الباحث القرآني

(p-٥٢)ثُمَّ ذَكَرَ أمْرًا آخَرَ هو أبْيَنُ في عِنادِهِمْ وأنَّهم إنَّما هم مَعَ الهَوى فَقالَ مُقْبِلًا عَلى خِطابِهِمْ لِأنَّهُ أشَدُّ في التَّقْرِيعِ: ﴿وإذْ أخَذْنا﴾ وأظْهَرَهُ في مَظْهَرِ العَظَمَةِ تَصْوِيرًا لِمَزِيدِ جُرْأتِهِمْ، ﴿مِيثاقَكُمْ﴾ عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ، ﴿ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾: الجَبَلَ العَظِيمَ الَّذِي جَعَلْناهُ زاجِرًا لَكم عَنِ الرِّضى بِالإقامَةِ في حَضِيضِ الجَهْلِ ورافِعًا إلى أوْجِ العِلْمِ، وقُلْنا لَكم وهو فَوْقَكم: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكُمْ﴾ مِنَ الأُصُولِ والفُرُوعِ في هَذا الكِتابِ العَظِيمِ ﴿بِقُوَّةٍ﴾ ولَمّا كانَتْ فائِدَةُ السَّماعِ القَبُولَ ومَن سَمِعَ فَلَمْ يَقْبَلْ كانَ كَمَن لَمْ يَسْمَعْ قالَ: ﴿واسْمَعُوا﴾ وإلّا دَفَنّاكم بِهِ، وذَلِكَ حَيْثُ يَكْفِي غَيْرَكم في التَّأْدِيبِ رَفْعُ الدِّرَّةِ والسَّوْطِ عَلَيْهِ فَيَنْبَعِثُ لِلتَّعَلُّمِ الَّذِي أكْثَرُ النُّفُوسِ الفاضِلَةِ تَتَحَمَّلُ فِيهِ المَشاقَّ الشَّدِيدَةَ لِما لَهُ مِنَ الشَّرَفِ ولَها بِهِ مِنَ الفَخارِ؛ (p-٥٣)ولَمّا ضَلُّوا بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ الكُبْرى وشِيكًا مَعَ كَوْنِها مُقْتَضِيَةً لِلثَّباتِ عَلى الإيمانِ بَعْدَ أخْذِ المِيثاقِ الَّذِي لا يَنْقُضُهُ ذُو مُرُوءَةٍ فَكانَ ضَلالُهم بَعْدَهُ مُنْبِئًا عَنْ أنَّ العِنادَ لَهم طَبْعٌ لازِمٌ فَكانُوا كَأنَّهم عِنْدَ إعْطاءِ العَهْدِ عاصُونَ قالَ مُتَرْجِمًا عَنْ أغْلَبِ أحْوالِ أكْثَرِهِمْ في مَجْمُوعِ أزْمانِهِمْ وهو ما عَبَّرَ عَنْهُ في الآيَةِ السّالِفَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ [البقرة: ٦٤] مُؤْذِنًا بِالغَضَبِ عَلَيْهِمْ بِالإعْراضِ عَنْ خِطابِهِمْ بَعْدَ إفْحامِهِمْ بِالمُواجَهَةِ في تَقْرِيعِهِمْ حَيْثُ ناقَضُوا ما قالَ لَهم مِنَ السَّماعِ النّافِعِ لَهم فَأخْبَرُوا أنَّهم جَعَلُوهُ ضارًّا، ﴿قالُوا سَمِعْنا﴾ أيْ: بِآذانِنا، ﴿وعَصَيْنا﴾ أيْ: وعَمِلْنا بِضِدِّ ما سَمِعْنا؛ وساقَهُ لِغَرابَتِهِ مَساقَ جَوابِ سائِلٍ كَأنَّهُ قالَ: رَفَعَ الطُّورَ فَوْقَهم أمْرٌ هائِلٌ جِدًّا (p-٥٤)مُقْتَضٍ لِلْمُبادَرَةِ إلى إعْطاءِ العَهْدِ ظاهِرًا وباطِنًا والثَّباتِ عَلَيْهِ فَما فَعَلُوا ؟ فَقِيلَ: بادَرُوا إلى خِلافِ ذَلِكَ، ﴿وأُشْرِبُوا﴾ فَأعْظَمَ الأمْرَ بِإسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِمْ ثُمَّ إلى قُلُوبِهِمْ، وهو مِنَ الإشْرابِ وهو مُداخَلَةُ نافِذَةٍ سائِغَةٍ كالشَّرابِ وهو الماءُ المُداخِلُ كُلِّيَّةَ الجِسْمِ لِلَطافَتِهِ ونُفُوذِهِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. وقالَ الكَشّافُ: وخَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ؛ ﴿فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ﴾ أيْ: حُبَّهُ وحَذَفَهُ لِلْإيذانِ بِشِدَّةِ التَّمَكُّنِ بِحَيْثُ صارَ المُضافُ هو المُضافُ إلَيْهِ ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ مَن أعْرَضَ عَنِ امْتِثالِ الأمْرِ اسْتَحَقَّ الإبْعادَ عَنْ مَقامِ الأُنْسِ. قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في المِفْتاحِ البابِ الثّامِنِ في وُجُوهِ بَيانِ الإقْبالِ والإعْراضِ في القُرْآنِ: اعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَرْبُوبٍ يُخاطَبُ بِحَسَبِ ما (p-٥٥)فِي وُسْعِهِ لَقِنُهُ ويُنْفى عَنْهُ ما لَيْسَ في وُسْعِهِ لَقِنُهُ فَلِكُلِّ سِنٍّ مِن أسْنانِ القُلُوبِ خِطابُ إقْبالٍ بِحَسَبِ لَقِنِهِ، ورُبَّما كانَ لَهُ إباءٌ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ فَيَقَعُ عَنْهُ الإعْراضُ بِحَسَبِ بادِي ذَلِكَ الإباءِ، ورُبَّما تَلافَتْهُ النِّعْمَةُ فَعادَ الإقْبالُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ ما دُونَ صَفاءِ الإقْبالِ الأوَّلِ، ورُبَّما تَناسَقَتِ الإقْبالاتُ مُتَرَتِّبَةً فَيَعْلُو البَيانُ والإفْهامُ بِحَسَبِ رُتْبَةِ مَن تَوَجَّهَ إلَيْهِ الإقْبالُ، ويَشْتَدُّ الإدْبارُ بِحَسَبِ بادِي الإدْبارِ، ورُبَّما تَراجَعَ لَفَفُ البَيانِ فِيها بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، فَخِطابُ الإقْبالِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ أعْظَمُ إفْهامٍ في القُرْآنِ، ﴿ألَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: ٤٥] الآيَةَ، ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا﴾ [الفرقان: ٤٧] الآيَةَ؛ تَفاوُتُ الخِطابَيْنِ بِحَسَبِ تَفاوُتِ المُخاطَبِينَ، ﴿أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّماواتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما﴾ [الأنبياء: ٣٠] أعْرَضَ عَنْهُما الخِطابَ ونَفى عَنْهم ما لَيْسَ في حالِهِمْ رُؤْيَتُهُ. ﴿خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وعَصَيْنا وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكم بِهِ إيمانُكُمْ﴾ خاطَبَهم وأمَرَهم، فَلَمّا عَصَوْا أعْرَضَ وجْهُ الخِطابِ عَنْهم ثُمَّ تَلافاهم بِخِطابِ لِسانِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ لَهم، واسْتَمَرَّ إعْراضُهُ هو تَعالى عَنْهم في تَمادِي الخِطابِ، ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١] تَنَزَّلَ الخِطابُ في الرُّتْبَتَيْنِ لِيُبَيِّنَ لِلْأعْلى ما يُبَيِّنُهُ لِلْأدْنى، ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكم وأطْهَرُ﴾ [المجادلة: ١٢] (p-٥٦)وهَذا البابُ عَظِيمُ النَّفْعِ في الفَهْمِ لِمَنِ اسْتَوْضَحَ بَيانَهُ والتِفافَ مَوارِدِهِ في القُرْآنِ، انْتَهى. والدَّلِيلُ الوُجُودِيُّ عَلى إشْرابِهِمْ حُبَّ العِجْلِ مُسارَعَتُهم إلى عِبادَةِ ما يُشْبِهُهُ في عَدَمِ الضَّرِّ والنَّفْعِ والصُّورَةِ، فَفي السِّفْرِ الرّابِعِ مِنَ التَّوْراةِ في قِصَّةِ بالاقَ مَلِكِ الأمُورانِيِّينَ الَّذِي اسْتَنْجَدَ بِلْعامَ بْنَ بَعُورَ ما نَصُّهُ: وسَكَنَ بَنُو إسْرائِيلَ ساطِيمَ، وبَدَأ الشَّعْبُ أنْ يَسْفَحَ بِبَناتِ مَوابَ ودَعَيْنَ الشَّعْبَ إلى ذَبائِحِ آلِهَتِهِمْ وأكَلَ الشَّعْبُ مِن ذَبائِحِهِمْ وسَجَدُوا لِآلِهَتِهِمْ وكَمَّلَ بَنُو إسْرائِيلَ العِبادَةَ بِعَلْيُونَ الصَّنَمِ واشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، انْتَهى. ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ وعِنادِهِمْ مَعَ وقاحَتِهِمْ بِادِّعاءِ الإيمانِ والِاخْتِصاصِ بِالجِنانِ أمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يَقُولَ لَهم عَلى وجْهِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ مُؤَكِّدًا لِذَمِّهِمْ بِالتَّعْبِيرِ بِما وُضِعَ لِمَجامِعِ الذَّمِّ فَقالَ: (p-٥٧)﴿قُلْ بِئْسَما﴾ أيْ: بِئْسَ شَيْئًا الشَّيْءُ الَّذِي ﴿يَأْمُرُكم بِهِ﴾ مِنَ الكُفْرِ ﴿إيمانُكُمْ﴾ هَذا الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ؛ وأوْضَحَ هَذا التَّهَكُّمَ بِقَوْلِهِ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّشْكِيكِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ عَلى ما زَعَمْتُمْ، فَحَصَلَ مِن هَذا أنَّهم إمّا كاذِبُونَ في دَعْواهم، وإمّا أنَّهم أجْهَلُ الجَهَلَةِ حَيْثُ عَمِلُوا ما لا يُجامِعُهُ الإيمانُ وهم لا يَعْلَمُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب