الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾ ، واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم، إذ رفعنا فوقكم الجبل. [[سلف شرحه لألفاظ هذه الآية: "ميثاق"، "الطور"، "الإيتاء"، "قوة"، فاطلبه في المواضع الآتية ٢: ١٥٦، ١٥٧، ١٦٠ والمراجع.]] وأما قوله: ﴿واسمعوا﴾ ، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر:"سمعت وأطعت"، يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال الراجز: السمع والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني ميمْ [[قائلة رجل من ضبة، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة ٥٥، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده. فقال الرجز. ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري ٦: ١٦٧) .]] يعني بقوله:"السمع"، قبول ما يسمع، و"الطاعة" لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: ﴿واسمعوا﴾ ، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك. * * * وأما قوله: ﴿قالوا سمعنا﴾ ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإن ذلك كما وصفنا، [[في المطبوعة: "مما وصفنا"، ليست شيئا.]] من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. [[انظر ما سلف ١: ١٥٣ - ١٥٤، وهذا الجزء ٢: ٢٩٣، ٢٩٤.]] فكذلك ذلك في هذه الآية، لأن قوله: ﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾ ، بمعنى: قلنا لكم، فأجبتمونا. * * * وأما قوله: ﴿قالوا سمعنا﴾ ، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. * ذكر من قال ذلك: ١٥٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل﴾ ، قال: أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. ١٥٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل﴾ ، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم. ١٥٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل﴾ ، قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. [[السحالة: ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما إذا سحلا، أي بردا بالمبرد.]] * ذكر من قال ذلك: ١٥٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، [[حرقه: برده بالمبرد، وانظر ما سلف من هذا الجزء ٢: ٧٤.]] ثم ذرّاه في اليم، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: ﴿وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم﴾ . [[الأثر: ١٥٦٤ - سلف برقم: ٩٣٧.]] ١٥٦٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية الماء، فشربوا حتى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: (وأشربوا في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه:"أشرب قلب فلان حب كذا"، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل ... والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء [[ديوانه: ٣٣٩، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب"فؤادك"، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال: "تدخله" وقال: "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع"فؤادك". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن.]] قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر"الحب" اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [سورة الأعراف: ١٦٣] ، ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ [يوسف: ٨٢] ، وكما قال الشاعر: [[هو طرفة بن العبد.]] ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا ... ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل [[ديوانه: ٣٤٣ (أشعار الستة الجاهليين) ، ونوادر أبي زيد: ٨٣، واللسان (سود) . واختلف فيما أراد بقوله: "أسود". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: "يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل ألا إنما أبكى ليوم لقيته ... بجرثم قاس، كل ما بعده جلل إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي - لا كذاب ولا علل ألا إنني. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويروى: "ألا بجلى من الحياة"، وهي أجود. . ورواية الديوان واللسان: (ألا إنني شربت) ، والتي هنا أجود. وقوله: "بجل"، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة.]] يعني بذلك سُمّا أسود، فاكتفى بذكر"أسود" عن ذكر"السم" لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله:"سقيت أسود". ويروى: ألا إنني سقيت أسود سالخا [[السالخ من الحيات: الأسود الشديد السواد، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام.]] وقد تقول العرب:"إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم"، [[هرم بن سنان، صاحب زهير بن أبي سلمى، وحاتم: هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر. وأكثر هذا في معاني القرآن للفراء ١: ٦١ - ٦٢.]] فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وإن جهادا طيئ وقتالها [[معاني القرآن للفراء ١: ٦٢، ومجالس ثعلب: ٧٦، واللسان (غزا) ، ونسبه لجميل، ولا أظنه إلا أخطأ، لذكر جميل في البيت، ولمشابهته لقول جميل: يقولون: جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد؟ ولكن البيت من شعر آخر، لم أهتد إليه بعد البحث، ويريد الأول: وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها، فحذف واجتزأ.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله، والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده. ومعنى"إيمانهم": تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله، إذْ قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله. فقالوا: نؤمن بما أنزل علينا. وقوله: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ ، أي: إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، [[انظر ما سلف في معنى"الإيمان" ١: ٢٣٥، ٢: ١٤٣ وغيرهما.]] وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب