكَ الحديثَ فِي الْكُتُبِ، وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ. فبُعث سليمانُ فِي النَّاسِ فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ. ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ. وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ خَلْف تَمَثَّلَ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ أَبَدًا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْفِرُوا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ. وَذَهَبَ مَعَهُمْ وَأَرَاهُمُ الْمَكَانَ، وَقَامَ نَاحِيَةً، فَقَالُوا لَهُ: فَادْنُ. قَالَ [[في جـ: "فقال".]] لَا وَلَكِنَّنِي هَاهُنَا فِي أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي. فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ. فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ [[في جـ: "والجن".]] وَالطَّيْرَ بِهَذَا السِّحْرِ. ثُمَّ طَارَ وَذَهَبَ. وَفَشَا في الناس أن سليمان كان سَاحِرًا. وَاتَّخَذَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ خَاصَمُوهُ بِهَا [[في جـ: "بهذا".]] ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا مُحَمَّدًا ﷺ زَمَانًا عَنْ أُمُورٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَيَخْصِمُهُمْ [[في جـ: "فيخصهم".]] ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْنَا مِنَّا. وَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ عَمَدوا إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبُوا فِيهِ السِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَدَفَنُوهُ تَحْتَ مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ [سُلَيْمَانُ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ. فَلَمَّا فَارَقَ سُلَيْمَانُ الدُّنْيَا اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ السِّحْرَ وَخَدَعُوا النَّاسَ، وَقَالُوا: هَذَا عِلْمٌ كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ وَيَحْسُدُ [[في جـ: "ويحشر"، وفي ط: "ففسد".]] النَّاسَ عَلَيْهِ. فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ حَزِنُوا، وَأَدْحَضُ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَسْتَمِعُ [[في جـ، ط، أ، و: "تسمع".]] الْوَحْيَ فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَةٍ [إِلَّا] [[زيادة من أ.]] زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلَهَا. فأرسِل سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ [بِهِ] [[زيادة من ط.]] وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ، فَلَمْ يَقْدِرِ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، فدبَّت [[في جـ، ب، أ، و: "فدنت".]] إِلَى الْإِنْسِ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ [[في جـ: "أن العلم".]] الذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسِخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالُوا: فَإِنَّهُ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ وَتَحْتَ كُرْسِيِّهِ. فَاسْتَثَارَ بِهِ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "فاستثارته".]] الإنسُ وَاسْتَخْرَجُوهُ فَعَمِلُوا [[في جـ: "فعلموا".]] بِهَا. فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَا: كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَذَا وَهَذَا سِحْرٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى [لِسَانِ] [[زيادة من جـ، ط،، أ، و.]] نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ بَرَاءَةَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ [[في جـ، ط: "بشار".]] عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ حِينَ عَرَفَتْ مَوْتَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ [[في جـ، ب: "عليهما السلام".]] فَكَتَبُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ: "مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْلَغَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا". حَتَّى إِذَا صَنَّفُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ جَعَلُوهُ فِي كِتَابٍ. ثُمَّ خَتَمُوا بِخَاتَمٍ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَكَتَبُوا فِي عُنْوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصَّدِيقُ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ [[في ط: "عليه السلام".]] مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ". ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَاسْتَخْرَجَتْهُ [[في ط: "واستخرجه".]] بَعْدَ ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا. فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِلَّا بِهَذَا. فَأَفْشَوُا السِّحْرَ فِي النَّاسِ [وَتَعَلَّمُوهُ وَعَلَّمُوهُ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] . وَلَيْسَ هُوَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ [[في جـ: "اكبر".]] مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَعَدَّهُ فِيمَنْ عَدَّه مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ يَهُودَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ! يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا، وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا. وَأَنْزَلَ اللَّهُ [فِي] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "حجاج".]] عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوشب، قَالَ: لَمَّا سُلِبَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُلْكَهُ، كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَكْتُبُ السِّحْرَ فِي غَيْبَةِ سُلَيْمَانَ. فَكَتَبَتْ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَقْبِلِ الشَّمْسَ، وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا [[في جـ، ط، ب، أ، و: "كذا وكذا".]] وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَسْتَدْبِرِ الشَّمْسَ وَلْيَقُلْ كَذَا وَكَذَا. فَكَتَبَتْهُ وَجَعَلَتْ عُنْوَانَهُ: هَذَا مَا كَتَبَ آصِفُ بْنُ بَرْخِيَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ [بْنِ دَاوُدَ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ". ثُمَّ دَفَنَتْهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ. فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَامَ إِبْلِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، خَطِيبًا، [ثُمَّ] [[زيادة من جـ.]] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبيًّا، إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا، فَالتَمِسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُوتِهِ. ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الذِي دُفِنَ فِيهِ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا! هَذَا [[في جـ: "وهذا".]] سِحْرُهُ، بِهَذَا تَعَبدنا، وَبِهَذَا قَهَرَنَا. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ يَذْكُرُ الْأَنْبِيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ [لَعَنَهُمُ اللَّهُ] [[زيادة من جـ.]] انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَخْلِطُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. إِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَبُ الرِّيحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَير، عَنْ أَبِي مِجْلَز، قَالَ: أَخَذَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَهْدًا، فَإِذَا أُصِيبَ رَجُلٌ فَسَأَلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ، خَلَّى عَنْهُ. فَزَادَ النَّاسُ السَّجْعَ والسحر، وقالوا: هذا يعمل به سُلَيْمَانُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [[تفسير الطبري (٢/ ٤١٤) .]] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوّاد، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ مُصْعَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ قَالَ: ثُلُثُ الشِّعْرِ، وَثُلُثُ السِّحْرِ، وَثُلُثُ الْكِهَانَةِ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنِي سُرور بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ وَاتَّبَعَتْهُ الْيَهُودُ عَلَى مُلْكِهِ. وَكَانَ السِّحْرُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا يَخْفَى مُلَخَّصُ الْقِصَّةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِهَا، وَأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ السِّيَاقَاتِ عَلَى اللَّبِيبِ الفَهِم، وَاللَّهُ الَهَادِي. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أَيْ: وَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ -الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَعْدَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ مُحَمَّدًا ﷺ مَا تَتْلُوهُ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "ما تتلوه".]] الشَّيَاطِينُ، أَيْ: مَا تَرْوِيهِ وَتُخْبِرُ بِهِ وتُحدثه الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَعَدَّاهُ بعلى؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَتْلُو: تَكْذِبُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "عَلَى" [[في جـ، ط،: "وعلي".]] هَاهُنَا بِمَعْنَى "فِي"، أَيْ: تَتْلُو فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيج، وَابْنِ إِسْحَاقَ.
قُلْتُ: وَالتَّضَمُّنُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: "قَدْ كَانَ السِّحْرُ قَبْلَ زَمَانِ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "قبل زمن".]] سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ" صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا فِي زَمَانِ [[في جـ: "زمن".]] مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٦] ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بَعْدَهَا، وَفِيهَا: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٥١] . وَقَالَ قَوْمُ صَالِحٍ -وَهُمْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ١٥٣] أَيْ: [مِنَ] [[زيادة من جـ، ط.]] الْمَسْحُورِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ "مَا" نَافِيَةٌ، أَعْنِي التِي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "مَا" نَافِيَةٌ وَمَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ﴾ أَيِ: السِّحْرُ ﴿عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ -لَعَنَهُمُ اللَّهُ-كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نزل بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ بَدَلًا مِنَ: ﴿الشَّيَاطِينِ﴾ قَالَ: وَصَحَّ ذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ [النِّسَاءِ: ١١] أَوْ يَكُونُ لَهُمَا أَتْبَاعٌ، أَوْ ذُكِرَا مِنْ بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: تُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَأَصَحُّ وَلَا يُلْتَفَتْ إِلَى مَا سِوَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ يَقُولُ: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ. وَبِإِسْنَادِهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿بِبَابِلَ هَارُوتَ [وَمَارُوت [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] ] ﴾ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الذِي مَعْنَاهُ الْمُقَدَّمُ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يُقَالَ: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ -"مِنَ السِّحْرِ"- ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ "السِّحْرَ" عَلَى الْمَلَكَيْنِ، ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ بِبَابِلَ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِالْمَلَكَيْنِ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ لِأَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ فِيمَا ذُكِرَ كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْزِلَا بِسِحْرٍ، وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ ذَلِكَ بِبَابِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَهُمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ، وَاسْمُ الْآخَرِ مَارُوتُ، فَيَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَرْجَمَةً عَنِ النَّاسِ، وَرَدًّا عَلَيْهِمْ.
هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ [[تفسير الطبري (٢/ ٤١٩، ٤٢٠) .]] .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حُدّثت عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السِّحْرَ.
حَدَّثَنَا [[في و: "وقال ابن أبي حاتم: حدثنا".]] الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا يَعْلَى -يَعْنِي ابْنَ أَسَدٍ-حَدَّثَنَا بَكْرٌ [[في جـ، ط، ب: "بكير".]] -يَعْنِي ابْنَ مُصْعَبٍ-حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ".
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمَا السِّحْرُ، يَقُولُ: عَلِمَا الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ، فَالسِّحْرُ مِنَ الْكُفْرِ، فَهُمَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ "مَا" بِمَعْنَى الذِي، وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَادَّعَى [[في جـ: "وادعى على".]] أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَذِنَ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ السِّحْرِ اخْتِبَارًا لِعِبَادِهِ وَامْتِحَانًا، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَادَّعَى أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مُطِيعَانِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا امْتَثَلَا مَا أُمِرَا بِهِ.
وَهَذَا الذِي سَلَكَهُ غَرِيبٌ جَدًا! وَأَغْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ قَبِيلَانِ مِنَ الْجِنِّ [كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ] [[زيادة من جـ، ط.]] !
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ. عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ وَيَقُولُ: هُمَا عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ.
وَوَجَّه أصحابُ هَذَا الْقَوْلِ الْإِنْزَالَ بِمَعْنَى الخَلْق، لَا بِمَعْنَى الْإِيحَاءِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٦] ، ﴿وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الْحَدِيدِ: ٢٥] ، ﴿وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ [غَافِرٍ: ١٣] . وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً". وَكَمَا يُقَالُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
[وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أَبْزَى والضحاك والحسن البصري: أنهم قرؤوا: "وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ" بِكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ أَبْزَى: وَهُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ "مَا" نَافِيَةً أَيْضًا] [[زيادة من جـ، ط.]] .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [وَ "مَا" نَافِيَةٌ] [[زيادة من جـ، ط، ب، و.]] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ قَالَ الرَّجُلُ: يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا [[في جـ: "إليهما".]] أَوْ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ مَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: مَا أُبَالِي أَيَّتُهُمَا كَانَتْ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَنَّ الْقَاسِمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: لَا أُبَالِي أَيَّ ذَلِكَ كَانَ، إِنِّي آمَنْتُ بِهِ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهُمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا كَانَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ كَمَا سَنُورِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ هَذَيْنِ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَهُمَا هَذَا، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لَهُمَا، فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ، كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَمْرِ إبليس مَا سَبَقَ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ [طَهَ: ١١٦] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ شَأْنَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ -عَلَى مَا ذُكِرَ-أَخَفُّ مِمَّا وَقَعَ مِنْ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ.
[وَقَدْ حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالْكَلْبِيِّ] [[زيادة من جـ، ط.]] .
ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ -إِنْ صَحَّ سَنَدُهُ وَرَفْعُهُ-وَبَيَانُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ [أَبِي] [[زيادة من ط.]] بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَيْ رَبِّ [[في جـ: "يا رب".]] ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] ، قَالُوا: رَبَّنَا، نَحْنُ أَطْوَعُ لَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: هَلُموا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى نُهْبِطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلَانِ؟ قَالُوا: برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ ومثُلت لَهُمَا [[في جـ: "لهم".]] الزُّهَرة امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ، فَجَاءَتْهُمَا، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَتَكَلَّمَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْإِشْرَاكِ. فَقَالَا وَاللَّهِ [[في جـ، ط: "لا والله".]] لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا. فَذَهَبَتْ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَتْ بِصَبِيٍّ تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَقْتُلَا هَذَا الصَّبِيَّ. فَقَالَا لَا وَاللَّهِ لَا نَقْتُلُهُ أَبَدًا. ثُمَّ ذَهَبَتْ فَرَجَعَتْ [[في ج، ط، ب: "فذهبت ثم رجعت".]] بقَدَح خَمْر تَحْمِلُهُ، فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ. فَشَرِبَا فَسَكِرَا، فَوَقْعَا عَلَيْهَا، وَقَتَلَا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَفَاقَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُمَا شَيْئًا أَبَيْتُمَاهُ عَلِيَّ إِلَّا قَدْ [[في جـ: "وقد".]] فَعَلْتُمَاهُ حِينَ سَكِرْتُمَا. فخيرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، بِهِ [[المسند (٢/ ١٣٤) وصحيح ابن حبان برقم (١٧١٧) "موارد" وقال أبو حاتم في العلل (٢/ ٦٩) : "هذا حديث منكر".]] .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، إِلَّا مُوسَى بْنَ جُبَيْرٍ هَذَا، وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمَدِينِيُّ الْحَذَّاءُ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَنَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ السَّلَامِ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرَ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعة، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ. وَرَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَمْ يحك فيه شيئًا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا، فَهُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ [[الجرح والتعديل (٨/ ١٣٩) وذكره ابن حبان في الثقات (٧/٤٥١) وقال: "يخطئ ويخالف".]] وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَرُوِيَ لَهُ مُتَابِعٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ نَافِعٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ [بْنُ عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ] [[زيادة من جـ، ط، و.]] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَرْجِس، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ. فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ -وَهُوَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ-حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: يَا نَافِعُ، انْظُرْ، طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ؟ قُلْتُ: لَا -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا-ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ طَلَعَتْ. قَالَ: لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! نَجْمٌ مُسَخَّرٌ سَامِعٌ مُطِيعٌ. قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ -أَوْ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-: "إن الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ، كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا [[في ط، ب: "الخطأ".]] وَالذُّنُوبِ؟ قَالَ: إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ وَعَافِيَتُكُمْ. قَالُوا: لَوْ كُنَّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ. قَالَ: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ. قَالَ: فَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا أَنْ يَخْتَارُوا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ" [[تفسير الطبري (٢/٤٣٣) .]] .
وَهَذَانِ -أَيْضًا-غَرِيبَانِ جِدًّا. وَأَقْرَبُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، لَا عَنِ النَّبِيِّ [[في جـ: "رسول الله".]] ﷺ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ [[في ط: "وقال".]] ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ، وَمَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمُ اثْنَيْنِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَقَالَ [[في جـ، ط، ب، و: "فقيل".]] لَهُمَا: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَى بَنِي آدَمَ رُسُلًا وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولٌ، انْزِلَا لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَشْرَبَا الْخَمْرَ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَيَا مِنْ يَوْمِهِمَا الذِي أُهْبِطَا فِيهِ حَتَّى اسْتَكْمَلَا جَمِيعَ مَا نُهِيَا عَنْهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ [[تفسير عبد الرزاق (١/ ٧٣، ٧٤) . وتفسير الطبري (٢/٤٢٩) .]] .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِصَامٍ، عَنْ مُؤَمَّل، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٦) .]] .
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْمُعَلَى -وَهُوَ ابْنُ أَسَدٍ-حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، فَذَكَرَهُ [[تفسير الطبري (٢/ ٤٣٠) .]] .
فَهَذَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنَ الْإِسْنَادَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَسَالِمٌ أَثْبَتُ فِي أبيه من مولاه نَافِعٍ. فَدَارَ الْحَدِيثُ وَرَجَعَ إِلَى نَقْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، عَنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ [[في جـ: "المثنى بن الحجاج".]] حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: كَانَتِ الزُّهَرة امْرَأَةً جَمِيلَةً مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَإِنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَاوَدَاهَا [[في جـ: "فراودوها".]] عَنْ نَفْسِهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَاهَا الْكَلَامَ الذِي إِذَا تكَلَّم [الْمُتَكَلِّمُ] [[زيادة من جـ، ط.]] بِهِ يُعْرج بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. فَعَلَّمَاهَا فَتَكَلَّمَتْ بِهِ فَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ. فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا!
وَهَذَا الْإِسْنَادُ [جَيِّدٌ وَ] [[زيادة من جـ.]] رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ [ابْنِ أَبِي] [[زيادة من ط، ب، و.]] خَالِدٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ. يَعْنِي: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٣) .]] .
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ، عَنْ مُغِيثٍ، عَنْ مَوْلَاهُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ -مَرْفُوعًا. وَهَذَا لَا يَثْبُتُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَعَنَ اللَّهُ الزّهَرة، فَإِنَّهَا هِيَ التِي فَتَنَتِ الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ". وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ [[ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٦٥٤) من طريق عيسى بن يونس عن أخيه إسرائيل عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ به.]] وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا جَمِيعًا: لَمَّا كَثُرَ [[في جـ: "كثر سواد".]] بَنُو آدَمَ وَعَصَوْا، دَعَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ رَبَّنَا لَا تُهْلِكْهُمْ [[في جـ، ط: "تمهلهم".]] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ: إِنِّي أَزَلْتُ الشَّهْوَةَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَلَوْ نَزَلْتُمْ لَفَعَلْتُمْ أَيْضًا. قَالَ: فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَوِ ابْتُلُوا اعْتَصَمُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِكُمْ. فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأُنْزِلَتِ الزُّهَرة إِلَيْهِمَا فِي صُورَةِ [[في جـ: "في أحسن صورة".]] امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ يُسَمُّونَهَا بِيذُخْتَ. قَالَ: فَوَقَعَا بالخطيَّة [[في جـ: "بالخطيئة".]] . فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غَافِرٍ: ٧] فَلَمَّا وَقَعَا بِالْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَخُيِّرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا [[في جـ، ط، ب: "فاختارا".]] عَذَابَ الدُّنْيَا [[تفسير الطبري (٢/ ٤٢٨)]] .
وَقَالَ: ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرٍو وَيُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ [[في جـ: "فلما كانت".]] ذَاتَ لَيْلَةٍ قَالَ لِغُلَامِهِ: انْظُرْ، هَلْ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ، لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا وَلَا حَيَّاهَا اللَّهُ هِيَ صَاحِبَةُ الْمَلَكَيْنِ. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ تَدَعُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ وَهُمْ يَسْفِكُونَ الدَّمَ الْحَرَامَ وَيَنْتَهِكُونَ مَحَارِمَكَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ! قَالَ: إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ، فعلَّ [[في جـ: "بفعل".]] إِنِ ابْتَلَيْتُكُمْ بِمِثْلِ الذِي ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ فَعَلْتُمْ كَالذِي يَفْعَلُونَ. قَالُوا: لَا. قَالَ: فَاخْتَارُوا مِنْ خِيَارِكُمُ اثْنَيْنِ. فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَقَالَ لَهُمَا: إِنِّي مُهْبِطُكُمَا إِلَى الْأَرْضِ، وَعَاهِدٌ إِلَيْكُمَا أَلَّا تُشْرِكَا وَلَا تَزْنِيَا وَلَا تَخُونَا. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِمَا الشَّبَق، وَأُهْبِطَتْ لَهُمَا الزُّهَرة فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُمَا، فَرَاوَدَاهَا [[في جـ: "فأراداها".]] عَنْ نَفْسِهَا. فَقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينٍ لَا يَصِحُّ [[في جـ، ط، ب: "لا يصلح".]] لِأَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَنِي إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِهِ. قَالَا وَمَا دِينُكِ؟ قَالَتِ: الْمَجُوسِيَّةُ. قَالَا الشِّرْكُ! هَذَا شَيْءٌ لَا نُقِرُّ بِهِ. فَمَكَثَتْ عَنْهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لَهُمَا فَأَرَادَاهَا عَنْ نَفْسِهَا. فَقَالَتْ: مَا شِئْتُمَا، غَيْرَ أَنَّ لِي زَوْجًا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى هَذَا مِنِّي فَأَفْتَضِحَ، فَإِنْ أَقْرَرْتُمَا لِي بِدِينِي، وَشَرَطْتُمَا لِي أَنْ تَصْعَدَا بِي إِلَى السَّمَاءِ فَعَلْتُ. فَأَقَرَّا لَهَا بِدِينِهَا وَأَتَيَاهَا فِيمَا يَرَيَانِ، ثُمَّ صَعِدَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ. فَلَمَّا انْتَهَيَا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ اخْتُطِفَتْ مِنْهُمَا، وَقُطِعَتْ أَجْنِحَتُهُمَا [[في جـ: "أجنحتها".]] فَوَقَعَا خَائِفَيْنِ نَادِمَيْنِ يَبْكِيَانِ، وَفِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ يَدْعُو بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أُجِيبَ. فَقَالَا لَوْ أَتَيْنَا فُلَانًا فَسَأَلَنَاهُ فَطَلَبَ [[في جـ، ط، ب: "يطلب".]] لَنَا التَّوْبَةَ فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ: رَحِمَكُمَا اللَّهُ [[في جـ: "ما رحمكم الله".]] كَيْفَ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ! قَالَا إِنَّا قَدِ ابْتُلِينَا. قَالَ: ائْتِيَانِي [[في جـ: "فأتياني".]] يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ: مَا أُجِبْتُ فِيكُمَا بِشَيْءٍ، ائْتِيَانِي فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ. فَأَتَيَاهُ، فَقَالَ: اخْتَارَا، فَقَدْ خُيِّرْتُمَا، إِنْ أَحْبَبْتُمَا مُعَافَاةَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمَا فَعَذَابُ الدُّنْيَا وَأَنْتُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الدُّنْيَا لَمْ يَمْضِ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الْآخَرُ: وَيْحَكَ؟ إِنِّي قَدْ أَطَعْتُكَ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَأَطِعْنِي الْآنَ، إِنَّ عَذَابًا يَفْنَى لَيْسَ كَعَذَابٍ يَبْقَى. وَإِنَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَأَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنَا. قَالَ: لَا إِنِّي أَرْجُو إِنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّا قَدِ اخْتَرْنَا عَذَابَ الدُّنْيَا مَخَافَةَ عَذَابِ الْآخِرَةِ لَا يَجْمَعُهُمَا عَلَيْنَا. قَالَ: فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَجُعِلَا فِي بَكَرَاتٍ مِنْ حَدِيدٍ في قَلِيب مملوءة من نار، عَاليهُمَا سافلَهما [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٦، ٣٠٧) .]] .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْهُ رَفَعَهُ. وَهَذَا أَثْبَتُ وَأَصَحُّ إِسْنَادًا. ثُمَّ هُوَ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الزُّهَرة نَزَلَتْ فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، وَكَذَا فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، فِيهِ غَرَابَةٌ جِدًّا.
وَأَقْرَبُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادٍ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [[في جـ، ط: "عنه".]] قَالَ: لَمَّا وَقَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، هَذَا الْعَالَمُ الذِي إِنَّمَا خَلَقْتَهُمْ لِعِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ، قَدْ وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَرَكِبُوا الْكُفْرَ وَقَتْلَ النَّفْسِ وَأَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ. فَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَعْذِرُونَهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُمْ فِي غَيْب. فَلَمْ يَعْذِرُوهُمْ. فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مِنْ أَفْضَلِكُمْ مَلَكَيْنِ، آمُرُهُمَا وَأَنْهَاهُمَا. فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لَهُمَا شَهَوَاتِ بَنِي آدَمَ، وَأَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَعْبُدَاهُ وَلَا يُشْرِكَا بِهِ شَيْئًا، وَنُهِيَا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْحَرَامِ وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَعَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. فَلَبِثَا فِي الْأَرْضِ زَمَانًا يَحْكُمَانِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَذَلِكَ فِي زَمَانِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهَرة فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهُمَا أَتَيَا عَلَيْهَا فَخَضَعَا لَهَا فِي الْقَوْلِ وَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى أَمْرِهَا وَعَلَى دِينِهَا، فَسَأَلَاهَا [[في جـ، ط، ب: "فسألا".]] عَنْ دِينِهَا، فَأَخْرَجَتْ لَهُمَا صَنَمًا فَقَالَتْ: هَذَا أَعْبُدُهُ. فَقَالَا لَا حَاجَةَ لَنَا فِي عِبَادَةِ هَذَا. فَذَهَبَا فغَبَرا مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَتَيَا عَلَيْهَا فَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ. فَذَهَبَا، ثُمَّ أَتَيَا عَلَيْهَا فَرَاوَدَاهَا [[في جـ، ط، ب: "فأراداها".]] عَلَى نَفْسِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُمَا قَدْ أَبَيَا أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ قَالَتْ لَهُمَا: اخْتَارَا إِحْدَى الْخِلَالِ الثَّلَاثِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُدَا هَذَا الصَّنَمَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَا هَذِهِ النَّفْسَ، وَإِمَّا أَنْ تَشْرَبَا هَذَا الْخَمْرَ. فَقَالَا كُلُّ هَذَا لَا يَنْبَغِي، وَأَهْوَنُ هَذَا شُرْبُ الْخَمْرِ. فَشَرِبَا الْخَمْرَ فَأَخَذَتْ فِيهِمَا فَوَاقَعَا [[في جـ: "فوقعا".]] الْمَرْأَةَ، فَخَشِيَا أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ عَنْهُمَا فَقَتَلَاهُ [[في جـ: "فقتلاها".]] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا السُّكْرُ وَعَلِمَا مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعَا، وَحِيَلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَكُشِفَ الْغِطَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَنَظَرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى مَا وَقَعَا فِيهِ، فَعَجِبُوا كُلَّ الْعَجَبِ، وعَرَفوا أَنَّهُ مَنْ كَانَ فِي غَيْبٍ فَهُوَ أَقَلُّ خَشْيَةً، فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ﴾ [الشُّورَى: ٥] فَقِيلَ لَهُمَا: اخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ فَقَالَا أَمَّا عَذَابُ الدنيا فإنه ينقطع وَيَذْهَبُ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا انْقِطَاعَ لَهُ. فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَجُعِلَا بِبَابِلَ، فَهُمَا يُعَذَّبَانِ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٥) .]] .
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ مُطَوَّلًا عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السلام، عن إسحاق بن رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَكَّامِ بْنِ سَلْمٍ [[في و: "بن سالم".]] الرَّازِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا رُوِيَ فِي شَأْنٍ الزُّهَرة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [[وقد أبطل الإمام ابن حزم قصة هاروت وماروت ورد على من ادعى شربهما الخمر وارتكابهما الزنا والقتل في كتابه الفصل (٣ / ٣٠٣-٣٠٨، ٤/ ٦١-٦٥) .]] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الحُدَّاني [[في جـ: "الحراني".]] حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي الْفَارِسِيَّ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] أَنَّ أَهْلَ سَمَاءِ الدُّنْيَا أَشْرَفُوا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَرَأَوْهُمْ يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِيَ [[في جـ، ط، أ، و: "بالمعاصي".]] فَقَالُوا: يَا رَبِّ أَهْلُ الْأَرْضِ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي! فَقَالَ اللَّهُ: أَنْتُمْ مَعِي، وَهُمْ غُيَّب عَنِّي. فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ ثَلَاثَةً، فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَةً عَلَى أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ، عَلَى أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ شَهْوَةَ الْآدَمِيِّينَ، فَأُمِرُوا أَلَّا يَشْرَبُوا خَمْرًا وَلَا يَقْتُلُوا نَفْسًا، وَلَا يَزْنُوا، وَلَا يَسْجُدُوا لِوَثَنٍ. فَاسْتَقَالَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، فَأُقِيلَ. فَأُهْبِطَ اثْنَانِ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ [[في جـ: "النساء".]] يُقَالُ لَهَا: مُنَاهِيَةُ [[في أ: "أناهيد".]] . فَهَويَاها جَمِيعًا، ثُمَّ أَتَيَا مَنْزِلَهَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهَا، فَأَرَادَاهَا فَقَالَتْ لَهُمَا: لَا حَتَّى تَشْرَبَا خَمْرِي، وَتَقْتُلَا ابْنَ جَارِي، وَتَسْجُدَا لِوَثَنِي. فَقَالَا لَا نَسْجُدُ. ثُمَّ شَرِبَا مِنَ الْخَمْرِ، ثُمَّ قَتَلَا ثُمَّ سَجَدَا. فَأَشْرَفَ أَهْلُ السَّمَاءِ عَلَيْهِمَا. فَقَالَتْ [[في جـ، ط، ب،: "وقالت.]] لَهُمَا: أَخْبِرَانِي بِالْكَلِمَةِ التِي إِذَا قُلْتُمَاهَا طِرْتُمَا. فَأَخْبَرَاهَا فَطَارَتْ فَمُسِخَتْ جَمْرَةً. وَهِيَ هَذِهِ الزهَرة. وَأَمَّا هُمَا فَأُرْسِلَ إِلَيْهِمَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فَخَيَّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. فَهُمَا مُنَاطَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٨) .]] .
وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَإِغْرَابٌ وَنَكَارَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَر: قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأُهْبِطَا لِيَحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَخِرُوا مِنْ حُكَّامِ بَنِي آدَمَ، فَحَاكَمَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ، فَحَافَا لَهَا. ثُمَّ ذَهَبَا يَصْعَدَانِ فَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مَعْمَر: قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا أَلَّا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [[تفسير عبد الرزاق (١/ ٧٣) .]] .
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنَّهُمَا طَعَنَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ في أَحْكَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنِّي أَعْطَيْتُ بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ، فَبِهَا [[في ط، ب: "فما".]] يَعْصُونَنِي. قَالَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ: رَبَّنَا، لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ثُمَّ نَزَلْنَا لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ. فَقَالَ لَهُمَا: انْزِلَا فَقَدْ أَعْطَيْتُكُمَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ الْعَشْرَ، فَاحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ. فَنَزَلَا بِبَابِلَ دَنْباوَند، فَكَانَا يَحْكُمَانِ، حَتَّى إِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا، فَإِذَا أَصْبَحَا هَبَطَا، فَلَمْ يَزَالَا كَذَلِكَ حَتَّى أَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا، فَأَعْجَبَهُمَا [[في جـ، ط، ب، أ، و: "فأعجبهما من ".]] حُسْنُهَا -وَاسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ "الزّهَرة"، وَبِالنَّبَطِيَّةِ "بِيذُخْتُ" وَبِالْفَارِسِيَّةِ "أَنَاهِيدُ"-فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنَّهَا لَتُعْجِبُنِي. قَالَ الْآخَرُ: قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ. فَقَالَ الْآخَرُ: هَلْ لَكَ أَنْ أَذْكُرَهَا لَنَفْسِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنْ كَيْفَ لَنَا بِعَذَابِ اللَّهِ؟ قَالَ الْآخَرُ: إِنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ. فَلَمَّا جَاءَتْ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا ذَكَرَا إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي. فَقَضَيَا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ وَاعَدَتْهُمَا خَربة مِنَ الخَرِب يَأْتِيَانِهَا فِيهَا، فَأَتَيَاهَا لِذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ الذِي يُوَاقِعُهَا قَالَتْ: مَا أَنَا بِالذِي أَفْعَلُ حَتَّى تُخْبِرَانِي بِأَيِّ كَلَامٍ تَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَيِّ كَلَامٍ تَنْزِلَانِ مِنْهَا؟ فَأَخْبَرَاهَا، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ، فَأَنْسَاهَا اللَّهُ مَا تَنْزِلُ بِهِ، فَبَقِيَتْ [[في ب، أ، و: "فثبتت".]] مَكَانَهَا، وَجَعَلَهَا [[في أ: "وخلقها".]] اللَّهُ كَوْكَبًا. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كُلَّمَا رَآهَا لَعَنَهَا، فَقَالَ: هَذِهِ التِي فَتَنَتْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا فَلَمْ يُطِيقَا، فَعَرَفَا الْهَلَكَةَ فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ، وَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا وَهُوَ السِّحْرُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح [[في ط: "جريج".]] عَنْ مُجَاهِدٍ: أَمَّا شَأْنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجِبَتْ مِنْ ظُلْمِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْبَيِّنَاتُ، فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ تَعَالَى: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ أُنْزِلَهُمَا يَحْكُمَانِ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ فَاخْتَارُوا فَلَمْ يَأْلُوا [إِلَّا] [[زيادة من جـ.]] هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ لَهُمَا حِينَ أَنْزَلَهُمَا: أَعَجِبْتُمَا [[في جـ، ط، ب: "أعجبتم".]] مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَمِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، وَإِنَّمَا تَأْتِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ [وَالْبَيِّنَاتُ] [[زيادة من جـ.]] مِنْ وَرَاء وَرَاء، وَأَنْتُمَا لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا رَسُولٌ، فَافْعَلَا كَذَا وَكَذَا، وَدَعَا كَذَا وَكَذَا، فَأَمَرَهُمَا بِأَمْرٍ وَنَهَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمَا، فَحَكَمَا فَعَدَلَا. فَكَانَا يَحْكُمَانِ فِي النَّهَارِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ، فَإِذَا أَمْسَيَا عَرَجَا فَكَانَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَنْزِلَانِ حِينَ يُصْبِحَانِ فَيَحْكُمَانِ فَيَعْدِلَانِ، حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمَا الزُّهَرَةُ فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ تُخَاصم، فَقَضَيَا عَلَيْهَا. فَلَمَّا قَامَتْ وَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وجدتَ مِثْلَ الذِي وجدتُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَعَثَا إِلَيْهَا أَنِ ائْتِيَانَا نَقْضِ لَكِ. فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَا وَقَضَيَا لَهَا، فَأَتَتْهُمَا فَتَكَشَّفَا لَهَا عَنْ عَوْرَتَيْهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَهْوَتُهُمَا [[في أ، و: "سوآتهما".]] فِي أَنْفُسِهِمَا، وَلَمْ يَكُونَا كَبَنِي آدَمَ فِي شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَلَذَّتِهَا. فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ وَاسْتَحَلَّا افتُتنا، فَطَارَتِ الزُّهَرَةُ فَرَجَعَتْ حَيْثُ كَانَتْ. فَلَمَّا أَمْسَيَا عَرَجا فزُجرا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا، وَلَمْ تَحْمِلْهُمَا أَجْنِحَتُهُمَا. فَاسْتَغَاثَا بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي آدم فَأَتَيَاهُ، فَقَالَا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ. فَقَالَ: كَيْفَ يَشْفَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا سَمِعْنَا رَبَّكَ يَذْكُرُكَ بِخَيْرٍ فِي السَّمَاءِ. فَوَعَدَهُمَا يَوْمًا، وَغَدَا يَدْعُو لَهُمَا، فَدَعَا لَهُمَا، فَاسْتُجِيبَ لَهُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ: أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ أَفْوَاجَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ كَذَا وَكَذَا فِي الْخُلْدِ، وَفِي الدُّنْيَا تِسْعُ مَرَّاتٍ مِثْلَهَا؟ فَأُمِرَا أَنْ يَنْزِلَا بِبَابِلَ، فثَمَّ عَذَابُهُمَا. وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ فِي الْحَدِيدِ مَطْوِيَّانِ، يُصَفِّقَانِ بِأَجْنِحَتِهِمَا.
وَقَدْ رَوَى فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ، كَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ [الْبَصَرِيِّ] [[زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.]] وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالزُّهْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَصَّهَا خَلْقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ إِلَى الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ إِجْمَالُ الْقِصَّةِ مِنْ غَيْرِ بَسْطٍ وَلَا إِطْنَابٍ فِيهَا، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَسِيَاقٌ عَجِيبٌ فِي ذَلِكَ أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ، قَالَ: الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا] [[زيادة من جـ.]] أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَتِ امْرَأَةٌ عليَّ مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثة ذَلِكَ، تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ [[في أ، و: "عن أشياء".]] دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السِّحْرِ، وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لعُرْوَة: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيَشْفِيهَا كَانَتْ تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لَأَرْحَمُهَا، وَتَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ. كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي، فَدَخَلْتُ عَلَى عَجُوزٍ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتِ مَا آمُرُكِ بِهِ فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، فركبتُ أَحَدَهُمَا [[في جـ: "فركبت إحداهما".]] وَرَكِبَتِ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ كَشَيْءٍ حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ، وَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا. فَقَالَا مَا جَاءَ بِكِ؟ فقلتُ: أَتَعَلَّمُ [[في جـ، ب، أ، و: "فقلنا نتعلم".]] السِّحْرَ. فَقَالَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي، فَارْجِعِي. فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا. قَالَا فَاذْهَبِي [[في أ: "فقالا فاذهبا".]] إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ، فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ ففزعتُ وَلَمْ أَفْعَلْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا أَفَعَلْتِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَا هَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا. فَقَالَا لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ ولا تكفري [فإنك على رأس أمري] [[زيادة من جـ.]] . فأرْبَبْت وَأَبَيْتُ [[في جـ: "فأبت وأبيت".]] . فَقَالَا اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ فَاقْشَعْرَرْتُ [وَخِفْتُ] [[زيادة من جـ، ب، أ، و.]] ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَا فَمَا رَأَيْتِ؟ فقلت: لم أَرَ شَيْئًا. فَقَالَا كَذَبْتِ، لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ وَلَا تَكْفُرِي [[في جـ: "ولم تكفري".]] ؛ فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ. فأرببتُ وأبيتُ. فَقَالَا اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ، فَبُولِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَبُلْتُ فِيهِ، فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا [[في جـ: "معلقا".]] بِحَدِيدٍ خَرَج مِنِّي، فَذَهَبَ فِي السَّمَاءِ وَغَابَ [عَنِّي] [[زيادة من أ.]] حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَا فَمَا رَأَيْتِ؟ قُلْتُ: رَأَيْتُ فَارِسًا مُقَنَّعًا خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ فِي السَّمَاءِ، حَتَّى مَا أَرَاهُ. فَقَالَا صَدَقْتِ، ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ، اذْهَبِي. فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا. فَقَالَتْ: بَلَى، لَمْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ، وَقُلْتُ: أَطْلِعِي [[في جـ، ط: "اطلع فطلع".]] فَأَطْلَعَتْ [[في جـ: "احقل فأحقل"، وفي أ، و: "فطلعت".]] وَقُلْتُ: أَحْقِلِي فَأَحْقَلَتْ [[في ط: "احقلى فأجعلت".]] ثُمَّ قُلْتُ: أفْركي فأفرَكَتْ. ثُمَّ قُلْتُ: أَيْبِسِي فَأَيْبَسَتْ [[في جـ: "أيبس فيبس".]] . ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحِنِي فَأَطْحَنَتْ [[في جـ: "اطحن فطحن".]] . ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِزِي فَأَخْبَزَتْ [[في جـ: "اختبز فاختبز".]] . فَلَمَّا رأيتُ أَنِّي لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ، سَقَطَ فِي يَدِي وَنَدِمْتُ -وَاللَّهِ-يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا قَطُّ وَلَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا [[تفسير الطبري (٢/ ٤٣٩-٤٤١) .]] .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ مُطَوَّلًا كَمَا تَقَدَّمَ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣١٢) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (٨/ ١٣٧) من طريق الربيع بن سليمان به مطولا، وهذه الزيادة لم ترد في المطبوع من تفسير ابن أبي حاتم، وقد نبه إلى ذلك المحقق الفاضل، جزاه الله خيرًا.]] . وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهَا: وَلَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا: فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدَاثَةَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُتَوَافِرُونَ، فَمَا دَرَوا مَا يَقُولُونَ لَهَا، وَكُلُّهُمْ هَابَ وَخَافَ أَنْ يُفْتِيَهَا بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ -أَوْ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ-: لَوْ كَانَ أَبَوَاكِ حَيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا [لَكَانَ يَكْفِيَانِكِ] [[زيادة من أ.]] .
قَالَ هِشَامٌ: فَلَوْ جَاءَتْنَا أَفْتَيْنَاهَا بِالضَّمَانِ [قَالَ] [[زيادة من أ.]] : قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: وَكَانَ هِشَامٌ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْخَشْيَةِ [[في جـ: "وأهل خشية".]] مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ يَقُولُ هِشَامٌ: لَوْ جَاءَتْنَا مِثْلُهَا الْيَوْمَ لَوَجَدَتْ نَوْكَى أَهْلَ حُمْقٍ وَتَكَلُّفٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْأَثَرِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ [[في أ: "من ذهب بأن".]] السَّاحِرَ لَهُ تَمَكُّنٌ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بَذَرَتْ وَاسْتَغَلَّتْ فِي الْحَالِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ إِلَّا عَلَى التَّخْيِيلِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] [[زيادة من أ.]] تَعَالَى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١١٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦] وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ بَابِلَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ بَابِلُ الْعِرَاقِ، لَا بَابِلَ دُنْباوَنْد [[في ط، ب، أ، و: "ديناوند".]] كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَابِلُ الْعِرَاقِ مَا قَالَ [[في أ: "ما قاله".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعة وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [مَرَّ بِبَابِلَ وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُؤْذنه بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ] قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي ﷺ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ [بِأَرْضِ الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ] بِبَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ [[تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٣٠٤) ، وما بين المعقوفين ليس في تفسير ابن أبي حاتم.]] .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعة وَيَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِبَابِلَ، وَهُوَ يَسِيرُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُهُ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَلَمَّا بَرَزَ مِنْهَا أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّ حَبِيبِي ﷺ نَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ بِأَرْضِ بَابِلَ، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَزْهَرَ وَابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، بِمَعْنَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، قَالَ: فَلَمَّا "خَرَجَ" مَكَانَ "بَرَزَ" [[سنن أبي داود برقم (٤٩٠، ٤٩١) .]] .
وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي دَاوُدَ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ وَسَكَتَ عَنْهُ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "وسكت عليه".]] ؛ فَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ بِأَرْضِ بَابِلَ، كَمَا تُكْرَهُ بِدِيَارِ ثَمُودَ الَّذِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بَاكِينَ.
قَالَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ: وبُعْدُ مَا بَيْنَ بَابِلَ، وَهِيَ مِنْ إِقْلِيمِ الْعِرَاقِ، عَنِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: أوْقيانُوس [[في ب: "أوليانوس".]] سَبْعُونَ دَرَجَةً، وَيُسَمُّونَ هَذَا طُولًا وَأَمَّا عَرْضُهَا وَهُوَ بُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ، وَهُوَ الْمُسَامِتُ لِخَطِّ الِاسْتِوَاءِ، اثْنَانِ [[في ب، أ، و: "ثنتان".]] وَثَلَاثُونَ دَرَجَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ قَيْسِ [[في أ: "عن بشر".]] بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَإِذَا أَتَاهُمَا الْآتِي يُرِيدُ السِّحْرَ نَهَيَاهُ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَقَالَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلِمَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، فَعَرَفَا أَنَّ السِّحْرَ مِنَ الْكُفْرِ [[في ب: "أن الكفر من السحر".]] . [قَالَ] [[زيادة من جـ، أ، و.]] فَإِذَا أَبَى عَلَيْهِمَا أَمَرَاهُ أَنْ يَأْتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَتَاهُ عَايَنَ الشَّيْطَانَ فَعلمه، فَإِذَا تَعَلَّمَ خَرَجَ مِنْهُ النُّورُ، فَنَظَرَ [[في أ: "فينظر".]] إِلَيْهِ سَاطِعًا في السماء، فيقول: يا حسرتاه! يَا وَيْلَهُ! مَاذَا أَصْنَعُ [[في أ، و: "ماذا صنع".]] ؟.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: نَعَمْ، أُنْزِلَ الْمَلَكَانِ بِالسِّحْرِ، لِيُعَلِّمَا [[في أ، و: "ليعلموا" وهو خطأ.]] النَّاسَ الْبَلَاءَ الذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ بِهِ النَّاسَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أُخِذَ عَلَيْهِمَا أَلَّا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ -أَيْ: بَلَاءٌ ابْتُلِينَا بِهِ- ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾
وَقَالَ [قَتَادَةُ وَ] [[زيادة من و.]] السُّدِّيُّ: إِذَا أَتَاهُمَا إِنْسَانٌ يُرِيدُ السِّحْرَ، وَعَظَاهُ، وَقَالَا لَهُ: لَا تَكْفُرْ، إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ. فَإِذَا أَبَى قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ، فبُلْ عَلَيْهِ. فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ فَسَطَعَ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ. وَأَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي مَسَامِعِهِ وكلِّ شَيْءٍ [مِنْهُ] [[زيادة من أ، و.]] . وَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ. فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ عَلَّمَاهُ السِّحْرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ سُنَيد، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السِّحْرِ إِلَّا كَافِرٌ.
وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فَهِيَ الْمِحْنَةُ وَالِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ فُتن النَّاسُ فِي دِينِهِمْ ... وخَلَّى ابنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلَا [[البيت في تفسير الطبري (٢/ ٤٤٤) وانظر هناك الاختلاف في قائله.]]
وَكَذَلِكَ [[في ط، ب، أ، و: "وكذا".]] قولُه تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ قَالَ: ﴿إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ﴾ أَيِ: ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ ﴿تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] [[في جـ، ط، ب، أ، و: "وتهدي من تشاء الآية".]] .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ، ويُستشهد لَهُ بِالْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عن هُمَامٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ [[في جـ، ط، ب، أ، و: "إسناد صحيح".]] وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرَ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ أَيْ: فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ مَا يَتَصَرَّفُونَ بِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَفَاعِيلُ الْمَذْمُومَةِ، مَا إِنَّهُمْ ليفَرِّقُون بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخُلْطَةِ وَالِائْتِلَافِ. وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الشَّيَاطِينِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [[في ب: "عنهما".]] عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: "إِنِ الشَّيْطَانَ لَيَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ، فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ [[في جـ: "وبين زوجه".]] قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: نِعْم أَنْتَ [[صحيح مسلم برقم (٢٨١٣) .]] .
وَسَبَبُ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالسِّحْرِ: مَا يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ سُوءِ مَنْظَرٍ، أَوْ خُلُقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ عَقد أَوْ بَغْضه، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفُرْقَةِ.
وَالْمَرْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّجُلِ، وَتَأْنِيثُهُ امْرَأَةٌ، وَيُثَنَّى كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَا يُجْمَعَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِلَّا بِتَخْلِيَةِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قَالَ: نَعَم، مَنْ شَاءَ اللَّهُ سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ لَمْ يُسَلَّطْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضُرَّ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّ هَذَا السِّحْرُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾ أَيْ: يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْعٌ يُوَازِي ضَرَرُهُ.
﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ أَيْ: وَلَقَدْ عَلِمَ الْيَهُودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا بِالسِّحْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ [[في أ: "متابعة الرسل".]] ﷺ لَمَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: مِنْ نَصِيبٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جِهَةٍ عِنْدِ اللَّهِ [[في أ: "ما له في الآخرة من خلاق".]] وَقَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ.
وَقَالَ سَعْدٌ [[في ط، ب، و: "سعيد".]] عَنْ قَتَادَةَ: ﴿مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِيمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّ السَّاحِرَ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":99,"ayahs":["وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰتࣲۖ وَمَا یَكۡفُرُ بِهَاۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقُونَ","أَوَكُلَّمَا عَـٰهَدُوا۟ عَهۡدࣰا نَّبَذَهُۥ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ","وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ","وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَیۡمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ كَفَرُوا۟ یُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَیۡنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَۚ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ یَقُولَاۤ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةࣱ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَیَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَاۤرِّینَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡا۟ بِهِۦۤ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ","وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَمَثُوبَةࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَیۡرࣱۚ لَّوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰتࣲۖ وَمَا یَكۡفُرُ بِهَاۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق