الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أمّا قَوْلُهُ: ﴿وقالَ﴾ يَعْنِي: نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ لِقَوْمِهِ: ﴿ارْكَبُوا﴾ والرُّكُوبُ العُلُوُّ عَلى ظَهْرِ الشَّيْءِ، ومِنهُ رُكُوبُ الدّابَّةِ ورُكُوبُ السَّفِينَةِ ورُكُوبُ البَحْرِ، وكُلُّ شَيْءٍ عَلا شَيْئًا فَقَدْ رَكِبَهُ، يُقالُ: رَكِبَهُ الدَّيْنُ. قالَ اللَّيْثُ: وتُسَمِّي العَرَبُ مَن يَرْكَبُ السَّفِينَةَ راكِبَ السَّفِينَةِ. وأمّا الرُّكْبانُ والرَّكْبُ مَن رَكِبُوا الدَّوابَّ والإبِلَ. قالَ الواحِدِيُّ: ولَفْظَةُ ”فِي“ في قَوْلِهِ: ﴿ارْكَبُوا فِيها﴾ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن صِلَةِ الرُّكُوبِ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: رَكِبْتُ السَّفِينَةَ ولا يُقالُ: رَكِبْتُ في السَّفِينَةِ، بَلِ الوَجْهُ أنْ يُقالَ: مَفْعُولُ ارْكَبُوا مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ ارْكَبُوا الماءَ في السَّفِينَةِ، وأيْضًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فائِدَةُ هَذِهِ الزِّيادَةِ أنَّهُ أمَرَهم أنْ يَكُونُوا في جَوْفِ الفُلْكِ لا عَلى ظَهْرِها، فَلَوْ قالَ: ارْكَبُوها لَتَوَهَّمُوا أنَّهُ أمَرَهم أنْ يَكُونُوا عَلى ظَهْرِ السَّفِينَةِ. (p-١٨٣)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ”مَجْراها“ بِفَتْحِ المِيمِ والباقُونَ بِضَمِّ المِيمِ، واتَّفَقُوا في ”مُرْساها“ أنَّهُ بِضَمِّ المِيمِ، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَرَأ مُجاهِدٌ: ”مُجْرِيها ومُرْسِيها“ بِلَفْظِ اسْمِ الفاعِلِ مَجْرُورَيِ المَحَلِّ صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعالى. قالَ الواحِدِيُّ: المَجْرى مَصْدَرٌ كالإجْراءِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿مُنْزَلًا مُبارَكًا﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٢٩] ﴿أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ [الإسْراءِ: ٨٠] وأمّا مَن قَرَأ: ”مَجْراها“ بِفَتْحِ المِيمِ، فَهو أيْضًا مَصْدَرٌ مِثْلُ الجَرْيِ. واحْتَجَّ صاحِبُ هَذِهِ القِراءَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ [هُودٍ: ٤٢] ولَوْ كانَ مُجْراها لَكانَ وهي تُجَرِّيهِمْ، وحُجَّةُ مَن ضَمَّ المِيمَ أنَّ جَرَتْ بِهِمْ وأجْرَتْهم يَتَقارَبانِ في المَعْنى، فَإذا قالَ: ﴿تَجْرِي بِهِمْ﴾ [هُودٍ: ٤٢] فَكَأنَّهُ قالَ: تُجَرِّيهِمْ، وأمّا المُرْسى فَهو أيْضًا مَصْدَرٌ كالإرْساءِ. يُقالُ: رَسا الشَّيْءُ يَرْسُو إذا ثَبَتَ وأرْساهُ غَيْرُهُ، قالَ تَعالى: ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ [النّازِعاتِ: ٣٢] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ تَجْرِي بِسْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، وتَرْسُو بِسْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، وقِيلَ: كانَ إذا أرادَ أنْ تَجْرِيَ بِهِمْ قالَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها﴾ فَتَجْرِي، وإذا أرادَ أنْ تَرْسُوَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ مُرْساها فَتَرْسُو. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في عامِلِ الإعْرابِ في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ وُجُوهًا: الأوَّلُ: ارْكَبُوا بِسْمِ اللَّهِ. والثّانِي: ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّهِ. والثّالِثُ: بِسْمِ اللَّهِ إجْراؤُها وإرْساؤُها. وقِيلَ: إنَّها سارَتْ لِأوَّلِ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ، وقِيلَ: لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِن رَجَبٍ، فَصارَتْ سِتَّةَ أشْهُرٍ، واسْتَوَتْ يَوْمَ العاشِرِ مِنَ المُحَرَّمِ عَلى الجُودِيِّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ احْتِمالانِ: الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ كَلامًا واحِدًا، والتَّقْدِيرُ: وقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ مَجْراها ومُرْساها، يَعْنِي يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الرُّكُوبُ مَقْرُونًا بِهَذا الذِّكْرِ. والِاحْتِمالُ الثّانِي: أنْ يَكُونا كَلامَيْنِ، والتَّقْدِيرُ: أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَهم بِالرُّكُوبِ، ثُمَّ أخْبَرَهم بِأنَّ مَجْراها ومُرْساها لَيْسَ إلّا بِسْمِ اللَّهِ وأمْرِهِ وقُدْرَتِهِ. فالمَعْنى الأوَّلُ: يُشِيرُ إلى أنَّ الإنْسانَ لا يَنْبَغِي أنْ يَشْرَعَ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ إلّا ويَكُونُ في وقْتِ الشُّرُوعِ فِيهِ ذاكِرًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعالى بِالأذْكارِ المُقَدَّسَةِ حَتّى يَكُونَ بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الذِّكْرِ سَبَبًا لِتَمامِ ذَلِكَ المَقْصُودِ. والمَعْنى الثّانِي: يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمّا رَكِبَ السَّفِينَةَ أخْبَرَ القَوْمَ بِأنَّ السَّفِينَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ النَّجاةِ، بَلِ الواجِبُ رَبْطُ الهِمَّةِ وتَعْلِيقُ القَلْبِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى، وأخْبَرَهم أنَّهُ تَعالى هو المُجِرِي والمُرْسِي لِلسَّفِينَةِ، فَإيّاكم أنْ تُعَوِّلُوا عَلى السَّفِينَةِ، بَلْ يَجِبُ أنْ يَكُونَ تَعْوِيلُكم عَلى فَضْلِ اللَّهِ؛ فَإنَّهُ هو المُجِرِي والمُرْسِي لَها، فَعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ كانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وقْتَ رُكُوبِ السَّفِينَةِ في مَقامِ الذِّكْرِ، وعَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي كانَ في مَقامِ الفِكْرِ والبَراءَةِ عَنِ الحَوْلِ والقُوَّةِ وقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الأسْبابِ واسْتِغْراقِ القَلْبِ في نُورِ جَلالِ مُسَبِّبِ الأسْبابِ. واعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ إذا تَفَكَّرَ في طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى بِالدَّلِيلِ والحُجَّةِ فَكَأنَّهُ جَلَسَ في سَفِينَةِ التَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ، وأمْواجُ الظُّلُماتِ والضَّلالاتِ قَدْ عَلَتْ تِلْكَ الجِبالَ وارْتَفَعَتْ إلى مَصاعِدِ القِلالِ. فَإذا ابْتَدَأتْ سَفِينَةُ الفِكْرَةِ والرَّوِيَّةِ بِالحَرَكَةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ هُناكَ اعْتِمادُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى وتَضَرُّعُهُ إلى اللَّهِ (p-١٨٤)تَعالى، وأنْ يَكُونَ بِلِسانِ القَلْبِ ونَظَرِ العَقْلِ. يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها حَتّى تَصِلَ سَفِينَةُ فِكْرِهِ إلى ساحِلِ النَّجاةِ وتَتَخَلَّصَ عَنْ أمْواجِ الضَّلالاتِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَفِيهِ سُؤالٌ، وهو أنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ وقْتُ الإهْلاكِ وإظْهارِ القَهْرِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذا الذِّكْرُ ؟ وجَوابُهُ: لَعَلَّ القَوْمَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِمْ أنّا إنَّما نَجَوْنا بِبَرَكَةِ عِلْمِنا، فاللَّهُ تَعالى نَبَّهَهم بِهَذا الكَلامِ لِإزالَةِ ذَلِكَ العَجَبِ مِنهم، فَإنَّ الإنْسانَ لا يَنْفَكُّ عَنْ أنْواعِ الزَّلّاتِ وظُلُماتِ الشَّهَواتِ، وفي جَمِيعِ الأحْوالِ فَهو مُحْتاجٌ إلى إعانَةِ اللَّهِ وفَضْلِهِ وإحْسانِهِ، وأنْ يَكُونَ رَحِيمًا لِعُقُوبَتِهِ غَفُورًا لِذُنُوبِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب