الباحث القرآني

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ يقول: أطيعوا الله حق طاعته، وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين، وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية. هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل، وغيرهم من المفسرين: أن هذه الآية منسوخة. وقال بعضهم: لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة، لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه، ولكن الجواب أن يقال عن هذا إنهم يطيقونه، ولكن تلحقهم مشقة شديدة، ولأن ذلك مجهود الطاقة، ولا يستطيعون الدوام عليه، والله تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقون، فخفَّف عنهم بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ولم ينسخ آخر الآية أولها، وهو قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني اثبتوا على الإسلام، وكونوا بحال يلحقكم الموت، وأنتم على الإسلام وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يقول: تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن. ويقال: تمسكوا بسبيل السنة والهدى، وَلا تَفَرَّقُوا. يقول: ولا تختلفوا في الدين، كاختلاف اليهود والنصارى. ويقال: لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً يعني: اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة. ويقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، يعني ما اشتبه عليكم، فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقال بعض الحكماء: إن مثل من في الدنيا، كمثل من وقع في بئر، فيها من كل نوع من الآفات، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق، فكذلك الدنيا دار محنة، وفيها كل نوع من الآفات، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق، وهو كتاب الله تعالى. ثم ذكَّرهُم نعمته فقال تعالى: اذْكُرُوا نعمتي واحفظوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهلية فَأَلَّفَ الله بَيْنَ قُلُوبِكُمْ يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً يقول: فصرتم بنعمة الإسلام إِخْواناً في الدين، وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم، معناه صِرْتم، كقوله: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً [الكهف: 41] أي صار ماؤكم غوراً، وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً، حتى كادوا أن يتفانوا، فلما بعث النبيّ ﷺ بمكة آمن به الأوس والخزرج، وهم بالمدينة، ثم خرج إلى رسول الله ﷺ بمكة، قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً، فخرج رسول الله ﷺ، ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة إلى سبعين رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة، وهاجر النبيّ ﷺ إليهم بعد الحولين، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ، وزالت عنهم العداوة التي كانت بينهم في الجاهلية بالإسلام، وهذا كما ذكر في آية أخرى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63] . وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار: أحدهما من الأوس، والآخر من الخزرج، تفاخرا فيما بينهما، واقتتلا، فاستعان كل واحد منهما بقومه، فاجتمعت الأوس والخزرج، وأخذوا السلاح، وخرجوا للحرب، فبلغ الخبر إلى رسول الله ﷺ، فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين، وهو راكب على حمار له قال جابر: فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله ﷺ، إذ طلع علينا، فأومأ إلينا بيده، فكففنا، ووقف بيننا على حمار له فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ إلى قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ فَأَلْقوا السلاح وأطفؤوا الحرب التي كانت بينهم، وعاتق بعضهم بعضاً يبكون، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية. ثم قال تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ قال القتبي: أشفى على كذا إذا أشرف عليه شَفا حُفْرَةٍ، أي حرف حفرة، ومعناه وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بعد ما كنتم على حرف من النار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضلالة، وتعرفوا علامته بهذه النعمة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ فهذه لام الأمر كقوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً [الكهف: 110] يعني لتكن منكم أمة. قال الكلبي: يعني جماعة. وقال مقاتل: يعني عصبة وقال الزجاج ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير ومن هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس، وهي مؤكدة كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وقوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ يعني إلى الإسلام. ويقال: إلى جميع الخيرات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ قال الكلبي: يعني باتباع محمد ﷺ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الجبت والطاغوت. ويقال: المنكر، يعني العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة. ويقال: ما لا يصلح في العقل. وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلاً يخرج عن الاختلاف، أي اختلاف العلماء. ويقال: إنما أمر بعض الناس بقوله، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ، ولم يأمر جميع الناس، لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف، وإنما يجب على من يعلم. ويقال: إن الأمراء، يجب عليهم الأمر والنهي باليد، والعلماء باللسان، والعوام بالقلب، وهنا كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا رَأَى أَحَدٌ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ» . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بحسب امرئ إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير أن يعلم الله من قلبه أنه كاره. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: أن الرجل إذا رأى منكراً، لا يستطيع النكير عليه، فليقل ثلاث مرات: اللهم إِنَّ هذا منكر، فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه. ثم قال تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون. ويقال: فازوا بالنعيم. ثم قال: وَلا تَكُونُوا في الاختلاف كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وهم اليهود والنصارى وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ فافترقت اليهود فرقاً والنصارى فرقاً، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، ثم خوفهم فقال: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني دائم لا يرفع عنهم أبداً، يعني الذين اختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات، أي العلامات في أمر محمد ﷺ، وبيان الطريق. ثم بَيَّن منازل الذين تفرقوا، والذين لم يتفرقوا فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم. ويقال: إن ذلك عند قوله تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس، 59] تكون وجوه المؤمنين مُبْيَضّة، ووجوه الكفار مُسْوَدَّة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذا قرأ المؤمن كتابه، فرأى في كتابه حسناته، استبشر وابيضّ وجهه، وإذا قرأ المنافق والكافر كتابه، فرأى فيه سيئاته، اسودّ وجهه. ويقال: إن ذلك عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه. ويقال: إذا كان يوم القيامة يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم، فإذا انتهوا إليه حزنوا، واسودّت وجوههم، فيبقى المؤمنون، وأهل الكتاب والمنافقون، فيقول الله تعالى للمؤمنين: من ربكم؟ فيقولون: ربنا الله عزّ وجلّ. فيقول لهم: أتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: سبحانه إذا عرفنا، عرفناه فيرونه كما شاء الله، فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً، وبقي المنافقون وأهل الكتاب، لا يقدرون على السجود، فحزنوا واسودّت وجوههم، فذلك قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعني يقال لهم: أكفرتم؟ ولكن حُذِفَ القول، لأن في الكلام دليلاً عليه بعد إيمانكم، يعني يوم الميثاق. قالوا: بَلَى، يعني المرتدين والمنافقين. ويقال هذا لليهود، وكانوا مؤمنين بمحمد ﷺ، قبل أن يُبْعث، فلما بُعث كفروا به. وقال أبو العالية: هذا للمنافقين خاصة. يقول: أكفرتم في السرّ بعد إيمانكم، أي مع إقراركم في العلانية فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بمحمد ﷺ وبالقرآن. حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدّثنا عباد بن الوليد قال: حدّثنا محمد بن عباد البنائي قال: حدّثنا حميد بن الخياط قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فقال: حدّثنا أبو أمامة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إنَّهُمُ الخَوَارِجُ» وسألته عن قوله: لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] قال: إنهم الخوارج قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في جنة الله قال الزجاج: يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة الله تعالى، لأن الجنة تُنَالُ برحمته، ولا تُنَال بالجهد، وإن اجتهد المجتهد، لأن نعمة الله تعالى لا يكافئها عمل، ففي رحمة الله أي في ثواب الله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ أي دائمون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب