الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك، "بسم الله مجراها ومرساها". * * * وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: ﴿قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل﴾ = فحملهم نوح فيها = "وقال" لهم، " اركبوا فيها". فاستغني بدلالة قوله: ﴿وقال اركبوا فيها﴾ ، عن حمله إياهم فيها، فتُرك ذكره. * * * واختلفت القراء في قراءة قوله: ﴿بسم الله مجراها ومرساها﴾ ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ﴿بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" و"أرسى"، وكان فيه وجهان من الإعراب: أحدهما: الرفع بمعنى: بسم الله إجراؤها وإرساؤها = فيكون "المجرى" و"المرسى" مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله: ﴿بسم الله﴾ . والآخر: النصب، بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها = فيكون قوله: ﴿بسم الله﴾ ، كلامًا مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: "بسم الله"، ثم يكون "المجرى" و"المرسى" منصوبين على ما نصبت العرب قولهم: "الحمد لله سِرارَك وإهلالك"، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم قالوا: "الحمد لله أوّل الهلال وآخره"، ومسموع منهم أيضا: "الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك". [[قال الفراء في معاني القرآن، بعد ذلك: " يريدون: ما بين إهلالك إلى سرارك ".]] * * * وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ، بفتح الميم من "مجراها"، وضمها من "مرساها"، فجعلوا "مجراها" مصدرًا من "جري يجري مَجْرَى"، و"مرساها" من "أرسَى يُرْسي إرساء". [[انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف ١٣: ٢٩٣.]] وإذا قرئ ذلك كذلك، كانَ في إعرابهما من الوجهين، نحو الذي فيهما إذا قرئا: ﴿مُجراها ومُرساها﴾ ، بضم الميم فيهما، على ما بيَّنتُ. * * * وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: ﴿بِسْمِ اللهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا﴾ ، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب، لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها = ف"المجرى" نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه الثاني، لأنه يحسن دخول الألف واللام في "المجري" و"المرسي"، كقولك: "بسم الله المجريها والمرسيها"، وإذا حذفتا نصبتا على الحال، إذ كان فيهما معنى النكرة، وإن كانا مضافين إلى المعرفة. * * * وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: ﴿مَجْرَاهَا ومَرْسَاهَا﴾ ، بفتح الميم فيهما جميعا، من "جرى" و"رسا"، كأنه وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين للفلك، كما قال عنترة: فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفَسُ الجبَانِ تَطَلّعُ [[ديوانه: ٨٩ من أبيات، يقول قبله، يذكر الغراب، ويتشاءم به. إنَّ الَّذِينَ نَعَبْتَ لِي بِفِرَاقِهِمْ ... قَدْ أَسْهَرُوا لَيْلَ التِّمَامِ وأوْجَعُوا وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي ... لا يُنْجِنِي مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذَلِكَ حُرَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . و" نفس عارفة "، حاملة الشدائد صبور، إذا حملت على أمر احتملته، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة. و" ترسو "، تثبت. و" تطلع "، تنزو متلفتة إلى مهرب، أو ناصر، من الجزع والرعب.]] * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا﴾ ، بفتح الميم ﴿وَمُرْسَاهَا﴾ ، بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي. وإنما اخترت الفتح في ميم "مجراها" لقرب ذلك من قوله: ﴿وهي تَجْري بهم في موج كالجبال﴾ ، ولم يقل: "تُجْرَى بهم". ومن قرأ: ﴿بسم الله مُجْراها﴾ ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ: "وهي تُجْرى بهم". وفي إجماعهم على قراءة ﴿تَجْرِي﴾ ، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في ﴿مجراها﴾ فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في ﴿مرساها﴾ ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها. ومعنى قوله ﴿مجراها﴾ ، مسيرها = ﴿ومرساها﴾ ، وقفها، من وقَفَها الله وأرساها. * * * وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعًا. ١٨١٨٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = ١٨١٨٣-. . .. قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون. ١٨١٨٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون. ١٨١٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ ، قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون. ١٨١٨٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، في قوله: ﴿اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها﴾ قال: إذا أراد أن ترسي قال: "بسم الله " فأرست، وإذا أراد أن تجري قال "بسم الله " فجرت. * * * وقوله: ﴿إن ربي لغفور رحيم﴾ ، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. [[انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب