الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ۝﴾ [هود: ٤١]. في هذه الآيةِ: استحبابُ ذِكْرِ اللهِ عندَ ركوبِ الدابَّةِ والسفينةِ والطائرةِ وغيرِ ذلك، ولم يكنْ ذلك مقيَّدًا بسَفَرٍ، فنُوحٌ لم يكنْ مسافِرًا قاصدًا جهةً معيَّنةً، ولكنَّه كان راكبًا طلبًا للسلامةِ مِن الغرَقِ، ثمَّ إنّ ذِكْرَ اللهِ عُلِّقَ بالركوبِ هنا: ﴿ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ﴾، وكذلك في سورةِ الزُّخْرُفِ قال: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ۝﴾ [١٣ ـ ١٤]، فجعَلَ الاستواءَ على ظَهْرِ المركوبِ مُوجِبًا للذِّكْرِ، والراكبُ يَركَبُ دابَّتَهُ في الحَضَرِ وفي أطرافِ المدينةِ، ولو كان ذلك مخصوصًا بركوبِ السفَرِ، لجاءَ تقييدُهُ بما تُقصَرُ فيه الصلاةُ، ولجَرى في كلامِ الصحابةِ والتابِعِين. الفَرْقُ بينَ ذِكْرِ الرُّكُوبِ ودُعاءِ السَّفَرِ ورُكُوبِه: والواردُ عندَ السفَرِ ذِكْرٌ ودُعاءٌ، والواردُ عندَ الركوبِ مِن غيرِ سفَرٍ ذِكرٌ فقطْ: فأمّا ذِكْرُ السفَرِ ودعاؤُهُ: فكما جاء في «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ كانَ إذا اسْتَوى عَلى بَعِيرِهِ خارِجًا إلى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا، وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العَمَلِ ما تَرْضى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنا سَفَرَنا هَذا، واطْوِ عَنّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أنْتَ الصّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِن وعْثاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ المَنظَرِ، وسُوءِ المُنْقَلَبِ فِي المالِ والأَهْلِ)، وإذا رَجَعَ قالَهُنَّ، وزادَ فِيهِنَّ: (آيِبُونَ تائِبُونَ عابِدُونَ، لِرَبِّنا حامِدُونَ)[[أخرجه مسلم (١٣٤٢).]]. فهذا بتمامِهِ يكونُ للسفَرِ خاصَّةً، لظاهِرِ الحديثِ، فقد قيَّدَهُ بإرادتِهِ الخروجَ إلى السفَرِ، وللعِلَلِ ومقاصدِ الدُّعاءِ المذكورةِ فيه، منها قولُه: (نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى)، وطلبُ تهوينِهِ عليهم، والاستعاذةُ مِن وعْثائِه، وطلبُ الصُّحْبَةِ فيه، وطَيِّ بُعْدِه، والاستخلافِ بَعْدَه، ثمَّ الاستعاذةُ مِن سُوءِ المُنقلَبِ، وذِكْرُ الأَوْبَةِ والرَّجْعَةِ بعدَ ذلك. وأمّا ذِكْرُ الركوبِ، فكما في هذه الآيةِ: ﴿ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ﴾، وفي آيةِ الزُّخْرُفِ: ﴿وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ والأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ۝﴾ [١٢ ـ ١٤]. وقد جاء العملُ بالآيتَيْنِ عندَ الركوبِ في السُّنَّةِ، كما في حديثِ عليِّ بنِ رَبِيعةَ، قال: شَهِدتُّ عليًّا ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ وأُتِيَ بِدابَّةٍ لِيَرْكَبَها، فَلَمّا وضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكابِ، قالَ: «بِسْمِ اللهِ»، فَلَمّا اسْتَوى عَلى ظَهْرِها، قالَ: «الحَمْدُ للهِ»، ثُمَّ قالَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ۝﴾ [الزخرف: ١٣ ـ ١٤]، ثُمَّ قالَ: «الحَمْدُ للهِ» ـ ثَلاثَ مَرّاتٍ ـ ثُمَّ قالَ: «اللهُ أكْبَرُ» ـ ثَلاثَ مَرّاتٍ ـ ثُمَّ قالَ: «سُبْحانَكَ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فاغْفِرْ لِي، فَإنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ»، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقِيلَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مِن أيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَ كَما فَعَلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، مِن أيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟»، قالَ: (إنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِن عَبْدِهِ إذا قالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي)[[أخرجه أحمد (١/٩٧)، وأبو داود (٢٦٠٢)، والترمذي (٣٤٤٦)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٨٧٤٨).]]. رواهُ أحمدُ وأصحابُ السنن، مِن حديثِ أبي إسحاقَ عن عليِّ بنِ ربيعةَ، به، وقد أُعِلَّ بعدمِ سماعِ عليِّ بنِ ربيعةَ الحديثَ مِن عليٍّ، أعَلَّه الثوريُّ ويحيى القَطّانُ[[«علل الحديث» لابن أبي حاتم (٣ /٢٠٢).]]، وفي بعضِ الرِّواياتِ يقولُ: أخبَرَني مَن شَهِدَ عليًّا[[أخرجه أحمد (١ /١١٥).]]، وذكَرَ ثبوتَ أصلِ سماعِه البخاريُّ[[«التاريخ الكبير» للبخاري (٦ /٢٧٣).]]. وقد أُعِلَّ بعدمِ سماعِ أبي إسحاقَ له مِن عليِّ بنِ ربيعةَ، قال ابنُ مهديٍّ: قال شُعْبةُ: قلتُ لأبي إسحاقَ: ممَّن سمِعتَهُ؟ قال: مِن يُونُسَ بنِ خبّابٍ؟ فأتيتُ يونُسَ بنَ خبّابٍ، فقلتُ: ممَّن سمِعتَهُ؟ فقال: مِن رجلٍ رواهُ عن عليِّ بنِ ربيعةَ[[«علل الحديث» لابن أبي حاتم (٣ /٢٠٤).]]. وقد رواهُ عن عليِّ بنِ ربيعةَ: عمرُو بنُ المِنهالِ والحَكَمُ، وطرُقُهُمْ ضعيفةٌ. والدُّعاءُ يكونُ عندَ السفرِ حتى لو لم يكنْ ركوبٌ، كمَن يُسافِرُ على قدمَيْهِ ماشيًا، فإنّه يذكُرُ الدُّعاءَ ولا يقولُ ذِكْرَ الركوبِ، ومَن كان راكبًا في حَضَرٍ غيرَ مُسافرٍ، فإنّه يذكُرُ الذِّكرَ ولا يقولُ الدُّعاءَ. وإنّما ذكَرَ اللهُ الفُلْكَ في الآيةِ، وساقَ العلماءُ حديثَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ في سياقِ السفرِ في كُتُبِهِمْ كأبي داودَ والتِّرْمِذيِّ والنَّسائيِّ وابنِ حِبّانَ، لأنّ غالبَ أحوالِ الناسِ عدمُ الرُّكُوبِ داخِلَ مُدُنِهم وقُراهُم، وكانتْ مُدُنُهم صغيرةً وبيوتُهم مُتقارِبةً، ولم يكنِ الناسُ على الحالِ اليومَ مِن اتِّساعِ المُدُنِ والبُلْدانِ، وكثرةِ الركوبِ في الحَضَرِ أكثَرَ مِن السفرِ، بخلافِ الأوائلِ الذين يَركَبونَ في السفرِ أكثَرَ مِن الحَضَرِ، فأُجْرِيَتْ أحاديثُ الركوبِ مُجْرى الأسفارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب